بعيد وقريب سيظل قلبك ينبض ويظل قلبي ينبض لكن بعيداً بعيداً! ستظل النسمات الحلوة تمرُّ علي الأرض وترحل هكذا بعيداً بعيداً! ستظل النجوم تتلألأ هكذا بعيداً بعيداً! سيظل كل شئ هكذا بعيداً بعيداً! لكن الرغبة في حبِّك، هذي الأغنية الوحشيَّة، ستظل دوماً في قلبي قريبةً قريبةً. أتذكَّرُ بيْتِي لِمَ لا تنضمُّ الأرض وتصير نقطة واحدة؟ قل لي! لِمَ كانت هذه السَّماء الواسعة تفتن قلبي آنذاك؟ كلُّ مَن حولي الآن أناس غرباء وكلامهم الغريب إما أن يذهب عن قلبي جُفَاءً أو ينغرز في صدري منجرفاً مع تيار هذا الكلام يطفو قاربي دوْماً، لا يهتدي إلي شاطئ عليَّ أن أبتسم في وجه كلِّ مَن ألقاه وينطق فاهي "أعرفك" بينا يستنكر قلبي "متي عرفته؟" فوق هذه الأمواج أطفو لا أهتدي إلي شاطئ لِمَ لا تنضم الأرض وتصير نقطة واحدة؟ قل لي! ما كانت أعذبَها ابتسامة، تلك ابتسامة أختي، أخي أيضاً كان يضحك، يمزح، فتضحك أختي وتقول في نفسها: ما ألطفَ مزاحِ أخي، لقد أضحك أبوينا لكن هكذا ينسرب الزمن ويصير الشاطئ أُضْحوكة لا هتدي إلي شاطئ! لِمَ لا تنضم الأرض وتصير نقطة واحدة؟ قل لي! أيُّ دوامة هذه، علَّها ليست دوَّامة القدر، لكن لِمَ كانت هذه السماء الواسعة تفتن قلبي آنذاك؟ حياة الجميع العابرة تنساب دوماً وأنا أيضاً أحدِّق في كل وجه أيضحك أم يبتسم؟ فيلوح لي هذا يضحك وذاك يبكي أراهم جميعاً، وألوذ بالصمت دوماً لا أهتدي إلي شاطئ! نداء البحر تقول هذه الهمَسات: تعال الآن فأنا أناديك مراراً منذ سنين حتي أنهك قلبي الإعياء تناهت من قبلُ إلي سمعي أصواتٌ للحظة تارة ولأمد تارة لكن يتناهي إلي سمعي تواً هذا الصوت الغريب ما من أحد أنهكه تكرار نداء قط, ولعله لن يُنهك أحداً، "يا بُني العزيز".. "ما أحبَّك إليَّ!".. "فاعلم" إنْ هكذا فعلت ستراني أبشعَ ما في الكون... "يا إلهي، يا إلهي!" نشجة، أو بسمة أحياناً، أو حتي محض عُبوسة لكن ما زالت هذي الأصوات تتدفق وقد تلاقت عبرها حياة فانية بالأبدية لكن هذا الصوت الغريب الذي أنهكه الإعياء راح يهدِّد دوماً بإبادة كل الأصوات الآن ما من رفَّة جفن ولا بسمة أو عُبوسة وجه فقط ثمة آذان تُصغي باستمرار هذه حديقة.... يتمايل فيها النسيم، وتتفتَّق الأكمام، تعبق البراعم بالشَّذي، وتتفتَّح الأزهار مراراً ثم تذبل وتتساقط، فَتُشَكِّل بِساطاً مخمليًّا تنساب عليه جنِّيَّاتُ رغباتي يتبخترن بأناقة مدهشة كأن الحديقة مرآة، انعكس عليها كل شكل ، فتزيَّن ثم امَّحي وتلاشي إلي الأبد هذا جبل....صامت، ساكن، يفور فيه أحياناً نبعٌ يتسائل ماذا علي الجانب الآخر من صخوره؟ أما أنا فيكفيني سفح الجبل، وفي السَّفح واد، وفي الوادي نهر، وفي النهر ينساب قاربٌ مرآة ، انعكس عليها كل شكل، لكنه يتلاشي في لمحة فلا يعاود الظهور إلي الأبد هذه صحراء....شاسعة، جدباء، جرداء زوابعها صورة متجسِّدة لأشباح شرسة لكنني بعيدٌ....نظراتي مثبَّتةٌ علي أيكة أشجار الآن ما من صحراء، أو جبل، أو حديقة الآن ما من رفَّة جفن ولا بسمةِ ولا عُبوسةِ وجه فقط صوت غريب, يقول: أناديك مراراً حتي أنهك قلبي الإعياء، ما من أحد أنهكه تكرار نداء قط, ولعله لن يُنهك أحدا فهذا الصوت إذن مرآة، وأنا منهك فقط ما من صحراء، أو جبل، أو حديقة، فقط البحر يناديني الآن إن كل ما نبع من البحر، إليه سوف يعود. رحيل لمحتُها فقط ثم فقدتها، حين تجلَّي الجمال لعينيَّ هبَّت عاصفة في بحر الروح رأت العاصفةَ هائجةً فارْتعبت. فاض جنجا السماء بالحليب، تواري القمر ونامت النجوم، امَّحت العاصفة، وانقضي كلُّ شئ نسي القلب عبادته الأولي، وتحطَّم تمثال معبد الروح أقبل النهار بأشياء مجهولة، ثم تجدَّد وتجدَّد معه الليل، تجدَّدت العشيقة، وتجدَّد العاشق، تجدَّد الفراش الوثير وتجدَّد كل شئ، للحظة واحدة فقط لاحت لعينيّ تتألَّق بجمالها الصافي ثم فقدتها، لا تتعرَّف إليّ فأنت أفَّاق، أفَّاق لماذا؟ وكيف؟ كيف؟! أثَناء لحظة واحدة لا تعدِّينهُ ثَناءً؟ حديث القلوب، وحوار العيون، لمَ تعتبريه هوساً؟ أينما وقدرما وُجد التجلِّي أدْفِئ به قلبَك. ما دامت الأرض وما دام الزمان سيظل هذا الجمال والبهاء موصولاً! فدعيني ألمح هذه الومضة البارقة بنظرة مختلِسة مفعماً بها قلبي نحن مسافرون في هذه الدنيا والقافلة تسير في كل آن، كلُّ بلدة، وكلُّ غابة، وكلُّ فلاةٍ وكلُّ روعةٍ شكلية لأيِّ جبل قد تخلب ألبابنا، وتلوح لمرآنا، ولو للحظة واحدة، كلُّ منظر، وكلُّ لطافة إنسان، وكل سحر عذب للمرأة سيتسنَّي لنا للحظة واحدة، وبمرورها ، يمَّحي كل شئ، فدعيني ألمح هذه الومضة البارقة بنظرة مختلِسة مفعماً بها قلبي. لم تعتبريه هوساً ؟ أثَناء لحظة واحدة لا تعدِّينه ثَناءً؟ يتجلي القمر علي الأفق للحظة، وتمر عليه النجوم في لحظة، وكذا بُرْهَة العمر- إن تأمَّلتِ- لحظة! حافَّة نهرٍ ملآن جلستْ لحظةً ثم نهضتْ لم تر عيني سوي إلهة جالسة، لم يتسنَّ لبصري أن يلمح كيف ومض السيف، وصار صدر الأرض مثل نبعٍ فوَّارٍ للمحة واحدة. متماوجةً اجتاحت قلبي هذي الأمنية ليت هذه الشجيراتِ الشائكةَ سلسلةُ جبال. علي سفْحها أقف أنا بثبات. إنْ يتحقَّق مثل هذا المستحيل فلم لا يستحيل سرير الأوراق الجافَّة المفروش علي الأرض إلي آلة طرب ... إيقاع، موسيقي اللحن الذي انتبهتْ إليه أذنك توّاً، ولم يتسنَّ لها أن تسمعه، بل حُرمت من سماعه لم تسجِّل شبكيَّة عيني في أغوار عقلي سوي إلهة جالسة. أتذكَّر أن ... أذناي كانتا تنتبهان حين يتناهي إليهما صوت تململ من خشخشة الأوراق الجافَّة وكلُّ طيَّة في السَّفح تومض، عله كان يسقط عليها ظل ذاك السيف الذي انسلَّ في لمحةٍ من موضع مستور كما يلمع البرق بغتةً بارتجال لكن امَّحت كل طيَّةٍ في هذا السَّفح الرطيب. اختفت عروس البحر حالما رأيتها، ظللت واقفاً، لم ألمح (للأسف!) كيف ومض السيف، وصار صدر الأرض مثل نبع فوَّار للمحة واحدة. أنا لست واقفاً الآن علي السَّفح ولا الشجيرات الشائكة سلسلة جبال، بل هي حجاب يتراءي لي علي جانبه الآخر منظر غريب يتلألأ، صورة عروس نقيَّة مصُونة نعم، أتخيل نفسي الآن عريساً وسأصحبها إلي الموضع المستور خلف هذا الحجاب، كيف ومض السيف، وكان صدر الأرض يتململ مثل فؤادٍ ملتاع بغتة وبارْتجال، كوميض البرق بزغت عروس البحر من خَلْوتها! كانت الحياة دافئة وفي كل قطرةٍ قدم نَّدِيّة تنزلق علي الأوراق الجافَّة؛ كنت أنا أيضاً هناك... يَرَقة مجهولة رأيت الغيمة انشقَّت، فانهمر منها السَّيل، وبسرعة البرق أطلق القوسُ سهماً، انثني، ثم اهتزَّ راجفاً وسقط كحجرٍ يسَّاقط من قمَّة جبل لا شئ يوقفه، لا شئ علي سرير الأوراق الجافَّة المفروش علي الأرض ستلقت تلك الحوريَّة الغريبة وأنا ، يرقة مجهولة ، ظللت أحدِّق، وأحملق إلي السَّراب عسي أن تتبدَّي الآن أية عروس بحر. أقبض علي الناي بيديَّ وأصير راعياً حلاَّباً ، لكن أنَّي تأتي عروس البحر؟ لقد رأيتها الآن علي ذاك السرير، مستريحة، متراخية، غير أني واأسفا! ما زلتُ أقف وحيداً، يدي ملطَّخة، مبتلَّة، وبصري مضبَّب، لم تكن ثمة أنامل تمسح دموع عينيّ!