بعد مشوار طويل وحافل مع الإبداع والشعر واستمرار متابعة منجزات العربية في كافة أشكال الكتابة بإلقاء الضوء علي معطياتها سواء عبر المرئي والمسموع أو المكتوب تستقر خصوصية القصيدة عند الشاعر الكبير (فاروق شوشة ) علي مرتكزين أصيلين وهامين سواء علي مستوي الابداع أو تجسيد تفرد الملمح الشعري ألاوهما اللغة المستهلمة والرؤية المتألمة وأعني باللغة المستهلمة لغة الإبداع تلك التي يستقطرها الشاعر من خلاصة تجاربه وخبراته التي أبحرت في أحشاء الدر الكامن مع العربية ومعطياتها وموجات جمالياتها المتلاحقة في إطار دخلته المتواصله بكل هذا الصدق المفعم بالحب من أجل الحفاظ علي هويتها والارتقاء بعلاقاتها مع الجماهير وتوطيد زائقة التواصل معها . أو الرؤية المتأملة فتعكس خلاصة الغوص في أعماق المكونات الثقافية للذات لأنها جاءت تجسيداً لرافعية تجربته الإبداعية الممتدة والتي تميل كثيراً للتحليل واستكناه ما تستنبطه الخلفيات وتبدو اللغة المستلهمة من خلال منجزه الشعري محكمة بطبيعة الكل وفي ذات الوقت مناسبة ومتسقة في كل ما تستلهمه من الطبيعة ومن الاختلاجات الشعورية ومن مكونات الحياة علي اطلاقها مما يجعلها دوماً قادرة في تعبيرها عن كل ما تضمره المعاني الشعرية , ناهيك عن جمال تراكيبها وهي تتواتر في تدفقها حاملة انبعاثات هذه المعاني لتصوغ صوراً رائقة ومشتعلة بالألق فلا تشعرك بتكلف أو طغيان لغوي أو ثقافي لمرجعيات الشاعر . كما أن الرؤية المتأملة تقيم من خلال رصدها للإنساني والطبيعي والفلسفي والتاريخي منظوراً تشكيلياً يتوج فضاء القصيدة بجمالية فياضة كالينبوع الذي يتدافع بالماء العذب القادم من مجراه العالي إلي سهل مفتوح ليروي أفق جماله ويزكي عبيره ويألق بهاءه . وفي ديوانه (وجه أبنوسي) الذي حقق فيه شاعرنا (فاروق شوشة) درجة عالية من درجات التوحد فيما بين اللغة والرؤية يتبدي بوضوح هذا الاستقرار الشعري موغلاً بثبات عال في أعماق المشاعر والأحاسيس فجاءت القصائد مثل معزوفات منفردة متفردة تلتقط التجليات المزاجية وتتلقف روعات الوهج التي تمرق في أفق الرؤية ثم ما تلبس أن تنخرط في خصوصية القصيدة وتدخل طيعة في مآثر وضاءتها . والقصيدة في هذا الديوان تصوغ عالمها من تفاصيل ما تعكسه متواليات الحياة وما تمور به من دلالات لتشكل مطلقاً متصل العلاقة هو الآخر بوجدان التلقي ونابض بما يتمثله في يقظته وفي أحلامه , ففي قصيدة (بدايات) وهي مفتتح الديوان ينظر الشاعر للكون نظرة مجردة ومستقلة من خارج خريطته لكنه سرعان ما يجد نفسه بصدق هذه النظرة مجدول المشاعر في تكويناته وهو ما نلحظ في المفتتح حيث يقول .. (أنا الآن أبحر في لغة / لم تكن لغتي / وأخرج من لغة / لم تعد لغتي) , هذه محاولة محتشدة للانفلات من أثقال طالت إقامتها علي الأكتاف تبطئ خطي الشاوير والمبادرات الفعالة المستشرقة للحلم الجديد في كل زمان لكنها ليست منزعاً للانفصال والقطيعة وفق ما هو وارد في سياق القصيدة بل هي تأكيد الدافع إلي تأجج الحيوية والانعتاق من رقبة الثبات والاجترار والتكرار والمحاكاة ... هل انتهي كما بدأت ؟ كما جاء في الفتح أنتِ أنتِ منحني القوس وأنت الدائرة ! وهل هناك ماتزالُ نجمة الشمال في سكانها كان سياجُه المأوي وكنتِ الذاكرة ! تفجؤني برودة الوقت قريب من يدي باب السماء قابع في عشه المقرور عصفور الليالي الماظرة . ثم تنفلت الوهجة الشعرية في قصيدة (وجه أبنوسي) لتتألق اللحظة الماردة وهي تخرج في ثلاثة مقاطع تشتعل فيها الرؤية بجمر التشكيل الموحي للصورة وحيث يتميز الأبنوس بالقوة والجمال والانسيابية فعلت الدلالة فعلها الابداعي في تشكيل خصائصه لكي تري شعراً في ذلك الوجه الذي يلتقط الشاعر من وراء بريقه البهي ما يكشف به عن كنه الرؤية ويستلهم الدافع , فهو في المقطع الأول المنقذ للروح في مواجهة القحط والجفاف الإنساني وفي الثاني يشعل نيران الصدق ويفجر وعده كالبركان ثم يتحلق بهذا الوجه في أفق يشيع عبره الأمان والسكينة ... وجه (أبنوسيٌ) وجهُكِ ... هذا الوجهُ الصافي مثلُ نسيم البحرِ ومثلُ دبيب الجمرِ تقطّر في شفتي ظمآنْ يا سيدتي ضُميّ هذا الوجه وصُونيه لكنْ ... أبداً لا تخفيه هذا وجهٌ يبعد عنْا الأحزان ! هذا الوجه الأبنوسي الرائع يمتد بريقة في دماء قصائد الديوان ليعطي الرؤية الشعرية نضارتها ويتوجها بالبشر والولع الدائم بالتغيير ويؤكد كما هو واضح أن القصيدة عند الشاعر (فاروق شوشة) تتشكل من منطلقات راسخة وهي تمضي باقتدار في أفق الإبداع لملاحقة التحولات النابضة بقوة الأبنوس وانسيابيته كما تعكس وميضها من ثقة مدركة لما يسبح في مدارات الأفق الشعري .