اهتزّ جسم الطفل باهتزاز السيارة العسكرية المكشوفة وخلفها مجرورة تشقّ بها الأرض محروثة كانت أو مزروعة. عصرت العجلات القرّيصة والخبّيزة والبندليقة ، لوت أعناقها، وخلطت لعابها الأخضر بندي لم تجفّفه شمس الصّباح. لا يبالي الجنديّ السّائق ولا الضّابط الألماني الجالس حذوه بالحفر وبرك الماء. هو يقصد قرعة جبل إشكل من أيّ طريق يؤدّي إليه . كالذّاهب إلي الجبهة اعترضته مزارع فلم يستشر أصحابها ، ثم ساقية ماء فاجتازها غير مبال، وبعدها شقّ حقول السّمار وقصب الأنهار تغطّي ضفاف البحيرة، ويسمّيها النّاس "قرعة" لقلّة عمقها وكثرة طميها . استوحش الفتي من رقبة الضّابط الطّويلة ومن لغة غريبة يرطن بها محدّثا نفسه أو موجّها السائق ، ولم يتصوّر أنّ له وجها آدميّا إلاّ عندما استدار إلي الخلف وخاطب أباه بفرنسية مكسّرة .كان أبو الطّفل واثنان من فلاّحي الضّيعة جاءوا ليساعدوا الألمانيين في صيد جاموس القرعة ، أو بقر الوحش كما يسمّيه أهل الجهة. إنه كبقر الهند المقدّس ، لا يمسّه أحد بسوء لأنّه محميّ من ملك البلاد ، ولكنّ البلاد في حالة حرب وتوابعها ، ترك الطّفل وأهله بسببها مدينتهم المدمّرة بقنابل الحلفاء والتجأوا إلي بادية ماطر ، قريبا من جبل إشكل وبحيرته وجواميسه. طلب الألماني من أهل الضّيعة المساعدة في صيد بعض العجول مقابل نصيب ينالونه من لحمها . خافوا أوّل الأمر ، لكنه أقنعهم بأنّ الحرب توقف العمل بالقوانين ، وأن الباي نفسه تحت الاحتلال ، فلا خوف من صيد بعض بقره المهمل في البحيرة ، وهل يا تري سيأتي لتفقّده يوما ؟. وسألهم : " نحن مشتاقون إلي اللّحم ...وأنتم ألستم جياعا ؟ إذن تعالوا ساعدونا وذوقوا اللّحم معنا ". كان العرض مغريا، والنّاس آنذاك في ضيم كبير من الجوع والخصاصة وكثرة الأمراض ، توقّف من حولهم كلّ شيء ، وفرغت الأسواق ممّا يباع أو يشتري. التفت الأب ليطمئنّ علي ابنه لمّا اشتدّ اهتزاز السيّارة ، ولم ينتبه إلي حيرته وتساؤله: أين سيكون مكانه بعد امتلاء المجرورة بجثث الجواميس الدّامية : هل سترصف بالطّول أم بالعرض ، أم ستكدّس بدون نظام ؟ لا بدّ من تدبّر مكان بعيد عنها عند الرّجوع . إنّه خائف. سأل الألماني دون أن يلتفت : هل اقتربنا من المكان؟ أجابه والد الصّبيّ: نجتاز مجري العين، وهو أمامنا الآن ، فلا يبقي إلاّ أمتار علي الشّاطيء. أوشك طين المجري المائيّ أن يحوّل وجهة السّيّارة. دارت علي نفسها مرّات وشخر المحرّك بقوّة . تخرج الآن من الأخدود المبلّل وتقطع الأمتار الفاصلة بينها وبين " قرعة جبل إشكل". تنغمس عجلاتها في حفر الماء الفائض علي الحواشي يغطّيها السّمار والخرشوف البرّيّ، ثم فجأة نتوقف . نزل الجميع .لبسوا أحذية مطاطيّة طويلة. انطلقوا يبحثون عن أفضل مكان لاختراق البحيرة العكرة المحيطة بالجبل. كان شامخا لم يلملم ظلالا فرشها باللّيل، لم ينتبه لمن جاءوا يفسدون هدوء الصّباح، بل لعلّه لم يرهم من ارتفاعه إلا نقطا سوداء تتحرّك في اللّوحة المنبسطة تحت ناظريه. لم تنزعج الطّيور المائيّة ، بل رفرفت بأجنحتها لتغيّر المكان مطلقة صيحات إنذار صغيرة . الجبل والبحيرة والطّيور، ثمّ تلك الكائنات الضّخمة المنغمسة إلي أعناقها في الماء عند منعطف الجبل . لايطفو فوق الماء سوي رؤوسها الضخمة ذات القرون المائلة إلي الخلف. لم يشاهدها الفتي من قبل، ولم يستوعب هيئتها إلا بعد الاقتراب الشديد.. هو الجاموس، أو بقر الباي، كما يدعوه أهل الضيعة، يغوص في طين الغدير ولا يخرج منه لغير الرعي في كلإ الضّفاف. قفز الجنديان من العربة ومعهما بندقيّتان .رفعت الأبقار خياشيمها. بدأ ركّاب السيّارة يزعجونها. حاولوا دفعها للاقتراب من الضّفّة. سارت متجمّعة .فرّقوها إلي مجموعات. خاضوا الماء والوحل. حاصروا كتلة صغيرة. فصلوا بقرتين بصحبة عجليهما. احتارت الأمّان لمّا ابتعد عنهما الفصيل. بدأ خوار الاستنجاد يعلو . تشتّت الفريق كلّه. لم يعد يعرف العجلان بمن يلتحقان ولا أين ستتجه كلّ أمّ. طلقة، ثمّ طلقتان، ثم أربع طلقات. أوغل الفلاّحان المصاحبان في ماء البحيرة حتي الحزام، ربطا العجلين بحبل وهما يتخبّطان في ماء عكر خالطه الطين والوحل حتي غدا كقصعة العجين. فرّت الأمّ الأولي، وتبعتها الثّانية. طوّقت الكتيبة البشريّة المكان فلا طاقة لهما علي المقاومة ، ظلّتا تتقدّمان ثم تعودان، ثمّ خاضتا الماء هاربتين من زعيق الصّيّادين، ولا تنفكّان عن الالتفات بحزن وعجز. جرّت السيارة الصّيد المريوط بالحبل إلي ناحية النّبع . ذبح أحد الفلاّحين عجلا ليأكله أهل الدّوّار حلالا ، وترك الثاني في المجرورة. جلس الفتي في حجر والده عند العودة ، وظلّ يختلس النّظر إلي العجلين القتيلين فيلمح ساق أحدهما تختلج وتركل جدار المجرورة ، ويري جسم العجل المذبوح ساكنة دون حراك . هيّأت نساء الدّوّار قدورا ضخمة لم تدخلها رائحة الزّهومة منذ زمن بعيد. وصبر الرّجال والأطفال علي مضض ، يسيل لعابهم من نهم ، وقرم شديد إلي اللّحم. تحلّقوا حول الدّابّة واستعدّوا للإسهام في كلّ ما يعجّل بالوليمة. انشغل الفتي باللّعب مع الأطفال ولم يهتمّ هو ورفاقه بما يصنعه الكهول ، وفجأة فاحت رائحة الشّواء، وانتشر بخار أزرق شفيف فوق سقوف الأكواخ الواطئة. نادت الأمّ فتاها لينهش مع إخوته قطعة من لحم الشواء السّاخن. " ياه...ما هذا ؟ ما هذه القطعة الحمراء السّاخنة اللّزجة بالشّحم والدّهن؟ من أين أتيتم بها؟ ماذا ينهش أولئك الأطفال ...أولئك الوحوش الكاسرة؟ هل ينهشون قطعا كهذه؟ يمشمشون ويهرّون كالجراء. يتخاطفونها في عبث وضحك. أبي يلوك قطعته بخشوع المتعبّد. أمّي تزيده لحمة مشحّمة من نصيبها ، ثمّ تستقبل الجدار لتأكل قطعتها كمن يستحي بفعله.". لم يطف اللّحم بتلك النّواحي منذ بدأت الحرب .نظر الفتي في صحنه والجوع يعصر أمعاءهلكنّ نفسه تأبي الأكل .لم تطق أصابعه لمس قطعة الشّواء .افتكّها أحد إخوته فلم يركض وراءه. غادر المكان إلي أحبّ أماكنه ومسرح ألعابه ، إلي جهة النّبع حيث يدفع قطع خشب يحسبها مراكب، ويتركها تنسحب مع التيّار ليواكبها من الضفّة. قبل أن يصل سمع خوارا متوجّعا ممطّطا كأنّه النّحيب. من خلف الشّجر لمح الجاموسة الأمّ في المكان الذي ذبح فيه عجلها ، تطوف به تحشر منخريها في عشبه الملطّخ بالدم ، ثم ترفع رأسها وترسل صوتا كالنّواح . خلفها وقفت الجاموسة الأمّ الثّانية ، ترقبها تارة ، وتارة ترفع منخريها إلي أعلي لتنشق الهواء بحثا عن رائحة لا تجدها. من ناحية الدّوّار جاءت رائحة الشّواء ، تلحّ علي الأنوف ، وتقرص الأمعاء . أحسّ الفتي بالغثيان وغامت في عينيه مشاهد الصّيد والذّبح ، والجواميس والبحيرة ، وحتي الجبل ..