أن نجم لا يدعي علما عميقا بالشعر وسراديبه، لكنه يعرف هدفه كرصاصة تذهب مباشرة إلي جسد القضية ، لذا فقد تركت بعض أشعاره مكانها الشعري لتقوم مقام الشعار،إنه المصري الأصيل، الشاعر، الملهم، طويل اللسان، الجريء، الرصاصة، الثوري، الحكاء، الرحالة، ابن النكتة المصرية، الوطني، الأهوج، ابن الشارع، المعتز بمصريته وبذاته وموهبته، إنه نجم أو أبو النجوم : أنا مش فاهم حاجه صراحه لما القاتل يا خد جايزه كده من دون تلبيخ وأباحه يبقي يا إما اللجنه دي بايظه أو لا مؤاخذه رئيسها حمار أحمد فؤاد نجم علامة في تاريخ النضال بالشعر، اختلف بعض النقاد والشعراء حول حجم شاعريته، لكنهم أجمعوا علي تميز شخصيته وخصوصيتها، وشخصيته لصيقة بشعره واتجاهاته، لا انفصام بينهما، فإذا كان يحلو لبعض النقاد التعامل مع النص الشعري بوصفه ذاتا لها استقلالها عن شخصية كاتبه، فإن ذلك مع حالة نجم سيكون مخاطرة نقدية، وبالرغم من الجدل الذي دار حول تجربته ، فقد أجمع العامة علي محبة ما يقول وما يكتب، فحين تدنو منه ومن أشعاره لن تشعر بمسافة بين الإنسان وما يكتب، كما أنه لا يحب شقشقة المثقفين الذين يسبحون في أودية بعيدا عن الناس وإيماناتهم فهو علي حد قول الشاعر الفرنسي »لويس أراجون«:»إن فيه قوة تسقط الأسوار »بينما أطلق الناقد »علي الراعي »عليه لقب الشاعر البندقية، لكنه كان في كل الأحوال منتميا للناس رافضا حياة المثقف الذي يعيش في برجه العاجي بعيدا عن أهل البلد : يعيش أهل بلدي وبينهم ما فيش تعارف يخلي التحالف يعيش تعيش كل طايفه من التانيه خايفه وتنزل ستاير بداير وشيش لكن في الموالد يا شعبي يا خالد بنتلم صحبه ونهتف .. يعيش يعيش أهل بلدي يعيش المثقف علي مقهي ريش يعيش يعيش يعيش محفلط مزفلط كتير كلام عديم الممارسه عدو الزحام بكام كلمة فاضيه وكام اصطلاح يفبرك حلول المشاكل قوام يعيش المثقف يعيش يعيش يعيش يعيش أهل بلدي كما أن نجم لا يدعي علما عميقا بالشعر وسراديبه، لكنه يعرف هدفه كرصاصة تذهب مباشرة إلي جسد القضية ، لذا فقد تركت بعض أشعاره مكانها الشعري لتقوم مقام الشعار، أليس ذلك من أدوار الشعر، سؤال قد يشتبك معه الكثيرون ممن يحبسون الشعر في دوره الجمالي فحسب، وهل نستطيع هنا أن نفصل الشعر عن الشاعر، أن نضع حدا بين الحياتي والفني عبر رحلة المعاناة، بداية من الطفولة، مرورا بالنضال والصعلكة، وليس انتهاء بالسجون التي أكلت وشربت من روح وجسد هذا الشاعر، والمجابهات التي دخلها كتابة ، وحديثا، ونضالا لا يلين ولا ينقطع كأنك أمام شاب لم تنطفئ في روحه جذوة الثورة أبدا، إنه ذلك الكتاب الذي يمكن استعادته كلما أردنا التأريخ للمكابدة والنضال ؛ طفولة مشردة، وشباب مقموع، وشعر محاصر، وكتابة لا تلقي محبة ومتابعة النقاد، فقد كان النقاد في واد والشعراء في واد، ونجم في واد، يكتب غير آبه بالنقاد، كل ما كان يعنيه أن تصل كلماته (الأشعار) غياب النقد عن شعر نجم إلا أن باحثا هو كمال نجيب عبد الملك يتصدي لتجربة "أمير شعراء الرفض"، والدراسة من تأليفه وترجمته، وتثير هي الأخري مجموعة من الإشكاليات التي تدور حول الإبداع بالعامية، فهي مازالت حبيسة المشكلات الأثيرة التي لا فكاك منها فيما يتعلق بالمصطلحات ومفاهيمها، فضلا عن إشكاليات التصنيف والاستلهام والتدوين، من هنا يمكن أن تفض مغاليق بعض الإشكاليات التي ستعمق درس العامية بوجه عام، وتجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم علي وجه الخصوص. إن مفهوم "الإبداع بالعامية" يتسع ليضم تحته الشفاهي والكتابي، الفردي والشعبي، هذا المفهوم المتسع والمتسامح يدعونا بداية لتأمل المشهد من جديد، ونعيد النظر فيما أنتج من اصطلاحات، كما يسهم مساهمة جليلة في التنقيب عن تراث الإبداع بالعامية بشقيه (الشعبي - الفردي)، وما يندرج تحت كل واحد منهما من أجناس وأنواع سردية وشعرية، من هنا يجدر التنبيه إلي إهمال تاريخي قد تم ولا يزال عن عمد أو يسوء نية لتراث العامية لغة وإبداعا استثني كتاب تاريخ أدب الشعب نشأته، تطوره، أعلامه، حسين مظلوم رياض مصطفي محمد الصباحي، الذي نشره محمد خلف الموظف بقلم تحقيق الشخصية سابقا، مطبعة السعادة، أول يناير 1936 فمنذ بدايات الأربعينيات، ومع تأسيس مجمع اللغة العربية بدأت لجنة اللهجات نشاطها، حيث نص مرسوم إنشاء المجمع علي "أن ينظم دراسة علمية للهجات الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية"، وقد تألفت لجنة مهمتها دراسة اللهجات ونشر النصوص القديمة، ومن قراراتها المهمة ما يلي: 1 - أن يحصر بحث اللهجات أول الأمر في اللهجات المصرية- 2 - أن تبحث اللغة العامية المصرية من النواحي الآتية: أ. استخراج ما فيها من الكلمات العربية الفصيحة التي يتجافاها الأدباء لمجرد جريانها علي ألسنة العامة.- ب. دراسة ما طرأ علي أصوات اللهجات العامية من تغير وتحريف، وأسباب ذلك.- ج. البحث في نحو العامية وصرفها وبلاغتها، ووضع قواعد لذلك. 3- جمع المؤلفات العربية وغير العربية التي بحثت في موضوع اللهجات. 4- أن تمكّن اللجنة من تسجيل اللهجات من الناحية الصوتية، وطرق الأداء في سجلات صوتية، من أقراص وأشرطة، بآلاتها الخاصة، وتحفظ في المجمع. إن أحد تجليات بيرم البارعة هو ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة استلهام نجم لبعض عناصر المأثور والتراث الشعبي، وهو ما يمكن إيجازه في المراوحة بين "بلاغة العامة وبلاغة العنف الثوري"، ونؤكد أن التناص مع بعض عناصر الثقافة الشعبية بتنوعاتها، وآليات تشكلها في بنية النص الشعري تعد واحدة من الاستراتيجيات التي يعتمدها أحمد فؤاد نجم دون قصد الاستلهام أو التوشية، لكن استلهاماته تأتي من صندوق الخبرة الحياتية، فهي ليست خبرة قرائية أو نزوعا نحو استدعاء عناصر الفولكلور ليصبح شعبيا ، فالعناصر تأتي ببساطة كأنها شعر الناس : غمي عيونك سد ودانك إفتح بقك قول انا فين الشاطر فيكو يحزر فزر في دقيقتين والأشطر منه اللي يحزرها في غمضة عين والأشطر خالص ما يحزرش يقول انا فين والأشطر أشطر اللي يبص يشوف بالعين أنا فين ؟ إن استلهام وتوظيف عناصر الفولكلور عند نجم يأتي متنوعا فيصنع حوارا مع القصائد، لتعلن أنها لم تظهر في فراغ، وإنما تقيم حوارا مفتوحا علي نصوص أخر، ففي النص السابق تشتبك لعبة الاستغماية مع الفزورة ، مع التعبير الشعبي لتجتمع الحركة مع الفكر وفنون القول ، كل ذلك مع التعشيق الذي لا يخلو من ظل سياسي واجتماعي ، ولا يفعل نجم علي هذه الآليات كستار لاستنزاف المشاعر الوطنية، واستخدام وتوظيف هذه العناصر كواجهة، أو حلية لتمرير توجهات بعض النظم السياسية التي لا تنشغل أصلا بحقوق الشعوب وحرياتها, لكنها في نفس الوقت تستثمر المأثور والتراث الشعبي عبر أشعار بعض الشعراء الذين ينتمون لتوجهاتها في لحظات تاريخية معينة: شوف عندك يا سلاملم واتفرج يا سلام مواطن شخص عادي مالوش أي اهتمام ومبارك الخيانه ومسميها السلام وف يوم قرا الجرايد تاريخ ما اعرفش كام من يومها يا ضنايا بيشقلب في الكلام واتفرج يا سلاملم علي شقلب يا سلام إن نجم الإنسان يمثل حيوات يكاملها تصلح لقراءة بعض مراحل التاريخ المصري من خلالها، وقد سجل بعضها في شعره وسيرته وحواراته وبرامجه وأغنياته المتفردة التي كتبها للمسرح ، فأحمد فؤاد نجم أحد البنادق الشعرية التي صوبت رصاصاتها علي القهر والظلم ، وهو أحد أهم شعراء الستينيات ، وقد كانت أشعاره المقاومة والمواجهة للظلم أحد أسباب تردده علي السجون والمعتقلات لفترات طويلة من حياته حتي صار السجن جزءا مهما من تجربته الحياتية والشعرية ، فهو أمير شعراء الاحتجاج والمواجهة للظلم والقهر ، وهو التلميذ المخلص لتراث الجدود حيث نلمح في شعره روح مقاومة ابن عروس وتمرد وثورة بيرم التونسي ضد الإنجليز والملك وكذا مواجهته للقواهر الاجتماعية ، وقد مثل نجم والشيخ إمام ظاهرة في الغناء المصري البديل للأغنية التي استلبها الهجر والخصام والفراق والكلمات الرخوة التي تنزع للاستسلام والخنوع ، فكان نجم وإمام مرحلة مهمة في تاريخنا الغنائي الثوري ، بل وصار علامة في فنون الأغنية الدرامية حيث كانا يقدمان الحفلة تلو الأخري عبر تجسيد الكلمات وإيصالها مستخدمين الصوت والإشارة والإيماءة والحركة عوالتلوين الصوتي علي المسرح ليحققا هذا الانتشار الجماهيري الذي كان وقودا للثورات المصرية المتتابعة. لقد حير نجم النقاد بعضهم يعده شاعرا مباشرا يحاول الوصول للناس كرصاصة ، وبعضهم اعتبره مسرحيا حاول مسرحة حياته وحياة المصريين في أشكال موزونة ، بينما أعده البعض حياة ثرية بتناقضاتها وغناها الإنساني والشعري، وحياة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم لتكون أيقونة درامية متسعة تشير إلي عوالم بقدر ما عاش من حياة مديدة حاشدة بالأحداث الدرامية (23 مايو 1929- 3 ديسمبر 2013) ، لقد كانت حياة نجم مسرحية متعددة الفصول والأحداث، اجتاحتها عناصر المأساة والملهاة لتحوله إلي صندوق متسع لعالم كبير يمكن تفكيكه إلي عدد من المسرحيات الثرية، والعوام الشعرية والاستلهامات الفولكلورية ، بداية من ميلاده بعزبة نجم التابعة لمركز أبو حماد بمحافظة الشرقية ، وقد هيأت له الظروف ليكون أحد الأبطال الذين يرسم ملاحم القدر كما يرسم ملامح وشخصيات الأساطير ومسرحيات الدراما التي تعد علامات بارزة ، كأن القارئ يعاين ميلاد بطل من أبطال السير أو الحكايات الشعبية حين يولد محاطا بالعقبات في أجواء تشع برواسب أسطورية تشع من حوله ، فنجم أو أبو النجوم كما يطلق عليه كل من أحبه وصدق مسيرته ينتمي إلي عائلة نجم التي تمتد جذورها لأكثر من مكان في مصر ، حيث ولد لأم من فلاحات مصر الأميات هي هانم مرسي نجم وأب يعمل ضابطا للشرطة هو محمد عزت نجم ، والمتأمل للأبعاد الغرائبية التي تكون فيها نجم سيجد أنها هي الظلال التي تسكن شعره ، من هنا لا ينبغي اعتبار قصائده بمثابة ذات لغوية مستقلة ، فقراءة شعر نجم لا يمكن أن تتم دون معرفة بحياته ورحلته الممتدة : الاسم : صابر التهمه : مصري السن : أجهل أهل عصري رغم انسدال الشيب ضفاير من شوشتي لما لتحت خضري المهنه : وارث عن جدودي والزمان صنع الحضاره والنضاره والأمان البشره : قمحي القد : رمحي الشعر : أخشن م الدريس لون العيون : اسود غطيس الأنف : نافر كالحصان الفم : ثابت في المكان إن رحلة أحمد فؤاد نجم بقدر ما كانت صعبة ومليئة بالعذابات لكنها كانت مليئة بالانتصارات علي اليتم والقهر والسجن والظلم فصار علما يتغني المصريون بشعره حيث ترك لنا تراثا شعريا مهما وعددا كبيرا من الأغنيات الفردية أو أغنيات المسرح منها أغاني مسرحيا » كعبلون« التي ضمت عدة أغنيات بصوت الشيخ إمام منها ، كما كتب نجم أشعار مسرحية الملك لير، حيث ساهمت أشعاره في تحقيق رؤية المخرج الراحل الكبير أحمد عبد الحليم في تحويل نص لير إلي عمل مسرحي يتمتع بالشعبية مخرجا النص من صيغته المقروءة إلي صيغة مرئية ومسموعة ليعود به للناس محققا جماهيرية كبيرة ساهمت في ترسيخها أشعار نجم العامية في سياق نص شكسبير، كما كتب نجم أشعار مسرحية »الملك هو الملك «للراحل الكبير سعد الله ونوس وإخراج مراد منير وهي المسرحية التي لاقت محبة الجمهور المصري فتم عرضها بين عامي 1988حتي 2006 ، رحم الله الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم علي قدر عطائه الثري في مجالات الفن والإنسانية ليظل أيقونة مصرية مناضلة حفرت لنفسها المكان اللائق بهذا الوهج الإنساني والشعري ، ومن أسف فإن ببليوجرافيا نجم بما تضم من شعر وأغان ، وسيرة ذاتية وبرامج إذاعية وتلفزيونية لم يقدر لها أن تتم حتي الآن وهو ما سنسعي لإنجازه ليعكف كل دارس ومحب علي منجزه الشعري والإنمساني ليضعه لنا في ميزان الحقيقة والفن كوثيقة تاريخية مهمة في كتاب الثقافة المصرية .