رغم أن مؤلف الكتاب قد انتهي من تدوين أفكاره حول تيار الإسلام السياسي، قبل أن يتولي الإخوان حكم مصر، ويتركوه بثورة شعبية ضدهم، إلا أن الكاتب الفرنسي شارل سان برو قدم في كتابه خدمة كبيرة لنا الآن، المواجهة كل من يريدون تجميل وجه الإخوان، وذلك عندما أشار في إطار تحليله لأفكار جماعة الإخوان المسلمين، إلي أنها تمتلك قسما للنظام أو بالأحري ميليشيا تعتبر بمنزلة جناح سري ومسلح، تم إنشاؤه في عام 1938. جاء ذلك في كتابه (حركة الإصلاح في التراث الإسلامي)، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وقام بترجمته وتقديمه د. أسامة نبيل. الكتاب لا يركز علي جماعة الإخوان المسلمين، إنما يقدم رؤية واعية للإسلام، تسير - حسبما أشار المؤلف- عكس تيار الأفكار السائد، إذ أن الإسلام علي نقيص الصورة التي يقدمها عنه أعداؤه أو أولئك الذين لايعرفون إلا عبر ما يتناهي إلي مسامعهم من أقوال، من خلال تصورات كاريكاتورية وقع ضحيتها منذ قرون عدة في العالم العربي، وذلك بخلاف الاجتهادات المغلوطة التي يقدمها المتطرفون الذين يتصفون بالجهل، فالإسلام في جوهره دين العقل والإصلاح الدائم. في هذا السياق، يحاول المؤلف التأكيد علي أن السلفية الصحيحة لاتعني الجمود والركود الفكري، بل التمسك بالأصول والمباديء الرئيسية، وفي ذات الوقت الوعد بالمستقبل. ويري شارل سان برو أن مفهوم السلفية السليم يتعارض مع مفهوم الحداثة الغربية والتي تعني، من وجهة نظره الشيء العابر واللحظي والمؤقت. وبالتالي الانفصال عن الماضي. وأوضح المؤلف مستندا علي رأي ابن خلدون، وجود تناقض بين التحديث الذي يتعلق بالتقدم، والحداثة أصبحت إيديولوجية نظرها مفكرون فرنسيون كان الغرض من نشرها القضاء علي الدين أو علي الأقل فصل الدين عن الدولة. ونظراً لأن التيار السلفي الصحيح يعمل باستمرار علي تحديث الفكر لخدمة البشرية، فهو يتعارض مع مفهوم الحداثة، ويتوافق مع مفهوم التقدم، وهكذا استطاع شارل سان برو أن يقدم البراهين العقلية علي العلاقة الوطيدة بين فكر السلف المتطور والتقدم في شتي مجالات الحياة، وليطلب من اقرانه في الغرب الكف عن المغالطة وتشويه الفكر الإسلامي الذي وصل إلي ذروته في الوقت الذي كانت تعيش البلاد الغربية في ظلمات الجهل. والمتأمل لكتاب شارل، يري علي حد تعبير مترجمه د. أسامة نبيل أنه تأثر بفكر بعض علماء المسلمين المصلحين المعتدلين، ممن ربطوا العقل بالدين دون إفراط أو تفريط مثل: الإمام الغزالي، وابن تيمية، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وتأثر أيضا بآراء بعض المستشرقين وعلماء الاجتماع، مثل: هنري لاوست، وجان بابا ميشو. ويري المؤلف أن الإصلاح في الإسلام يعتمد علي فكر السلف الصالح لأنه يسمح بالتعامل مع مستجدات العصر، مع استمرار تطابقه مع المصادر الأصلية. ويقدم صاحب الكتاب رؤيته للسنة النبوية باعتبارها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم إذ يري أن السنة جاءت لتفسير القرآن، ووصفها "بالدرع الواقي لبيت الإسلام" حيث تحتوي علي مفاتيح التعاليم القرآنية. وتحدث برو بعد ذلك عن مفكري التيار السني، والأئمة الأربعة (مالك والشافعي، وأبوحنيفة وابن حنبل). واهتم أيضا بعرض فكر بعض تلاميذ الأئمة الأربعة، مثل عبدالرحمن بن قاسم، وعبدالله بن وهب، وزيد القيرواني، وابن عبدالبر، وابن خلدون.. وتحدث عن المعتزلة وخلافهم مع أهل السنة حول مشكلة "خلق القرآن". وكان الهدف الرئيسي من سرد تاريخ المذاهب الأربعة والتيارات الدينية الأخري، هو الوصول إلي أهم موضوع في هذا الكتاب وهو "الاجتهاد"، الذي يعتبره سان برو بمنزلة المصدر الرابع للفقه الإسلامي، ومحرك الحركة الإصلاحية في الإسلام لاسيما في التيار السلفي. وأكد شارل سان برو أن الاجتهاد يسمح للتيار السني السلفي بمواكبة مستجدات العصر واحتياجات المجتمع الإسلامي. وبين المؤلف ايضا ان الاجتهاد يتطلب دقة كاملة، وقدرات علمية خاصة، وإتقانا للغة العربية ومعرفة جيدة لعلوم القرآن والحديث والقدرة علي تحديد المصلحة العامة بطريقة موضوعية. ولهذا السبب يعارض سان برو الرأي القائل إن باب الاجتهاد قد أغلق، ويؤكد أن سبب استمرارية الإسلام هو استمرار الاجتهاد. ويعود سبب تقهقر العالم الإسلامي في فترات معينة من التاريخ الإسلامي إلي تراجع الاجتهاد الذي أدي بطبيعة الحال إلي جمود وركود الفكر الديني، وبالتالي تراجع الحضارة الإسلامية. وبين شارل سان برو أن مهد الفكر الإصلاحي السلفي كان في بلاد الهند علي يد شاه ولي الله الدهلوي الذي اندهش من التراجع الفكري في مكة أثناء الحكم العثماني. ودعا الدهلوي إلي العودة إلي الأصول والاجتهاد. كما أبرز المؤلف فكر محمد علي الشوكاني في اليمن، الذي حرص علي تجاوز المذاهب الفقهية والانتماءات الطائفية. ثم ركز شارل سان بيرو علي دور محمد بن عبدالوهاب الإصلاحي باعتباره من أطلق شرارة حركة الإصلاح التي كان يحتاج إليها الإسلام في القرن الثامن عشر، وتصدي للجهل الذي يعتبره عدوا للاجتهاد وتحدث أيضا المؤلف عن انحراف الفكر السلفي وابتعاده عن رسالة الإسلام الخالصة وقدم تعريفا للتيار السلفي وفقا لجوهره القابل للتجديد. واستند المؤلف إلي رأي طه حسين الذي رأي أن فكر عبدالوهاب يعتبر دعوة إلي "العودة إلي إسلام خالص من الشرك والوثنية" وكان للفكر الإصلاحي السياسي الديني، والاقتصادي، والاجتماعي تأثير واضح علي بعض رواد الإصلاح خارج حدود الجزيرة العربية، مثل الشيخ جمال الدين القاسمي في دمشق، وأبوتانا العلوسي في بغداد، ومولاي سليمان في المغرب، وسيدي محمد بن علي السنوسي.. إلخ. ثم تحدث المؤلف عن الإصلاح في القرن التاسع عشر، من خلال رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، ومحمد إقبال. وعلي الرغم من اختلاف انتماءاتهم المذهبية، فإنهم سعوا جميعا إلي الاجتهاد من أجل تحقيق الإصلاح الذي يعبر عن "العودة والتجديد في ذات الوقت"، إصلاح يرفض الاستعمار والاحتلال ويعترف بقيم الحضارة الغربية، ويتعامل مع تحديات العصر بموضوعية وعقلانية. لذا يؤكد الفكر الإصلاحي علي أهمية التعليم والاجتهاد ووحدة المسلمين.