1 وصلت إلي »نيو أورلينز» في المطر في الخامسة صباحًا. جلست في محطة الحافلات بعضا من الوقت ولكن الناس أصابوني باكتئاب، فأخذت حقيبتي وخرجت في المطر، ومشيت. لم أكن أعرف أين البيوت التي تؤجر غرفا حيث تقطن الفئات الفقيرة. كان معي حقيبة من الكرتون علي وشك التداعي، يومًا ما كانت سوداء ولكن اللون الأسود تقشر وظهر الكرتون الأصفر. حاولت التغلب علي هذا بوضع ورنيش أسود فوق الورق المكشوف. وبينما كنت أسير في المطر راح الورنيش يرشح علي الحقيبة، ودون وعي أخذت أفرك الخيوط السوداء علي ساقيَّ بنطالي وأنا أنقل الحقيبة من يد إلي يد. حسنا، إنها مدينة جديدة. قد يحالفني الحظ. توقف المطر وطلعت الشمس، كنت في حي السود. فأخذت أتمشي ببطء. »مهلا يا حثالة البيض الفقراء!» وضعت حقيبتي أرضًا. كانت نحاسية الوجه جالسة علي درج الرواق تؤرجح ساقيها. وتبدو رائعة بالفعل. »مهلا يا حثالة البيض الفقراء!» لم أنطق بكلمة. وقفت مكاني أتطلع إلي وجهها فحسب. »كيف يروق لك الجنس يا حثالة البيض الفقراء؟» ضحكت لي. وصالبت ساقيها عاليًا وركلت بقدميها؛ كان لها ساقان رائعان، وكعبان مرتفعان، ركلت ساقيها وضحكت. التقطت حقيبتي وسرت مقتربًا منها. وبينما أسير لمحت طرف ستارة علي نافذة إلي يساري يتحرك قليلا، ورأيت وجهًا لرجل أسود يشبه جيرسي جو والكوت. عدت أدراجي إلي الممر ومنه إلي الرصيف، وضحكتها تتبعني إلي الشارع. 2 كنت في غرفة في الطابق الثاني قبالة بار. اسم البار »جانجبلانك كافيه». ومن غرفتي كان بوسعي أن أنظر عبر أبواب البار المفتوحة وإلي داخله. كان ثمة وجوه فظة في ذلك البار، وبعض الوجوه المثيرة للإنتباه. كنت أمكث في غرفتي ليلا أحتسي الخمر وأنظر إلي الوجوه التي في الحانة، بينما تنفد نقودي. وفي ساعات النهار أخرج كثيرًا متمشيا علي مهل. وأجلس بالساعات أحدق في الطيور. مكتفيًا بوجبة واحدة في اليوم لتبقي نقودي فترة أطول. عثرت علي مقهي رديء يملكه رجل قذر، هناك تستطيع الحصول علي وجبة إفطار كبيرة؛ كعك ساخن، فريك، سجق - مقابل مبلغ ضئيل جدا. 3 خرجت إلي الشارع، كعادتي، ذات يومٍ وأخذت أتجول. انتابني شعور بالسعادة والراحة. كانت الشمس ملائمة تماما. مخدرة. وثمة سكينة في الجو. وأنا أقترب من منتصف بناية، رأيت رجلًا واقفا خارج باب متجر. مررت به. »مهلا، ياصاح!» توقفت والتفتُ. »أتريد عملًا؟» عدت إلي حيث يقف. فلمحت من فوق كتفه حجرة كبيرة مظلمة. وكان هناك منضدة طويلة برجال ونساء واقفين علي جانبيها. معهم مطارق يسحقون بها أشياءً أمامهم. وسط العتمة تراءت الأشياء لي محارًا، شممت رائحة تشبه رائحة المحار. فاستدرت وواصلت السير في الشارع. تذكرت كيف تعود أبي أن يرجع إلي البيت كل مساء ويتحدث عن عمله مع أمي. الحديث عن العمل يبدأ بمجرد أن يدخل من الباب، ويستمر علي مائدة العشاء، وينتهي في غرفة النوم إلي أن يصيح بصوتٍ مرتفع في الثامنة »اطفئوا النور!»، ليتمكن من نيل بعض الراحة ويسترد عافيته كاملة من أجل مواصلة العمل في اليوم التالي. لم يكن هناك موضوع آخر غير هذا. عند ناصية أوقفني رجل آخر. »اسمع يا صديقي...» استهل كلامه. استفهمت »نعم؟». »اسمع، أنا كنت محاربًا قديمًا في الحرب العالمية الأولي. وضعت حياتي علي المحك من أجل القتال في الحرب العالمية الأولي، عرضت حياتي للخطر من أجل هذا البلد ولكني لا أجد من يوظفني، لا أحد يعطيني وظيفة. انهم لا يقدرون ما فعلته. أنا جائع، ساعدني... ». »أنا لا أعمل». »أنت لا تعمل؟» »نعم». ابتعدت عنه. عبرت الشارع إلي الجانب الآخر. صاح: »أنت تكذب!». »أنت تعمل. لقد عثرت علي وظيفة!» وبعد بضعة أيام كنت ما أزال أبحث عن وظيفة. 4 كان رجل خلف مكتب بسماعة أذن والسلك ينزلق علي جانب وجهه وداخل قميصه إلي حيث يدس البطارية. المكتب كان معتمًا ومريحًا. وهو يرتدي بدلة بنية اللون مع قميص أبيض مكرمش وربطة عنق مهترئة عند الحواف. اسمه هيذركليف. رأيت الإعلان في الجريدة المحلية، وكان المكان قريبا من غرفتي. »مطلوب شاب طموح يتطلع إلي المستقبل. لا يشترط الخبرة. يبدأ العمل في غرفة التوزيع ويتدرج في المناصب». انتظرت في الخارج مع خمسة أو ستة شبان، كان كل واحد منهم يحاول أن يبدو طموحًا. قمنا بملء استمارات الوظيفة، والآن ننتظر. وكنت أنا آخر من تم استدعاؤه. »السيد تشناسكي، ما الذي حملك علي ترك العمل في السكك الحديدية؟». »حسنا، أنا لا أري أي مستقبل في السكك الحديدية». »لديهم نقابات جيدة، ورعاية طبية، وراتب تقاعد». في سني، قد يعتبر راتب التقاعد لا جدوي منه». »لماذا أتيت إلي نيو أورلينز؟». »لدي في لوس انجلوس كثير من الأصدقاء، أصدقاء أحسست أنهم يعرقلون طريقي. فأردت أن أذهب إلي مكان يساعدني علي التركيز دون مضايقات» »كيف يمكننا التحقق من أنك ستسمر معنا لأي فترة من الوقت؟» »ربما لن أستطيع». »لماذا؟» »بحسب إعلانكم فثمة مستقبل لرجل طموح. فإذا لم أجد أي مستقبل هنا فلابد أن أرحل». »لماذا لم تحلق وجهك؟ هل خسرت رهانًا؟» »ليس بعد» »ليس بعد؟» »أجل؛ لقد راهنت صاحب البيت الذي أسكن فيه أني أستطيع الحصول علي وظيفة في يوم واحد حتي مع وجود هذه اللحية». »حسنا، سنتصل بك». »ليس لدي هاتف». »وهو كذلك سيد تشيناسكي». تركته وعدت إلي غرفتي. نزلت الردهة القذرة وأخذت حمامًا ساخنًا. ثم ارتديت ملابسي مرة أخري وخرجت واشتريت زجاجة خمر. عدت إلي الغرفة وجلست أشرب بجوار النافذة وأراقب الناس في الحانة، وأتفرج علي المارة. شربت ببطء وعاودت التفكير في شراء مسدس وتنفيذ ذلك بسرعة - دون أدني تفكير أو كلام. مسألة شجاعة. كنت أتساءل عن شجاعتي. أنهيت الزجاجة وذهبت إلي السرير ونمت. في حوالي الرابعة صباحًا أيقظتني طرقات الباب. كان عامل ويسترن يونيون. فتحت البرقية: السيد. ه. تشيناسكي، احضر غدًا لاستلام عملك في الثامنة صباحًا. شركة آر. إم هيذركليف. كانت دار نشر وتوزيع دوريات، وقفنا علي طاولة التعبئة لمراجعة الطلبيات لنتحقق من تطابق الكميات مع الفواتير. ثم نوقع علي الفاتورة وإما نعبئ الطلبية لشحنها خارج المدينة، أو نَفْصِل المجلات لشاحنة توزيع محلية. كان العمل سهلا ومملا ولكن الموظفين في حالة دائمة من الاضطراب. لقد كانوا قلقين بشأن وظائفهم. كانوا خليطا من الشباب والشابات ولا يبدو أن هناك رئيسًا للعمل. بعد عدة ساعات بدأت مشادة بين امرأتين. علي أمر يتعلق بالمجلات. كنا نحزم الكتب المصورة وحدث خطأ ما عبر الطاولة. أخذ عنف المرأتين يتصاعد مع استمرار المشادة. قلت لهما »انظرا»، »هذه الكتب لا تستحق القراءة ناهيكما عن الشجار من أجلها». ردت إحداهما »وهو كذلك»، »نعرف أنك تظن نفسك الأفضل في هذه الوظيفة». »الأفضل؟» »نعم، تصرفاتك تشي بذلك. أتظن أننا لم نلحظ ذلك؟» وهنا عرفت لأول مرة أنه ليس كافيا أن تقوم بعملك فحسب، فعليك أن تظهر اهتماما به، إلي درجة الشغف. اشتغلت هناك ثلاثة أو أربعة أيام، ثم تقاضينا يوم الجمعة أجرنا كاملا حتي الساعة. أعطونا مغلفات صفراء تحتوي علي فواتير خضراء ونقود بالفعل. مال حقيقي، وليس شيكات. قرب موعد الانتهاء من العمل، عاد سائق الشاحنة مبكرًا بعض الشيء. جلس علي كومة من المجلات ودخن سيجارة. »ياه، هاري» قال لأحد الموظفين، »حصلت اليوم علي زيادة. أعطوني دولارين زيادة». في وقت الانصراف توقفت لشراء زجاجة خمر، صعدت إلي غرفتي، واحتسيتها ثم هبطت إلي الطابق الأرضي، واتصلت بشركتي. رن الهاتف لفترة طويلة. وأخيرًا رد السيد هيذركليف. وكان ما يزال هناك. »السيد هيذركليف؟» »نعم؟»، »أنا تشيناسكي» »نعم، سيد تشيناسكي؟» »أريد دولارين زيادة»، »ماذا؟» »كما قلت. حصل سائق الشاحنة علي زيادة.» »ولكنه يعمل معنا منذ عامين». »أنا في حاجة إلي زيادة». »نعطيك سبعة عشر دولارًا أسبوعيًا الآن وتطلب تسعة عشر؟». »نعم. هل يمكنني الحصول عليها أم لا؟». »لن نستطيع أن نفعل ذلك». »إذًا أنا أستقيل». ثم أغلقت الخط.