الاحتلال الإسرائيلي يعلن اغتيال 23 من قيادات حزب الله مع هاشم صفي الدين    «اللي حصل جريمة وكارثة».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على عقوبات الأهلي ضد كهربا    موعد مباراة ليفربول ولايبزيج في دوري أبطال أوروبا والقنوات الناقلة    مصرع شخصين في حادث تصادم سيارة فنطاس فى التجمع    أمن كفر الشيخ يكشف لغز العثور على جثة شاب ملقاه بترعة في بيلا    مصرع طفل أُغلق على جسده باب مصعد كهربائي بكفر الشيخ    دوللي شاهين تطرح برومو أغنية «أنا الحاجة الحلوة».. فيديو    بركات يوم الجمعة وكيفية استغلالها بالدعاء والعبادات    الهجوم على إيران.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يعقد اجتماعًا الليلة    هل اقتربت الساعة، الخطوط الجوية التركية تلغي جميع رحلاتها من وإلى إيران    إنفوجراف| أبرز تصريحات الرئيس السيسي خلال لقائه مع نظيره الروسي    نائب الرئاسي الليبي يبحث مع مسؤولة أممية التطورات السياسية في ليبيا    البطريرك يلتقي عددًا من الآباء الكهنة والراهبات في روما    سعر الذهب اليوم الأربعاء بيع وشراء.. أرقام قياسية ل عيار 21 والجنيه    عضو اتحاد الكرة يكشف مفاجأة بشأن طرف أزمة لاعبي الزمالك    أحمد سالم: بعثة الزمالك في حالة نفسية سيئة.. وهناك إجراءات رادعة للمتجاوزين    كورتوا: رد فعلنا كان عظيما.. وهذا ما علينا فعله أمام برشلونة    محمد العدل يهاجم بيان نادي الزمالك: عيب    أرباح لوكهيد مارتن خلال الربع الثالث تتجاوز التقديرات    أوكرانيا تبحث مع استونيا تعزيز القدرات الدفاعية للبلاد    محافظ البحيرة تعقد ثاني لقاء موسع مع الصحفيين لتسليط الضوء على قضايا ومشاكل المواطنين    البسوا الجواكيت..تحذيرات من الأرصاد بشأن حالة الطقس    5 آلاف في الساعة.. التحقيق مع أجنبية متهمة بممارسة الدعارة في القاهرة الجديدة    تشريح جثة طفل عثر عليها ملقاة بالشارع في حلوان    ضبط 5 أطنان دواجن فاسدة داخل مجازر غير مرخصة في بدمياط    مجموعة ال24 تطالب بتبني نهج الدبلوماسية والتعاون لخفض التوترات واستعادة السلام في العالم    بالصور.. هاني فرحات مفأجاة حفل تامر عاشور    رغم الخلافات.. 3 أبراج تتعامل باحترام في العلاقة    أدباء وحقوقيون ينتقدون اعتقال الخبير الاقتصادي عبدالخالق فاروق    حلوى الدببة الجيلاتينية التى تباع في آلات البيع الألمانية تحتوى على سم الفطر    احذروا الوقوف طويلًا أثناء فترات العمل..يسبب الإصابة بالجلطات    أطعمة تساعد في ضبط مستويات السكر في الدم لدى مرضى السكري    حلواني بدرجة مهندس معماري| ساهر شاب بحراوى يفتتح مشروعه لبيع «الفريسكا»    "اشتروا بسرعة".. رئيس "اللجنة النقابية للمصوغات" يكشف أسباب ارتفاع أسعار الفضة    انفراجة وإصدار التراخيص الفترة المقبلة.. مقرر لجنة إعداد قانون البناء يكشف التفاصيل    تفاصيل ضبط طالب لقيادته سيارة وأداء حركات استعراضية بالقطامية    شتوتجارت يسقط يوفنتوس بهدف قاتل فى دوري أبطال أوروبا    أرسنال يعود لسكة الانتصارات بفوز صعب على شاختار دونيتسك    ريمونتادا مثيرة من ريال مدريد على بوروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا    تحرك برلماني لمعرفة أسباب هدم قبة مستولدة محمد علي باشا    عمر خيرت يعزف أجمل مقطوعاته الموسيقية بحفل جسور الإبداع بين مصر واليابان    الفنان عبد الرحيم حسن: "فارس بلا جواد" كان علامة في حياتي ودوري فيه كان تحدي    مي عمر بشوارع لندن وهنادي مهنا بدون مكياج.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    القاهرة الإخبارية: 4 غارات إسرائيلية على مناطق برج البراجنة وحارة حريك والليلكي في الضاحية جنوب لبنان    استشهاد 10 أشخاص وإصابة 31 في غارات إسرائيلية على شرق وجنوب لبنان    هل الإيمان بالغيب فطرة إنسانية؟.. أسامة الحديدي يجيب    وزير الخارجية الكويتي: حريصون على حفظ السلم والأمن الدوليين وتعزيز التنمية المستدامة    رئيس جامعة الأزهر يتابع أعمال التطوير المستمر في المدن الجامعية    أستاذ موارد مائية يكشف: توقف توربينات سد النهضة بالكامل    الكويت تنضم رسميا إلى البروتوكول المعدل لاتفاقية مراكش المؤسسة لمنظمة التجارة العالمية    نشرة المرأة والمنوعات: الوقوف لساعات طويلة يصيبك بمرض خطير.. أبرز أسباب مرض داليا مصطفى.. سعر غير متوقع ل فستان ريهام حجاج    أمين الفتوى: تربية الأبناء تحتاج إلى صبر واهتمام.. وعليك بهذا الأمر    نواب البرلمان يعددون مكاسب المصريين من التحول للدعم النقدي    جامعة دمنهور تعقد ندوة "انتصارات أكتوبر والهوية الوطنية"    قومي المرأة يهنئ المستشار سناء خليل لتكريمه في احتفالية "الأب القدوة"    وزير الشؤون النيابية: نحن في حاجة لقانون ينظم شؤون اللاجئين بمصر    هل قول "صدق الله العظيم" بدعة؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى: النية الصادقة تفتح أبواب الرحمة والبركة في الأبناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر نَفَس
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 08 - 2013

يا لحسابات المستقبل، حواجز وشراك ووهاد. يضع قدماً أمام الأخري بحذر، بالأمس كان قوياً، وهو يتخيل الحواجز والشراك والوهاد، أوعلي الأقل كانت لديه دفاعات وشجاعات وعزائم، واليوم سقطتْ منه عدته أمام الخطوات الأولي. عاد إلي حصنه، وفكَّر أنه لا طاقة له بالمواجهة، سيمشي بجوار وبين الحواجز والشراك والوهاد، هناك بجوارها وبينها ممرات ومدقات لا تؤدي إلي شيء، لا بطولة ولا تاريخ لمن مشي بها، وبما أن طموحاته منعدمة في البطولة والتاريخ، فهو لم يكن في حاجة إلي حسابات المستقبل، لم يكن في حاجة إلي تخيل حواجز وشراك ووهاد، كان يكفيه المشي، المشي فقط دون تحديات..
كان حديثهم لي في حلم عما كنته قبل ثلاثين سنة. تذكَّرتُ أثناء الحديث الأماكن والوجوه. كانت عندي حكايات أكثر عن بعض الأماكن وبعض الوجوه، لكنهم مرُّوا سريعاً علي حكاياتي دون نفيها، فكَّرتُ أنه ليس من اللياقة إضافة شيء عن الأماكن والوجوه طالما كانت مُهملة في ركن من الذاكرة، وهم مَنْ نفضوا عنها التراب، كما من الجائز أنهم لا يعرفون حكاياتي، مع أنهم كانوا طرفاً فيها. كانوا يعرفون حكايات أخري عن نفس الأماكن ونفس الوجوه، وهي الحكايات التي يتوقفون عندها كثيراً لإنعاش ذاكرتي. الغريب أنني كنتُ طرفاً حاضراً بقوة في كل حكاياتهم، ولم يكن أحدهم، علي عكس حكاياتي، طرفاً فيها. يٌكمل واحد منهم كلمات الآخر استباقاً للحكاية وليس لعثرة نسيان. بمرور الوقت أهملوا أخذ يدي في أدغال حكاياتهم..
في كل مرة أجلس لكتابة جملة أو فقرة أجد نفسي مدفوعاً لتبرير أو تمرير أو الاعتذار عن تلك الكتابة أولاً، وكأنّ هذه المهنة تطلب في كل مرة أوراق اعتماد تُقدَّم ليس لأصحاب المهنة المعتادين علي ألعاب التبرير والتمرير والاعتذار والذين يرونها ألعاباً تدخل في صلب المهنة بل لكل مَنْ هو خارج الأسوار، لكل مَنْ هو خارج اللعبة، وكان مروره من هنا صدفة، وهو ليس أهلاً في الحكم علي ما يراه، لكن أن يمر من هنا، فتُختم الكتابة بخاتم الوجود..
رأيتُ بالصدفة لقطات من فيلم تسجيلي عن الكاتب المصري الراحل ألبير قصيري. الفيلم قبل موته بثلاث سنوات. كان عمره في زمن الفيلم واحدا وتسعين عاماً. اللقطات بسيطة. ألبير يعبر شارعاً للوصول إلي حديقة عامة. يجلس علي كرسي. يعود إلي غرفته المتواضعة في بنسيون. المؤثر في الفيلم طغيان الزمن علي جسم ألبير، فهو ضئيل ومنكمش، وكأنّ انكماش الجسم هو فاتورة الواحد والتسعين عاماً، وكأنّ الزمن لن يحفظ سمعته إلا بهذا الطغيان. في المقابل يستسلم ألبير، ويبدو وهو يخطو علي أرض الشارع، وكأنه يدوس علي لوح من الزجاج عُرضة للكسر، وحتي إذا كانت الأرض من زجاج، فوزن جسمه الذي لا يتعدي الخمسة والأربعين كيلو جراماً لا قِبَل له بكسر الزجاج. فكَّرتُ أنه عند عمر معين أحياناً تتم المُساوَمَة المُهينة بين عجوز وزمن.
لكَ الطغيان ولي الاستسلام..
وماذا لو لم يبق من وجودي سوي فَبْرَكَة صمتٍ علي سطح القمر..
كان دائماً يمشي قليلاً وراء شيء لتحصيل معني، لكن لانعدام الثقة في المشي والتحصيل، كان يمشي كثيراً وراء نفس الشيء، فينقلب المعني سراباً. هذه المرة استرد ثقته في قدراته العقلية أثناء مشيه وراء الأشياء، وفي غفلة منه كان مريد يمشي وراء صاحبنا، وكان المريد يهتم بالأشياء ومعانيها، لكنه يريد أن يراها مُجسَّدة علي وجه وهيئة صاحبنا الذي كان يعود من رحلاته بوجه خاو وهيئة مهدودة. أحس المريد بعد وقت بكراهية شديدة تجاه صاحبنا، وبغرابة كان المريد يرغب في اكتساب نفس الوجه ونفس الهيئة، فاقترب من صاحبنا، وسأله عن خرائط المشي وراء الأشياء. أدرك صاحبنا الكراهية في عين المريد، فأعطاه خرائط مشي ضالة. أكل الفضول صاحبنا، فأخذ يمشي وراء المريد، ليري آثار الخرائط الضالة علي وجه وهيئة المريد..
في سقطة نوم لم تستغرق سوي لحظات وأنا أقرأ علي السرير الجزء الأخير من رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست بعنوان الزمن المُستعاد، نفيتُ بهزة رأس عصبية أفقية كإجابة حاسمة علي سؤال وُجِّه لي في سقطة النوم، إن كان مارسيل بروست قام بزيارة حلوان في بدايات الألفية الثانية. كان النفي الحاسم من ناحيتي موجهاً لاستحالة زيارة مارسيل بروست لحلوان بصرف النظر عن استحالة زيارته بعد موته، وكانت هزة الرأس العصبية الأفقية إجهاضاً لسقطة رأس علي صدر أثناء القراءة..
أشار أستاذ اليونانيات عبود شيخ الأرض بتعب مِهَني أمام حلقة طلاَّب الماجستير، كنوع من الاستراحة البعيدة قليلاً أو كثيراً عن التخصص، إلي سهم الأنانية المسموم الآتي من أدبيات الحرب العالمية الأولي، علي أثر شَدَّة قوس مُحكمة من مارسيل بروست في الجزء الأخير من روايته المعنونة بالزمن المُستعاد، إذ عانتْ السيدة فيردوران، وهي ملكة الصالونات في رواية البحث عن الزمن المفقود، من اختفاء الكرواسان بسبب الحرب، وهو المُداوي بصحبة قهوة بحليب لصداع رأسها في الصباحات كتيمة الضوء، فشهرتْ السيدة فيردوران معنوياً سيف الساموراي النبيل في وجه أحد المطاعم، ليخبز لها بشكل استثنائي سري، الكرواسونات الذهبية، وبعد أن جلستْ السيدة فيردوران أخيراً مع أول كرواسونايا في صباح كتيم الضوء تقرأ في جريدة خبر سفينة إنجليزية علي متنها ألفان من الجنود، أغرقها الألمان، فكَّرت بأسف في حجم المأساة، لكن رائحة وطعم الكرواسان والقهوة حول أنفها وفي فمها، خففا حجم المأساة، حتي لكأنها تحتمل ألفين من المآسي الإنسانية الأشد دماراً. قال أستاذ اليونانيات مُعقباً بلهجة مأساوية، وهو يصنع بؤرة نظر جديدة، بدلاً عن أخري تراختْ، وذلك بدفع النظَّارة السميكة علي عينيه كما كان يفعل بلوم بطل جويس: السهم نافذ لا محالة..
أفكر في مُفَارَقَة عزيزة علي قلب الأدب ولها تنويعة في ألف ليلة وليلة وهي أن هناك باباً زهد فيه مَنْ يبحث عن ضالته وبينما يطرق الأبواب جميعاً يصطدم بعد يأس وزمن بالباب المنشود فينفتح له وهنا يأتي السؤال وهو هل فات الأوان وأن لا قيمة الآن من اكتشاف ما تم البحث عنه لا سيما وأن ضالة الباحث كانت تتعلق بالسعادة وكانت السعادة تتعلق بعمر الباحث وكان الباحث لا يرضي برشوة مُتعالية تُغْمز في بطن يده أثناء مرور الزمن مفادها نقل الحِكْمة للآخرين..
الشيء من حيث هو كل مرة هذا، وهذا تعني الإشارة بحسب هيدجر، والتكرار في عرف دولوز، والعودة عند نيتشه، وما نحن إلا صدًي للإشارة، ورنين للتكرار، وأشباح للعودة..
تذكَّرتُ أثناء الغداء موقفاً كان منذ ما يزيد عن العشرين سنة. لم تكن الذكري غارقة في النسيان تماماً، ولم يحدث فيها شيء درامي يستحق الذكر، فقد كنتُ فيها علي متن قطار أقرأ في كتاب لتخفيف زمن الرحلة، ولم يكن الكتاب يعني لي شيئاً، وفجأة، وليس بدافع الشرود الملل وحدهما، نظرتُ إلي خارج نافذة القطار، كأنَّ هناك شيئاً يفوتني. طالتْ النظرة علي الجريان العكسي للأشجار والبيوت ثم هدأتْ المُفاجأة، وكأنَّ هناك خطأ في الحواس، وكأنَّ المُفاجأة كانت تقصد حاسة السمع، لكن ليس تحديداً سماع صوت العجلات الحديدية علي القضبان. كنتُ واثقاً هذه المرة، سماع شيء آخر. غرقتُ في التفكير، فبدتْ المُفاجأة أنها كانت تتعلق بشيء يقع بين حاستي السمع والنظر. بصعوبة ميَّزتُ ملمحاً من ملامح هذا الشيء، وكان هذا الملمح يتعلق بالستقبل، بالموت ربما. والآن وأنا أفصل شوكة عن لحم سمكة البوري، سقط نفس الشيء فجأة بين حاستي السمع والنظر، والفارق الوحيد أن ملمحاً منه كان يتعلق بالماضي..
مُثبِّت مزاج مستخلص من الأبيوم لتراوحات اليأس والأمل..
في حلم رأيتُ ساحة كبيرة يجتمع فيها ناس كثيرون علي شكل مجموعات مُتفرقة. كان الحديث بينهم علي أشده. وكان ينتقل أحدهم أحياناً من مجموعته إلي مجموعة أخري، وعلي الرغم من أن موضوعات الحديث لم تكن واحدة إلا أن مَنْ ترك مجموعته هو أول مَنْ يبادر بالحديث في المجموعة الجديدة، وكأنه معهم منذ بداية حديثهم، لكنه يقول كلمة أو كلمتين من موضوع سابق، كتعليق قصير لن يستغرق أكثر من دقيقة، ثم يندمج معهم في موضوع جديد، وهو يرفع يده بإشارة إلي مجموعته القديمة التي لا تبعد عنه سوي أمتار. كانت الإشارة تعني اليأس المؤقت من موضوع بعينه، والرغبة في موضوع آخر. وكان زمن اليأس المؤقت للمُتنقلين بين المجموعات
لا يستغرق أكثر من دقيقتين. وكان بعضهم يعود إلي مجموعته القديمة ويتركها مراراً. وكان هناك أيضاً مَنْ لا يترك مجموعته، وهو دائم الصمت يحتفظ في عقله بخيوط الموضوعات والأحاديث جميعاً..
ردد الزوج أمام زوجته كما رددتْ هي أمامه في وقت سابق، جملة حوار من فيلم كوميدي متوسط القيمة في رأي الزوجة، ودون المتوسط في رأي الزوج، وقد يكون حكم القيمة الفنية للفيلم هو التفسير المنطقي لاستعمال الزوجة أكثر من الزوج لجملة حوار الفيلم، إلي جانب اهتمام الزوجة كثيراً بتقليد أداء الممثل داخل الفيلم، وقد تدفع الغيرة في مرة أو مرتين بأن يُقلِّد الزوج أداء الممثل في الفيلم الكوميدي، إلا أنه يتراجع ويُنكر تقليده، لأن الزوجة تواجهه بحكم القيمة الجمالي، فإذا كان الزوج يعتبر أن الفيلم دون المتوسط، فليس عليه تقليد نبرة صوت الممثل أو حركته أو إشارة يده أثناء قوله جملة الحوار. والحقيقة أن الزوج كان يحب تكرار تقليد زوجته لأداء الممثل، لا سيما الصوت، لكنه لا يستطيع قول ذلك لزوجته حتي لا تستخدم هذا كنقطة رصيد معلقة في الهواء تُضاف لحساب الزوجة وبرغبتها في أي وقتٍ. الفيلم يأتي بانقطاع وانتظام في التليفزيون منذ عشرين سنة، وكانا قد شاهداه كثيراً، بحيث يكفي الزوجة مجرد نطق زوجها لجملة الحوار حتي تدرك مقصده، وهو مقصد في الغالب يخدم موقفاً طارئاً نشأ فجأة بين الزوجين، ويحتاج إلي قوة دفع خارجية تعمل علي الهروب من الموقف، أو تعليقه، أو تحريكه، أو تدميره تماماً. وكان هذا المقصد ينسجم بشكل مرن مع موقف جملة الحوار داخل الفيلم، أي أن قدرة الزوجين علي حقن جملة الحوار بمعان قد تخرج عن الطبيعة الكوميدية للفيلم وتفارقها، كانت تزداد مع الزمن..
أشغال وقت شاقة..
اليوم قمت من النوم بشعور مختلف عن الأيام السابقة، ولم أكن علي يقين أنني جرَّبتُ هذا الشعور قبل ذلك، وهو شعور بيأس سميك لا أمل في جداره، ومن هنا كان الارتياح في الوقوف أمام جدار، الوقوف فقط دون أدني رغبة في تسلقه، أو تأمله، أو انتظار شيء يأتي من ورائه. إنني أقف فقط هنا أمام الجدار دون سبب واضح، كما أنه لا يعنيني سؤال عن السبب، وكيف يكون السؤال إذا كان الجدار غير موجود في مكان بعينه، إنه شعور قمت به من النوم، وكانت كلمة جدار أقرب كلمة لضرورة الفصل بين مكان خلف الجدار، ومكان أمامه، وبالصدفة أنا هنا أمام الجدار، أي أن ضرورة الفصل بين مكانين بجدار لم يضع القائم عليها لصدفة وجودي هنا أمام الجدار أي اعتبار، ولن تكتسب تلك الصدفة معني ما، سواء بقيت هنا أو ذهبت..
في حلم كنتُ مع أشخاص أعرفهم، لكن كل الاحتمالات في أن يعرف بعضهم بعضاً كانت مستحيلة، والاستحالة كانت مثيرة لي بعد اليقظة، وليس أثناء الحلم. منهم مَنْ مات قبل ولادة الآخر. بقيتُ ساعة أبحث عن مبرر ولو مُفتعل لهذا الجمع. كان المكان في الحلم بيتاً قديماً تركته منذ عشرين سنة. وكانت العلامة الوحيدة التي عرفتُ منها البيت القديم، هي الصورة الفوتوغرافية المُعلَّقة علي الحائط. قال لي واحد من الجمع بصيغة اتهام بوليسي لا يعرف الغرض منه: أنتَ تحمل نسخة مُصغَّرة من الصورة في محفظتك: قلتُ له: نعم هذا والدي. قال وهو يضع ساقاً علي ساق: أراهن أنها ليست معك الآن. حاولتُ أن أخرج له الصورة، فصرخ وهو يعوق يدي عن إخراج المحفظة من جيب البنطلون الخلفي: لا هذا غير ممكن، هذا اعتداء علي الزمن، هذا مستحيل..
لا يختلف أحد علي أن هناك مسافة بين الحلم والواقع، لكن قل لأحد آخر من باب التغيير، واترك الأحد الذي لا يختلف معك في وجود المسافة بين الحلم والواقع: صف لي تلك المسافة. وهنا تحدث جلطة في التعبير، ويكتفي الأحد الثاني بالتأكيد علي أن هناك مسافة بين الحلم والواقع، لكن لا بد من فسحة زمن حتي يجد التعبير المُناسب، فيتدخَّل الأحد الأول بعد أن أخذ زمناً في التفكير، ويؤكد علي كلام الأحد الثاني، وهو يشير ناحيته مضيفاً أن التعبير لن يتم إلا بالعبور، مشدداً علي أنه يقصد بالعبور عبوراً مادياً، من الحلم إلي الواقع أو العكس. يعترض الأحد الثاني قائلاً: العبور المادي قد يعني الموت، وهو عبور ينسف المسافة بين الحلم والواقع، وكأن المسافة لم تكن، بل سيتعذَّر حينئذ الدليل علي أن هناك عبوراً حدث بالفعل..
لم يبق لي غير طريق أقطعه، طريق يُقْطَع بقدمين. وقبل الرحلة تخيلتُ الطريق مجرداً من معالمه، لا لافتات بسهامٍ إلي مدن، لا تفريعات لطرق أخري، لا عهود بالوصول. ومع أنه طريق إلا أن ارتباطه بالزمن يكاد يعصف بوجوده. قلتُ في نفسي: لا تنس سيجارة الطريق. وأخذتُ في الموازنة بين زمن الطريق وزمن السيجارة، وعوَّلتُ كثيراً علي انسجام خفي بين الزمنين، فليس للسيجارة أن تنتهي بنهايته، أو أن تبدأ مع بدايته..
ثلاثة وقفوا أمام مصنع المياه الغازية. الساعة الثانية بعد منتصف الليل، والمصنع مُغلق. الأول أكبر من الثاني بعام، والثاني أصغر من الثالث بعام. كان من الصعب معرفة أعمارهم من مجرد النظر بوجوههم، لكن يسهل التأكد بمجرد النظر أيضاً بوجوههم أن الثاني أصغر الثلاثة. فلو سألتَ الثاني مثلاً عن عمره، لضحك وهو يرفع يده ويرميها خلفه في الهواء، فتبدو إشارته إلي مصنع المياه الغازية، كما لو أن إغلاق المصنع في الليل يقف عائقاً أمام إجابته. ينظر الأول والثالث إلي الثاني، وكأنهما يجتمعان بعمريهما علي اضطهاده..
علي مدي سنوات مضتْ حلمتُ بأحلام يقظة لا طائل من ورائها، وفي كثير منها كانت تتعلق بنجاةٍ شخصية، وجودية وبدائية، من نوع ماذا لو ضربتْ مجاعات وكان اللحم الإنساني صلب النجاة. ومع أنها أحلام يقظة إلا أن تحليقها في الهواء يدعو للخجل، وكما لو كانت نوعاً من البط غير البري يتذكَّر بشيء من الحسرة والغضب، أن أسلافه البعيدة كانت كلها طائرة، فيرفرف بجناحين ثقيلتين وخطوات ليستْ أكثر حظاً من الجناحين، علي أرض الحظيرة فيما يشبه استعداداً للإقلاع. كان في الغالب حلم اليقظة يتحول إلي إحساس بالذنب ويقين من أنها لعنة وعقاب علي طيران سابق، انتهك السماء مرة، فعوقب برفرفة كسيحة..
ذهبتُ اليوم في نزهة مشي إلي شوارع لم أرها في حلوان منذ عشرين سنة أو ما يزيد. كانت النية اصطياد شيء من الماضي، وليس شيئاً محدداً، فقط إثبات أنني كنت هنا في زمن سابق، ويكفي هذا الإثبات ذكري معمار بيت صمد في وجه الزمن، حتي لو كان صموده هو نسيان أو إهمال، وليستْ بطولة تُحسب له أو لأصحابه، بل سأقنع ببقايا بيت حُشر بين برجين قبيحين. بيوت سأعرفها من صدمة اللقاء. قلتُ أثناء شبه المشي والقفز بين العربات والأرصفة المُحتلة ببضائع أكثر من الباعة: لا نوايا للقاء أحد. لم تحمل لي المدرسة الابتدائية التي قضيتُ فيها ست سنوات مشاعر الزمن، لكن بيت زميل في نفس الشارع، وقفتُ أمامه عشر دقائق. تذكَّرتُ علي الفور مشاعر الحسد التي كنت أحملها للزميل، بسبب قرب بيته من المدرسة. كان يستيقظ في السابعة صباحاً، وكنتُ أستيقظ في السادسة صباحاً. ماذا لو صعدتُ وسألتُ عنه بعد أربعين سنة؟ تذكَّرت اسمه. مَنْ سيفتح لي الباب؟ واجهة البيت تغيَّرت. حساب المسافة بين بيت الزميل والمدرسة لم يتغير. البيت كله كأنه خُسف قليلاً في الأرض. تذكَّرتُ الشرفة في الطابق الثالث التي كنتُ أري منها أثناء زيارته جانباً من المدرسة. كانت المدرسة من الشرفة أقل بغضاً، بل تدعو للتعاطف وهي خالية، لكن من باب الاحتياط أنا محصن منها هنا..
كنتُ في السابق أقرأ الأعمال الأدبية وأشاهد الأفلام السينمائية، واليوم، وهذا يتعلّق بالعمر، أفضِّل إعادة قراءة بعض الأعمال الأدبية ومشاهدة بعض الأفلام السينمائية. العدد قليل وقابل للنقصان مع الوقت. أفكِّرُ في تصلب شرايين الذوق. مواسير من رصاص أو حديد زهر لا تسمح بدفق الأعمال الفنية. كسل عقلي أكثر مما هو دفاع عن مبررات سقوط الأعمال. كنتُ فيما مضي أدافع عن مبرر سقوط رواية أو فيلم. والآن أقدر فقط علي نصف قراءة أو نصف مُشاهدة، لرواية أو فيلم، والنصف المُكمِّل والممتع يقع علي عاتق الذاكرة. أشاهد هذا الفيلم من منتصفه مثلاً، وعند مشهد محدد خايلني بإلحاح دام يومين أو أكثر، وبعون المشاهدات الكثيرة السابقة التي كان إحصاء عددها مبعث فخر وتباه في وجه زملاء مِهْنة وأصبحتْ الآن مع الاقتراب من الخمسين متعة شخصية لا تحتاج إلي إثبات، وبعون ذاكرة بقرة تجتر إلي ما لا نهاية، أستعيد ما قبل المشهد وما بعده، وفي أحيان يكون المشهد المراد مشاهدته عُرضة لعدم التركيز والشرود. الحقيقة أنني الآن توقفتُ بمعنًي حَرْفي عن قراءة الأعمال الأدبية ومشاهدة الأفلام السينمائية..
أعلنتُ، وهو ليس الإعلان الأول من نوعه، فقد أعلنتُ مرَّات كثيرة ما أعلنته اليوم، هزيمتي أمام الوقت، ولأن كلمة الإعلان قد تعني عرضاً تراجيدياً أمام جمهور يتطهر بهزيمة البطل، ولأنني لا أملك جمهوراً مرفهاً متسكعاً علي نواصي الأوقات الفارغة، فقد أعلنتُ الهزيمة أمام مرآة الحمام العريضة. وكانت كلمات الإعلان مبهمة باهتة قياساً ببلاغة النظرة والإيماءة. ويحدث في إعلانات بطولية من هذا النوع، أنه كلما كانت البلاغة الاستعراضية ناصعة طالتْ في المستقبل استراحة المُحارِب، وكأنّ إعلانات الهزيمة السابقة ما هي إلا مناورات فاشلة لالتقاط الأنفاس ثم العودة من جديد إلي ساحة المعركة تحت شعار، هل من مُبارز؟ بعد إعلان الهزيمة، وأثناء تضميد الجراح، وتحت لذة اليأس، تتراقص حولي أوقات خفيفة كالفراشات حول مصباح. أفكِّرُ أن نزع جناحين لفراشة واحدة ليس اختراقاً صريحاً لزمن الاستراحة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.