في ديوانه الأحدث »لا أراني» يضعنا الشاعر المصري أحمد الشهاوي أمام ذات تحدّق كثيرا في مراياها ومرايا الوجود بحثًا عن نفسها، واستكشافًا لأناها، ذات تريد أن تري نفسها، بما يحمله فعل الرؤية من ظلال صوفية كعملية »الكشف» الذي يعني إزالة الحجب، وبما يحمله معني الرؤية من دلالة تتجاوز فعل المشاهدة البسيطة وبما يتشارك به فعل »أراني» مع معني »الرؤيا» بدلالاته المفارقة. ويتبدي في خطاب الشهاوي الشعري مركزية الذات، لا في تَمثُّلها نفسها فحسب، وإنّما -أيضًا- في تمثلها العالم والوجود. فالذات أمست قطبي العملية الفعلية، هي الفاعل والمفعول معًا، الرائي والمرئي في آن. وإذا كان الديوان الموسوم بعنوان »لا أراني» يتكون من أربع وخمسين قصيدة تمثِّل محاولات الذات في الرؤية، فإنّه بملاحظة أنّ أيًّا من عناوين القصائد الأربع والخمسين لا يحمل هذا العنوان »لا أراني»، فبإمكاننا أن نستنتج أنَّ حاصل مساعي الذات في رؤية نفسها واستكشاف أناها هو اللا-رؤية. ولكن هل يعني هذا العنوان، »لا أراني» نفي الرؤية بمعني انعدامها؟ أم يعني أنّ الذات لا تري أو بالأحري لم تجد نفسها التي تنشد بعد؟ ومن هنا، تأتي مراوغة النفي المستعمل في عنوان ديوان أحمد الشهاوي، كما في متن نصوصه؛ فليس النفي- عند الشهاوي- بريئًا من عمدية المراوغة، فالنفي لا يعني فقد الذات للرؤية بقدر ما يعني حالة عدم رضا لها عن رؤيتها لأناها في وجودها المحايث وكينونتها الآنية. الاستكشاف المرآوي تدخل الذات في خطاب أحمد الشهاوي في ديوان »لا أراني» في حالة من الاستكشاف المرآوي، بعد أن استحالت الذات نفسها موضوعًا لتفحصها وتأملها الوجودي الموغل في استكناه أغوارها وتَبصُّر ماهيتها واستشراف مصيرها الوجودي. وفي علاقة الذات بالمرايا يتبدي إقرار الذات واعترافها بحضور قوي للمرايا في عوالمها الوجودية: مثْلمَا أنا مَدِينٌ لأبي باسمي فلأعترف بأنَّني مَدِينٌ للمرايا بوجهيَ.. عَاريًا من الزَّيفِ. (ص79). هل تشعر الذات بأبوة ما للمرايا لها؟ هل تري الذات أن المرايا تمنحها هويتها الحقيقية؟ الواضح أنّ الذات تعيش حالة من الاستكشاف المرآوي، وكما يتبدي من الحضور الجمعي للمرايا، فإنّ ثمة غير وجه للذات، وجوه عديدة تكثر بتعدد تلك المرايا. وإذا كانت الذات، كما من عنوان الديوان، تنفي رؤيتها لنفسها، فإنّ هذا النفي يبدو رغبة تراود الذات وتسعي إليها: أحب منَ النحوِ ما يُثْبِتُ النونَ في نقطة الصدرِ ومن المرايا ما لا أرَاني فيها. (ص13). إذا كان النحو هو أجرومية اللغة، فإنّ علاقة الذات في تمثلها اللغة وحروفها، وحداتها الأولي البنائية تقرنها بالجسد أو بالأحري بالذات نفسها بما يعنيه »الصدر» من مركز الأحاسيس والمشاعر النفسية. ولكن ما علاقة المرايا بالنحو؟ هل تكون المرايا »نحوًا» للذات والأنا؟ ولماذا تريد الذات الغياب عن المرايا وعدم التمرئي فيها؟ هل هي خشية من الذات- كما في الأساطير- من أنّ تمرئيها عبر المرايا قد يدنو بعمرها من أجله؟ أم هي رغبة في عدم التحدد أو التقيد بتمرئي ما عبر المرايا؟ إيثار التخفي والوحدة تبدو علاقة الذات بنفسها- عبر فعل الرؤية- قلقة، وكأنّ اضطرابًا ما يداهم الذات في معاينتها لنفسها، لذا تؤثر الذات- في النهاية- التخفي: أحيانًا أراني وأحايين كثيرةٌ لا أعثرُ عليَّ أحبُّ أن أبقي مخفيًّا عنّي وعن أعينٍ تثقبني عبرَ الحوائطِ والسقُوف. يبدو فعل انعدام رؤية الذات لنفسها كرغبة نفسية من الذات في التخفي عن نفسها وعن الآخر، غير أنّ الغالب هو تخفي الذات وامحاؤها، فيبدو تحصن الذات بالتخفي من الآخر الذي تخشاه وتخشي اختراقه لها وانتهاكه لخصوصيتها، فكأنّ »الآخر هو الجحيم» بالنسبة للذات التي تنأي بوحدتها بعيدًا عن هذا الآخر الذي ترتاب فيه: أحبُّ كثيرًا أن أُغَلِّقَ أيَّ باب عليَّ رغمَ أنَّ الوَحدة تشاركُني المَبيتَ سمِّها الوحدةَ لا العُزْلةَ- فأنا اعتدت العددَ المفردَ والحروفَ اليتيمةَ التي ماتت نقاطُها في السديم كأنَّ الآخر يعُدُّ أنفاسي علَيَّ. تُؤْثِر الذات مفهوم »الوحدة» علي »العزلة» اعتدادًا بنفسها، رُبما لأنّ الوحدة تعكس إرادة ما فردية، بينما تشف »العزلة» عن نقص ما وفقد ما للآخر، فقد صارت الوحدة شريكًا للذات في المبيت أي بديلاً عن الآخر الذي يغيب أو بالأحري تُغَيّبه الذات. ومما يتبدي من الجملة الاعتراضية (- سمِّها الوحدةَ لا العُزْلةَ-) التي ينتقل فيها الخطاب الشعري من ضمير المتكلم إلي ضمير المخاطب أنّ ثمة انشطارًا ما يقسم الذات التي تعاين وحدتها في وعيها الشقي؛ فتمثل عملية المراوحة الضمائرية الالتفاتية لإيقاع الذات النفسي في تردداته، لتمثل المسافة بين ضميري المتكلم والمخاطب المسافة بين الذات الموضوعية والذات الجوانية. الفقدان والسلب المعاين لأحوال الذات في الخطاب الشعري بديوان »لا أراني» لأحمد الشهاوي يجدها في حالة شعور ضاغط بالفقدان والسلب والغياب، وهو ما يتبدي في شيوع »اللااءات» بهذا الديوان، فتقول الذات الشاعرة عن فقدها: لا اسمَ لي ولا نهرَ يطل بيتي عليه لا منفي يلم عظامي ولا وطنَ يُدفِئُ تربتي.(ص36). تشعر الذات بفقدان متعدد؛ إذ تفقد الاسم أي الهوية والخصوصية، والنهر بما يعنيه من امتداد حيوي وبما يحمله النهر في الوعي الجمعي لا سيما للمصريين وغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة من قداسة خاصة واعتقاد بكونه مصدرية للحياة، كما تفتقد الذات الشعور بالاحتواء سواء في منفاها أو وطنها، إحساس اغترابي سواء في غربتها أو موطنها. وأحيانًا ما تعبر لاءات الشاعر عن افتقاد الذات أدواتها ووسائلها في مقابل ما عليها من استحقاقات وأدوار يلزم أن تؤديها؛ كما في قصيدة بعنوان »ليس في البيت سوي لا»: لا حبر في القلم وعليَّ أن أكمل هذي القصيدة لأروي عطش هدهدي اليتيم. لا عودَ ثقابٍ في جيب المجاز وعليَّ أن أشعل النار في اللغة. (ص103). ثمة شعور ما يراود الشاعر بجسامة الأدوار و »الواجب» الذي عليه أن يؤديه في مقابل افتقاده أدواته وأسلحته، إحساس بلامواتاة العالم لطموحات الشاعر وأحلامه. شعور بمحدودية الوسائل إزاء اتساع وعي الشاعر بعالمه الوسيع اللامتناهي. وفي تمثل علاقة المجاز باللغة يري الشاعر بأنّ المجاز هو ما يشعل اللغة لا العكس، وكأنّ الشعر هو وقود اللغة ومؤجج حرائقها الجمالية، وكأن الشاعر هو المشعل لثورات اللغة، فيبدو الشاعر في صراع وجودي مع اللغة ومن أجلها: تعبتُ من الرتابة وليس في البيت سوي لا وعليَّ أن أقتفي أثر الظلال أو أتبع القلب حيث تكون الفريسة قد نضجت شمسُها. (ص104 - 105). يتضاعف شعور الذات بالفقد والسلب بوجودها في البيت لإحساسها برتابته، وضرورة الخروج إلي الخارج لاقتفاء أثر الظلال، ولكن هل تكون الظلال هي ذوات أخري شبحية للذات؟ ذوات فائضة بديلة؟ ثمة شعور يساكن الذات بكونها حبيسة الداخل: لا أبواب لي أو نوافذ وإن كان فهي عمياء لا تري. (ص95). إذا كان الباب أو النافذة هما وسيلة الذات للانفتاح علي الخارج والتخفيف من حدة الشعور بالاحتباس في الداخل؛ فإنَّ الذات تشعر بقطيعة ما وانفصال إزاء الخارج، لكنّ المفارقة تتبدي في أنّ حالة الفقد والسلب هذه هي التي تخلق الشعر، فمن رحم المعاناة تولد القصيدة: لا مدَّ في البحرِ أو في النهرِ سِوي مدٍّ لأذقان السواحل. بين جزر لا يجيء مُصَادفةً يُصبح الإيقاع عبدًا للقصيدةِ وتأتمرُ الشموسُ بأمر مرشدها ولا ترتاح إلا علي حبر يمينه. (ص39). ثمة شعور ما يداخل الذات بالجزر والانحسار الكوني، وفي المقابل يعلن الشاعر عن تبعية الإيقاع للقصيدة وخضوعه لها لا العكس، وكأنّ الفن يخلق وسائله ويطوعها لأغراضه واستخداماته لا العكس، وتقوم الصورة الشعرية- لدي أحمد الشهاوي- علي ما يمكن أن نسميه بالتناظر الصوري؛ فخضوع الإيقاع للقصيدة يناظره ويوازيه صوريًّا خضوع الشموس لأمر مرشدها، وهو ما يرفد شبكة الصور الشعرية بمنابع متعددة للتدفق التصويري.