»أجلس وإلي يميني جاذبية أبي وأمي، ومدينة بعيدة تبدو الآن قديمة ومعتقة وتأسر القلب كالحبهان، وإلي يساري جاذبية أبسط من القدرة علي الوصف، مُغوية بلا ضوضاء، كالكحل الذي يُظلل نظرة صافية». بتلك الفقرة يوضح عمر طاهر سبب تسمية روايته ب"كحل وحبهان"؛ حيث أن قطبي حياة بطل الرواية هما عائلته المكونة من أبيه وأمهِ وجدته وخاله، ومدينته البعيدة التي تحوي ذكريات طفولته، والذين يمثلون سِحر وجاذبية الحبهان، الذي لابد منه في الطعام والقهوة ليمنحهما بَرَكَتِه، والقطب الآخر هو زوجته »صافية"؛ فتاة عادية ولكنّها ساحرة بصفاء روحها ونظرتها وعشرتها الطيبة، والتي تمثل الكُحل الذي يزيِّن العين ويزيدها بريقًا وألقًا رغم بساطته. هي الرواية الأولي للكاتب عمر طاهر، سبقها عدة مشروعات أدبية، كانت تحمل روح الصحفي الساخر المنقّب عن الجمال في كهف القبح، اختار أن يبدأ مسيرته الروائية من الطريق الأقرب لقلوب الناس، ليس معدتهم ولكن حالة الحنين إلي الماضي ومشاركة الذكريات، ليكتب سيرة إنسان باستخدام الطعام والرائحة. الرواية بروح الثمانينات، وما تسلل منها إلي التسعينات، وفي كل ركن من أركان الرواية تجد نفسك محاصرًا بذكرياتك الخاصة التي تَصادَف أنها ذكريات بطل الرواية وربما ذكريات جيل كامل، وكأننا مررنا علي ماكينة تصوير مستندات لنطبع في أنفسنا (روح بيوت الطبقة المتوسطة، والأغاني الشبابية التي لم تعُد شبابية، والأكلات وطقوسها، والعادات في الأفراح والأحزان).
تَطرُق باب الرواية لِيُفتَح لك باب البيت المصري كما يقول الكتاب؛ فالجدة هي الكوكب الكبير الذي يعيشون علي أرضه الخصبة، وهي ميزان البيت وعين الحكمة وما تضفيه علي الأشياء أو الأكلات أو الأحداث يكسبها جمالًا وطابعًا خاصا ورائحةً خاصة، فالجدة في هذه الرواية تُذكِّر أنفي برائحة الخبز الفلاحي _مستطيل الشكل_ لحظة خروجه من الفرن البلدي المصنوع من الطين ووقوده النار في الحطب والقش، مواقفها ومنطقها في الحياة يجعلها كبطلٍ خارق يفعل الصواب والخير دائمًا. ويمثل الأب »إبراهيم» عمود البيت الذي يرفع القواعد ويضبط ما قد يميل بحزمٍ وحُب، يقول بطل الرواية إن الأب »كان يدير منظومة العقاب"، ولكن أيضًا كان يتخلل ذلك الكثير من الحب وبعضٌ من التدليل، ربما يلّخص العلاقة بين الأب وابنه تلك الفقرة »تغيَّرت الطريقة التي ينادي أبي بها اسمي، كان التدليل يغزوها في الطفولة، ثم التوتر طوال فترة المراهقة، والإشفاق شابًا مُغتربًا مُكافحًا حتي تزوجت». وتجد الأم هي الشجرة التي تمنح الابن الظل والسكينة والثمار، هي من تملك مفتاح قلب ابنها الحقيقي وهو معدته، وعن طريق استخدامها لذلك المِفتاح تَعْبُر إليه وتفيض بالحُب، تأخذ بيده إلي عالم »الراديو» السحري الذي أخصب خياله، وتجعله ملاذه للهروب من بعض آلامه. في حين أن خاله القريب من عمره، هو الصديق والسمير وباب الهروب الخلفي من رتابة الحياة، أو كما يقول عبد الله: »يجمعني بالخال كل ما له علاقة بالحياة؛ الكرة، والأغاني، وأفلام السينما، ولعبة الصراحة، والنميمة، والنكات الفاحشة، وتقليد الأقارب». وذلك ما قد يتمناه أي شخص في صديقه. استخدم الكاتب لغة بسيطة معبرة عن حياة مراهق »عبد الله أو سيسكو"، التي تذكرنا بهولدن كوفيلد بطل رواية الحارس في حقل الشوفان، مع الفارق بين الشخصيتين، فكوفيلد كان غاضبًا ساخطًا، وسيسكو محبًا حائرًا. وبرغم بساطة اللغة تجدها شاعرية وعذبة، فلم يستطع عمر طاهر أن يخلع عباءة الشاعر وأفاض علينا بتشبيهات تجعل ما يصفه _علي سبيل المثال_ من الطعام كقصيدةِ نثر. وبسبب ضمير المتكلم الذي استخدمه عمر طاهر ليكتب روايته، قد يظن البعض أنها سيرته الذاتية، ولكنك قد تشعر _أيضًا_ أنها سيرتك أنت، فبالرغم من أنه لم يذكر اسم المدينة التي هي مسرح الأحداث في مرحلة الطفولة، ستشعر عند القراءة أن كثيرًا من تلك الأحداث تخصك، وأن هناك شيء ما يشبه مرحلة ما من حياتك.
من جهةٍ أخري، ربما كان من الأفضل لو ذَكَر اسم مدينته ليضفي مزيدًا من الخصوصية والصدق علي أحداثه، ولتطبع المدينة روحها علي صفحة الرواية. عندما يَسأل بطل الرواية نفسه، ماذا رأت عيناي أصلًا؟ ستجد الإجابة -وإن اختلفت الأماكن بها- تلمس ذكريات طفولتك، وتأخذ بيدك إلي الماضي في جولةٍ بانورامية، يسردها لسان طفلٍ ولكن بعقل رجل ناضج. ما يؤكد لنا أن عينا عمر طاهر كاميرا تلتقط أدق التفاصيل دون أن تنسي شيء كي لا يختل جمال الصورة، وأنه يمتلك مهارة رسام مُحترِف لا يغفل وضع ولو أدق التفاصيل، حتي وإن كانت مجرد قطرة مطر واحدة في مكان ما في لوحته ليعبر عن طقس اللوحة. وحينما يسأل نفسه: ما هو أجمل ما رأته عيناي؟ ستجده فيلسوفًا وطبيبًا يشخِّص حالته بمهارة، فيقول: »القدرة علي الرؤية تحتاج إلي سلام، وأنا أشعر بعدم الارتياح معظم الوقت، وتؤلمني معدتي كلما اقترب مني التوتر، وهو يظهر لي دائمًا». ويدخل _بعد ذلك_ في حالة فضفضة تغلفها شفافية الأطفال، معددًا الأشياء التي توتره ولا تمنحه الرؤية المطلوبة للإجابة علي السؤال. في مطبخ الرواية ستجد لوحات في حب صنوف الأكل، تجعلك تشتهي ما يتحدث عنه وإن كنت لا تحبه، وهذا يدُل علي تمكُّن عمر طاهر من أداة مهمة في كتابة الرواية وهي دقة الوصف، سواء مكان أو حدث أو حالة، وفي وصفه للأكلات يستطيع أن يجعلك تراها وتشم رائحتها كما لو كانت أمامك، بل قد يُهيأ لك الشروع في الأكل. علاقة الرائحة بالأشخاص والذكريات علاقة وثيقة ومعقدة، فكل شخص وحدث في الرواية له رائحة خاصة يدور في فلكها، فلكلٍ من المراهقة والحُب والعائلة والوحدة والغربة والصداقة والنجاح والفشل رائحة وطعم ولون.يتساءل الكاتب عن الرائحة وبَعدها يُطلعنا علي تأويله لروائح الأشياء؛ كرائحة الكتب القديمة، ورائحة ما بعد المطر، ورائحة النقود، ورائحة القهوة. ومن أجمل مقاطع الرواية المقطع الذي يبتكر فيه سيسكو وخاله تلك اللعبة التي يصبغون فيها المشاهير بروائح معينة، فعلي سبيل المثال »رائحة عبد الحليم حافظ هي تلك الرائحة العشبية الرقيقة التي تنطلق عقب قص الحشائش وتقليم الأشجار وقصقصة فروعها» و"ليلي مراد رائحتها فانيليا» و"سعاد حسني رائحتها كراميل محروق».
في حبكة الرواية يفقد البطل حاسة الشم فقدانًا مؤقتًا، إلي أن يتم إرشاده للعلاج الروحي المتوفر في مطبخ منزله ألا وهو الحبهان، ومنه يبدأ رحلة التغزُّل في التوابل وشرح الفلسفة والانطباع الخاصين بكل تابل، ولا ينسي ذكر أهمية التوابل التاريخية ولاسيما حرب التوابل الشهيرة. يأخذنا »عبد الله» بطل الرواية من الخاص إلي الأكثر خصوصية؛ فأن يتحدث شخص عن عاداته في الأكل ويحكي عن مدي شراهته وشهوانيته للطعام، فهو يغوص في أعماق نفسه بل ويقوم بتعريتها، لأن هذا يعتبر من الأشياء السرية التي لا يمكن البوح بها إلا أمام المقربين كالأب والأم وربما الزوجة. فنجد أننا كقراء –لاشعوريًا- نحن من يتم تعريتنا من الداخل، وكأنه يتحدث عن أدق تفاصيلنا التي قد لا نحب التحدث عنها، وهذا في رأيي من أهم الملامح التي أحدثت تماسًا بين القارئ وروح الرواية. إيقاع الرواية هادئ ومتزن يشبه تسوية الأرز؛ فعلي نارٍ هادئة تتابع أحداث خمسة أيام من حياة البطل وهو في مرحلة المراهقة، يتخللها »تقليب» في خطٍ موازٍ يعرض حياة البطل بعد التخرج وأثناء عمله وقصة حبه التي يُكملها الزواج. وفي النهاية تتذوق الرواية وقد نضجت تمام النُضج فتتمني أن تأكلها مرة أخري. الكتاب: كحل وحبهان المؤلف: عمر طاهر الناشر: الكرمة