الكتابة الروائية أصبحت في الآونة الأخيرة هدفا من أهداف الكاتب فلي حد ذاتها، باعتبار أن الكتابة كوجود مادي يحقق نوعا من طموح الفن في العصر الحديث، ويحقق -أيضاً- طموح الكاتب في مراحل إبداعه، فينحاز إلي التجريب موائما بين مفرداته الدالة عليه، وبين المعني كروح مسلط علي رقعة العمل. وأصبحت هذه السمة في بعض الأعمال مخيبة للآمال بصورة كبيرة، لأن روح التجريب تنفرد في النص بشكل لافت للنظر، حتي تتغلب علي عناصر البناء الأخري من رموز وشخصيات وأفعال وفضاء، وغيرها من الحركات الروائية. ورواية الكاتب -عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل- "شفاه من الملح" تشكل في بنائها وعناصرها المختلفة طموح الفن من ناحية وطموح المبدع من ناحية أخري، فبداية من دلالة كل كلمة وحتي عمق تركيب النص، وعلاقة ذلك بالحركة الروائية فنجد الكاتب يعمد إلي تقسيم الرواية إلي حركات منفصلة وضع لكل حركة عنوانا مختلفا، (الرسم بالثياب -ظلال المشاعر- أحلام العمر القصير- الوباء- رحيق التألق...) وهي عناوين تعطي بدورها دلالات للعنوان الرئيسي للرواية، وتحتفظ بخصوصية لروح المعني في النص ككل، بالاضافة إلي انها تشكل جزءا أساسياً في بناء الحركة العامة، وتعطي سمات نفسية ومادية للفعل الرئيسي في النص، والرموز التي تتصل بالشخصيات الروائية، والفضاء الذي يصنعه الكاتب، وهو يشكل في "شفاه من الملح" جزءا رئيسا في التشكيل البنائي للحركة الروائية بشكل عام. فالشخصيات الرئيسية فيها تحتاج الي قدر كبير من تحليل الرؤية، لأنها رموز لحركة الحياة في حقبة زمانية تتصل بقضية من أكثر قضايا الوطن، وهذه الرموز بدورها تعطي صوزة لاجتماعيات ونفسيات الإنسان الذي يتعامل بشكل مباشر مع الحياة المالحة ممثلة في بحيرة المنزلة، ونزوح المهجرين من مدن التصدي وتفاعل حركة الحياة بين أهل العصافرة -تلك- القرية المصرية الرمي في حضن الماء المالح، وبين المهاجرين، ثم ينحاز الكاتب من الروح العامة للمعني إلي الروح الخاص بشخوصه، فيتبع بشكل أفقي ورأسي قطاعات في حياة هذه الشخصيات، وما يشكل ذلك للنص من توسع مضموني يشمل حيوات متوازية ليضيف إلي أعماق النص أعماقاً أخري، وينتقل الكاتب من عمق الشخصية إلي التعامل مع المحيط والفضاء كدلالة تتوازي مع دلالة النقل والشخوص صانعاً للنص دلالة مضافة للدلالة العامة، وهذا جعل حركة الراوي مضافة إلي حركات العناصرالسردية الأخري تشبه الشبكية التي تتعامد خيوطها، وتتوازي، وكان السارد هو المحرك لهذه الشبكة بصورة أو بأخري،وبناء عليه يمكن النظر في علاقات النص علي النحو التالي: الراوي وحركات الذات إشكالية الراوي في نص "شفاه من الملح" تكمن في أسلوب المؤلف، والذي يحرك هذه الإشكالية هو كون ضمير المتكلم في النص يتواري الي حد كبير ليحل محله الإخبار بضمير الغائب، فهل جعل المؤلف من رواية مجرد راو ورقي كما يقول د."عبدالملك مرتاض وليم" وهو يتواري خلفه ليعطي ما يشاء من العلاقات في حرية تامة، قد لاتتوافر له في حالة الإخبار بضمير "الأنا" لأن -الأنا- تجعل التباس المؤلف بالراوي شيئا مقبولا إذا قيس بالاحتمالية المصطنعة لضمير "الهو" والقضية الأخري التي أحاول إثباتها هنا تكمن في اصطناع المؤلف الراوي الضمير، بصوته السردي الأول، فيكسبه التوازي حرية في النص، ويجعله محركاً للأحداث أكثر من كونه مشاركاً فيها، باعتبار أن المشاركة في الحديث تعطي بعدا واحدا لفضاء النص، والذي يثبت هذه الفرضية حركة الذات "الذوات" في النص فنجد الدكتور نشأت وهو يقطع الطريق في السيارة في بداية الحركة النصية الثانية "ظلال المشاعر" ومايحيط من حركة الفضاء -الذوات المساعدة- السابق- الركاب فيضان المشاعر عن الإحساس بالغربة والتأمل عند الذات الرئيسية في الحركة "الدكتور نشأت". ثم يوازي الراوي بحركة المسرود حركة داخلية تشبه عملية الاسترجاع وكأن المؤلف يوعز للراوي، وهو بدوره يقود الأخبار داخل الشخصية المحورية ليعطي دلالات تتصل بهذه الذات من ناحية، ودلالات تتصل بروح الحكاية ذاتها، وهذا بدوره يقودنا إلي الحديث عن طبيعة الحكاية في النص، فهي كما يبدو من السرد ليست رواية حدث رئيسي، ولا رواية شخصية رئيسية واحدة، وإنما رواية حكاية نمط حياة، وتصوير لحقبة زمانية من خلال تحرك بانورامي يرصد الذوات، وعلاقات هذه الذوات بالمكان وظلال الحدث الغائب "النكسة". وبهذا فإن قراءة كل حركة من حركات الرواية، يذكر بروح التجريب التي تقود المؤلف في الرواية، إذ يجعل الرابط بين هذه الحركات يكمن في عملية لاخبار نفسها، ثم يكمن في ظلال الحدث الأساس، ثم يظهر بعد ذلك علي طبيعة الأحداث الثانوية في الرواية، كحكاية أثر طبائع المهرجين علي أهل القرية، اليأس الجامح في صدور الذوات المكان (المنزلة- البحيرة- رمز الملح في العنوان، وفي النص). أما البعد الآخر في اشكالية الراوي فيمكن في اصطناع الحكاية، داخل الحكاية أو داخل الموقف، كنوع من الاستباق والاسترجاع، أو كغوص في عمق الشخصيات وطبائعها كما في الحركة السادسة "رحيق التألق" إذ يصنع المؤلف موقفا بين الصديقين "شهاب" و"موسي" ثم يدلف من باب حديث شهاب الطويل والممل علي صدر موسي ليدخل إلي عالم الشخصية دخولا بانوراميا يجعل الراوي أشبه بالهرم فيبدأ بالقاعدة التي يعطي للقضاء منها صورة حية تشعر بروح اليأس، وبالتالي: يشد رباط الحكي ليصل بعضه ببعض. وبهذا يجعل المؤلف من راويه أشبه بمن يمسك قطع الشطرنج ليقوم بدور اللاعبين في التفكير والتنفيذ والحركة، وعليه أن يسهم في ربط طرفي الخيط، بإحكام لايظهر صورته، والتقسيم الذي جعله المؤلف للرواية أتاح له هذه الحرية، وهو يعمل علي أن تكون كل حركة مختلفة عن الحركة الأخري، فتأخذ سمتها العامة من العنوان الذي وضعه لها من ناحية، وتعطي خصوصية لذاتها ولسردها وفضائها النصي من ناحية أخري. الراوي والصورة الفنية في النص كعادته الراوي في الأعمال السردية يحتل مكانة هامة بين كافة العناصر الأخري، وبالأخص، إذا كان من النوع الذي يشيع في رواية "شفاه من الملح"، إذ يميل الكاتب به ميلا واضحا عن جادته التي عرفت عنه في الأعمال التقليدية، فنراه في الأخيرة يتخذ طريقاً واحداً في بناء النص يضفر من عنصر بناء، الحدث، الشخصيات والزمان والمكان، ولكنه هنا يعتمد علي التدوير والتداخل في بناء حركة النص اعتماداً كليا، وبذلك يخرج المؤلف الراوي إلي آفاق تعبيرية وبنائية جديدة، تتماشي إلي حد كبير مع بناءات الصورة الفنية في الأعمال التشكيلية بصفة عامة، وفي الشعر بصفة خاصة. فنراه يقطع في خط سير الأفعال الحكاية تقطيعا متعمداً، ليدخل عناصر الصورة الفنية مكان عناصر الإتساق الذي يعتمد علي التسلسل المنطقي لروح الحكاية، وهذه الصورة الفنية يمكن ادراكها ادراكا كليا، وبتضام كلا الإدراكين، يعطي الأثر الفني للصورة النفسية الروائية، وهذا التعبير الأخير، مأخوذ في الأصل من الشعر والكتابات الأدبية، ولذا فإن شيوعه في الرواية يعد قليلا، وبالتالي فإن الحديث عنه -هنا- يعد حديثا مغامرا إلي درجة كبيرة. فعلي سبيل المثال كان المؤلف يبدأ في تشكيل صورته الفنية، ثم يقطعه ليدخل فيه تشكيلا جديدا، ثم يعود ليكمل التشكيل الصوري الأول فتبدو الصور الفنية متشابكة، وتتشابك معها أخري كالفضاء النصي لزمن الحكي، والزمن الداخلي في الحكاية، وعلاقة ذلك بالمكان والعناصر المكونة له. واعتمد المؤلف علي وضع صوره الفنية حول الشخصية، واستغل كل مدي من أمداء الشخصية لصنع صورة فنية روائية "الجميلة البهنسي" يعطي مداها صورا متعددة، صورة قسمها الكاتب، تبدأ من (فكرية)، "جميلة" وانضمامها للأحزاب الثورية، ثم ينتقل بها إلي علاقاتها مع شخصية (الدكتور نشأت) والجيل الثوري الذي يربطه بها، وروحها الجميلة ثم الصورة التي يجمع بها المؤلف بين الشخصية ومداها، والجو العام للنص. تحت ظلال النكسة إن كل تشكيل يعطي الكاتب رؤية واضحة لموقف شخصياته بين الفعل الأساسي والنص المتمثل في (النكسة) وما أعقبها من أفعال مترتبة عليها، وما أعقب الأفعال من تغيرات علي مستوي تفكير الشخصيات، ومستوي التفكير الجمعي في العمل، وأقصد بالتفكير الجمعي -هنا- القيود الخاصة بوجهات النظر، والمتمثلة في كل شخصية، فعلي سبيل المثال جاءت شخصية شهات تحمل أفكار تعبر في مضمونها عن جماع بموقف الراوي (الكات أحيانا)، ثم جماع الموقف النصي، ويسقط الراوي في نفس الوقت روح المكان، وتشكيلات الفكر الخاصة بموقفه النصي، بدورها المعني القار في نفس الكاتب.. تحت ظلال النكسة يحب شهاب أن يكون عنده بندقية، أخفي معاناته في الحلم الذي يغرقه بين أهداب جميلة، لشهاب جميلة.. يتلاشي همه بالدخول في أحضانها، تسري في بدنه النشوة، أما أنت، لا صدر.. لا أحضان.. يخرج شهاب علي أصدقائه، صباحاً مبلل المشاعر بريق جميلة، قال المسئولون في الاتحاد الإشتراكي تعاضدا مع احداث العصافرة بأعصاب باردة: ينظرون إلي المهرجين باحترام مشوب بالخوف، ولايكترثون بمشاكل أهل البلدة، ولابمشاعر أبنائها ويصرخ الشباب. كيف يتعامل ملتهبو الأعصاب ومتأججو العواطف من الشباب مع جبال الثلج؟. فالكاتب يحاول أن يدخل السرد الخاص بمواقف الشخصيات، ويضفره في السرد الخاص بالمواقف العامة في النص، ويأتي ذلك إما علي لسان الشخصية في مواقف صادقة أو يأتي ذلك علي لسان الراوي، وفي أحايين كثيرة يتداخل سرد الشخصية مع سرد الراوي، وقد فعل الكاتب ذلك ليرسخ مبدأ اعتمد عليه في الرواية، وهو ربط الجو العام السردي، والحواري الخاص بالعناصر المشكلة لجملة النص، وبالفعل العام (الغائب) واحالة جميع ما يتصل بهذه العناصر، سواء كانت مضامين خاصة برؤي الشخصيات، أو كانت مواقف نابعة من حركة الشخصية، إلي ذلك الفعل. فالتشكيل في القطع السابق تشكيل تصويري يجمع بين التصوير العام للشخصية، وبين التصوير الخاص والحلم الذي يعد الموتيفة (الحركة) الأساسية المبنية عليها حركة النص، كما يربط ذلك بالفعل العام ويدخل إلي المقطع ويخرج منه بسرد الموقف الخاص بشخصية (شهاب) ويجعل من (جميلة) معدلات لروح الحلم الجميل الذي يراود خياله. الحرية التي تراود أبناء الملاحة، وأجيال الكادحين، الذين تحملوا علي أرواحهم واجسادهم وأفكارهم ثقل أجيال كاملة من الفساد السياسي والاجتماعي بجميع صوره، وجميلة وإن كانت تشكل معادلا لهذه الحرية، فقد جعل الكاتب للمكان ولحركة النص، وللطبيعة والواقع سلطة كبيرة علي روح الشخصيات، لأن الواقع هو الذي يأسرهم، أما لفعل الهزيمة ، فقد كان التغلب عليه سهلا، لو أن الحلم اتخذ مسارة الطبيعي بين كل فئات المجتمع المسئولة عن الهزيمة.