38923 طالبًا وطالبة استقبلتهم جامعة حلوان في اختبارات القدرات    بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يبدأ اجتماع مناقشة أسعار الفائدة، اليوم    تنطلق اليوم، تعرف على تفاصيل ومحاور المبادرة الرئاسية "بداية جديدة لبناء الإنسان"    وزير الإسكان يعقد اجتماعه الدوري مع أعضاء البرلمان لبحث مطالب دوائرهم    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الثلاثاء    أسعار الحديد اليوم الثلاثاء 17-9-2024 في أسواق محافظة المنيا    ارتفاع الفائض التجاري في إندونيسيا إلى أعلى مستوياته منذ 3 شهور    مع زيارة رئيس الوزراء.. حجم الاستثمار والتبادل التجاري بين مصر والسعودية    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الفيتنامي تعزيز التعاون المشترك    جوتيريش: لا شيء يبرر العقاب الجماعي للفلسطينيين    الأردن يتسلم جثمان منفذ عملية أودت بحياة 3 إسرائيليين على جسر الملك حسين    كيف تعززت الروابط الاقتصادية بين مصر والسعودية في سنوات؟    صدارة غير متوقعة، ترتيب الدوري الإيطالي عقب الجولة الرابعة    مواعيد مباريات الثلاثاء 17 سبتمبر - دوري أبطال أوروبا بشكله الجديد.. وتريزيجيه يواجه الهلال    ترتيب اليوم الثالث للدوري السعودي الإلكتروني للسيدات للعبة ببجي موبايل    محسن صالح: صفقة بن رمضان لم تتم لهذا السبب.. وحزين على رحيل ديانج عن الأهلي    حبس المتهم بقتل نجل عمه بسبب خلافات أسرية بأوسيم    تعديلات جديدة على تشغيل القطارات، اعرفها    تفاصيل مسلسل صبا مبارك في رمضان 2025    "جولة منتصف الليل".. إحالة 4 أطباء في مستشفى بأسيوط للتحقيق    طريقة عمل لانشون الدجاج، بمكونات بسيطة وغير مكلفة    أسعار المانجو في سوق العبور اليوم الثلاثاء 17-9-2024    «الأرصاد»: طقس الثلاثاء حار على أغلب الأنحاء..والعظمى بالقاهرة 33 درجة    اليوم.. الجنايات تستكمل محاكمة متهمي "تنظيم الجبهة"    تفاصيل انطلاق اختبارات «كابيتانو مصر» لاكتشاف المواهب الشابة بمحافظة قنا    حرائق مدمرة في بيرو.. مصرع 15 شخصا واندلاع النيران بجميع أنحاء البلاد    تامر حبيب يهنئ منى زكي باختيار فيلمها «رحلة 404» لتمثيل مصر في الأوسكار    أكرم حسني يحتفل بعيد ميلاد ابنته بطريقة كوميدية (صورة)    اختفاء مروحية على متنها 3 أشخاص في منطقة أمور الروسية    اليوم.. انطلاق أكبر ملتقى للتوظيف بمحافظة المنيا لتوفير 5000 فرصة عمل    فيديو.. استشاري تغذية يحذر من الطبخ في «حلل الألومنيوم».. ويوضح طريقة استخدام «الإيرفراير» للوقاية من السرطان    ب أغاني سينجل ..محمد كيلاني يكشف عن خطته الغنائية المقبلة    ضبط مسجل خطر لسرقته الهواتف المحمولة بالمرج    أهالي قنا يحتفلون بالمولد النبوي بمسجد سيدى عبد الرحيم القنائي    نوستالجيا.. 20 عاما على أول ألبوم منفرد ل تامر حسني "حب" لمناقشة مواقف حياتية ب حالات الحب    مختار جمعة يرد على فتوى اسرقوهم يرحمكم الله: هدم للدين والوطن ودعوة للإفساد    حزب الله يستهدف تحركات لجنود إسرائيليين في محيط موقع العباد    هل يجوز الحلف على المصحف كذبا للصلح بين زوجين؟ أمين الفتوى يجيب    مناقشة رواية «أصدقائي» للأديب هشام مطر في مهرجان «فيستيفاليتريتورا» الإيطالي    أحمد فتوح.. من الإحالة للجنايات حتى إخلاء السبيل| تايم لاين    محافظ البحيرة تشهد فعاليات مبادرة «YLY»    استخدام جديد للبوتكس: علاج آلام الرقبة المرتبطة بالهواتف المحمولة    ثروت سويلم: سيتم الإعلان عن شكل الدوري الجديد وسيكون مفاجأة    كرة نسائية - رغم إعلان الأهلي التعاقد معها.. سالي منصور تنضم ل الشعلة السعودي    استبعاد مدير مدرسة اعتدى على مسئول عهدة في بورسعيد    تكريم 100 طالب والرواد الراحلين في حفظ القرآن الكريم بالأقصر    احتجاج آلاف الإسرائيليين بعد تقارير إقالة "جالانت" من وزارة الدفاع    إصابة شخصين إثر تصادم دراجة نارية وسيارة فى بنى سويف    خاص.. غزل المحلة ينجح في ضم "بن شرقي" خلال الميركاتو الحالي    محافظ المنيا يشهد احتفالية الليلة المحمدية بمناسبة المولد النبوي    الشوفان بالحليب مزيجا صحيا في وجبة الإفطار    دار الإفتاء: قراءة القرآن مصحوبة بالآلات الموسيقية والتغني به محرم شرعًا    د. حامد بدر يكتب: في يوم مولده.. اشتقنا يا رسول الله    نشأت الديهي: سرقة الكهرباء فساد في الأرض وجريمة مخلة بالشرف    وزير الثقافة يفتتح "صالون القاهرة" في دورته ال 60 بقصر الفنون.. صور    ضبط المتهمين بسرقة مبلغ مالى من تاجر في الهرم    قطر: الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مثال صارخ لتردي وغياب سيادة القانون    إبراهيم عيسى: 70 يوم من عمل الحكومة دون تغيير واضح في السياسات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



همس النجوم.. ومورفولوجيا تشكلات القص المحفوظي
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 01 - 2019

تمثل قصص نجيب محفوظ بشكل عام النموذج المثالي للحال الإبداعية التي يكون فيها النص برنامجا أو منظومة لإنتاج المعني، هو دائما ما يضع قيما في مقابل أخري ولكن الجميل في تقديرنا أنه يذوب في الصورة الأولية للدلالة وتصبح هذه القيم غائرة وغير مكشوفة أو غير بدائية ساذجة، بل تصبح في أعلي مراتب التذويب الفني والتحلل في تربة الثقافة والواقع الاجتماعي ومفرادتهما. الخير في مقابل الشر أو النور في مقابل الظلام أو العلم في مقابل الجهل أو الحق في مقابل الباطل هي المادة القيمية التي يشكل منها قصصه وسرده بشكل عام، ولكن المعالجة السردية أو ما يسمي لدي اليميائيين بالترهين والتحيين والتخطيب، هي التي تصنع الأسلوب وتنتج هذه الفرادة الأدبية. أتصور أن كثيرا من الجهود النقدية استهلكت نفسها في محاولات لكشف مضامين نجيب محفوظ والاشتغال علي مسألة التفسير والتأويل عبر مسارات أقرب للحدس منها إلي منهج علمي أو برنامج قرائي له إجراءاته التي تقابل البرنامج السردي والإبداعي بإجراءاته وخطواته. جوهر الإبداع في تقديري وخصوصية السرد تتكشف في هذه المرحلة التحويلية التي تأخذ فيها الأفكار الكبري وهذه العلاقات الافتراضية بين القيم من تقابلات أو صراع بين الخير والشر شكل قصة في مكان معين وبيئة معينة وثقافة محددة ووفق هيئة إنسانية أو تشخيصية محددة دون أخري. وأتصور أن هذا هو المسار النقدي الأكثر دقة لمقاربة خطاب محفوظ السردي لمعرفة أكبر بسماته وتفرده وفق تحديدات علمية وليس مجرد مزاعم أو رؤي فردية من هنا وهناك. كما كتب محمد شعير في تقديمه لهذه القصص الثماني عشرة التي نشرت في مجموعة همس النجوم لا تختلف هذه القصص كثيرا عن عوالم نجيب محفوظ، فكلها تدور في الحارة والأنماط الإنسانية التي أنتجها هي المعروفة في الأعمال الأخري، مثل شيخ الحارة وإمام الزاوية ورجال القبو من الصعاليك والحرافيش أو بقية الشعب خارج دوائر السلطة، وكذلك هناك دائما التاجر الكبير صاحب النفوذ عبر أمواله وهو قريب دائما للسلطة ولشيخ الحارة وله علاقة قوية به، وكأنه دائما نموذج الرأسمالية التي تحكم بشكل غير مباشر وصاحبة نصيب كبير في السلطة ليس فقط علي مستوي الدولة ولكن علي مستوي العالم كله، فالحارة عنده دائما وليس في مجموعة همس النجوم فقط هي مثال للعالم أو للوجود كله. وكذلك لديه أنماط ثابتة من العائدين إلي الحارة بعد مدة غياب غامضة يعودون محملين بالأسرار والاختلافات في الهيئة، وهي غالبا ما تكون اختلافات جوهرية تخص الحكمة أو المعرفة أو الولاية بالمعني الديني أو سمات نفسية كالإصرار علي الثأر أو الإصرار علي إصلاح ما أفسدوه سابقا. فالأنماط تقريبا هي هي نفسها التي تحصرها رواية الحرافيش حصرا، ورواية الحرافيش في تقديري هي النموذج الفني الشامل والأكثر اكتمالا وجمالا لدي نجيب محفوظ. هناك كذلك بين شخصيات هذه المجموعة وأنماطها الإنسانية التي أنتجها سردها شخصيات ترتبط بالغيب أو تصبح ذات طبيعة سماوية أو وسيطة بين الواقع المادي أو الفيزيقي وبين الماورائيات والغيب، شخصيات تبدو مسخَّرة أو مدفوعة بشكل قدري نحو أداء رسالة أو إنجاز تكليف غامض. ثمة كذلك شخصيات ذات طبيعة أو بنية خرافية عجائبية أو أقرب للموروث الجمعي والأسطوري المقابل للعقل مثل قارئات الغيب أو ضاربات الرمل والودع وأولياء الله الصالحين الذين يعرفون الأسرار والغيب ولا يملكون إلا التلميح دون التصريح والبوح. وما قد يكون لافتا أو يدعو للتساؤل هو غياب نمط الفتوة عن قصص هذه المجموعة، وربما يكون الفاعل في هذا هو كونها كُتبت في مرحلة متأخرة وهذا النموذج تحديدا قد تم استهلاكه إلي حد بعيد من قبل محفوظ نفسه وأصبح واضحا في دلالته علي السلطة، بينما ظل نمط شيخ الحارة هو المهيمن وهو العنصر الثابت في كل القصص وفي تقديري أنه يشير إلي العقل والحكمة دون أي معني في التراتب الطبقي أو السلطوي، فشيخ الحارة في هذه المجموعة أقرب إلي نموذج تجريدي يراقب ويحلل ويمنح الرأي المتوازن ويقوم بأدوار توفيقية أو تأليفية بين المعاني والقيم المتصارعة، فهو يتوسط بين الخير والشر ويحاول التهدئة أو صنع التوازن، ويميل دائما إلي تجاوز الغيبيات ويصدق فقط المادي والمحسوس وهذا ما نراه في أكثر من موضع، فهو لا يميل مثلا إلي آراء غيبية فيما يخص السهم المجهول الذي قتل المعلم زين البركة في قصة السهم، وكذلك يرفض التفسيرات غير العلمية في العاصفة التي اجتاحت الحارة ، وكذلك يرفض هذه التفسيرات في ظاهرة غريبة أخري تجتاح الحارة وهي عدوي البكاء الشديد المجهول الأسباب في قصة (نصيبك من الحياة).
قصص هذه المجموعة مثل كافة نصوص نجيب محفوظ السردية سواء الرواية والقصة تقارب الكليات أو السرديات الكبري وتجعل من الحارة برنامجها السردي الذي يغير في مكوناته ووظائفه ليصنع قصصا جديدة ويولد الحكايات المختلفة من العناصر نفسها. بمعني أنها كتابة تنتمي لعصرها المشغول بالكليات وبالقيم الكبري مثل الخير والشر والظلم والعدل والحرية والاستعباد والعلم والجهل والنور والظلام... إلخ. والحقيقة كذلك أنه يجب مقاربة قصص هذه المجموعة في إطار السردي المحفوظي نفسه ودون انفصال عنه لأن هذا قد يسهم في كشف الاختلاف فيها أو ما بها من تطور أو ربما إخفاق ناتج عن ضعف في القدرات الحيوية لنجيب محفوظ الذي هو في النهاية إنسان يمر بكافة مراحل القوة والضعف البدني والذهني، وجزء مهم من أسطورته ونجاحه العظيم يتمثل في هذه الطبيعة البشرية التي تمكنت عبر منهج تفكيري وكتابي وإبداعي معين من إنجاز هذا الإنتاج السردي الضخم والفريد كما وكيفا. هذه القصص بما فيها من الإمكانات والقدرات السردية الأكيدة وبما قد يشوبها من القصور أو الضعف في منظومتها البنائية تسهم في الكشف عن القواعد والقوانين الضمنية الكامنة في عقل محفوظ أو ذهنيته المنتجة للحكايات والسرد. والحقيقة أن من الأمانة أن أبوح هنا بما شعرت به حيال بعض قصص هذه المجموعة من وجود عطب ما أو خلل ما في بنيتها السردية أو في البرنامج الحكائي للقصص، فالقصص وفق رؤية السيميائية السردية تأخذ شكل خطاطة سردية تبدأ في التكون في العقل وفق نموذج افتراضي أقرب لقاعدة رياضية تضع معني في مقابل معني أو قيمة في مقابل أخري، وكذلك تبدأ بما يسمي بالبنية الأولية للدلالة أو النموذج التأسيسي أو التكويني، ثم مرحلة التحيين والترهين، وبعد ذلك التخطيب أي تحويل هذه البني الأولية إلي خطاب سردي تتجلي فيه هذه القيم عبر شخصيات وأحداث وأفعال ومشاعر أو ما يسمي بالتوتير وسيمياء الأهواء أي العواطف والمشاعر مثل الغيرة والحب والغضب والكراهية وغيرها التي تنتج الأفعال أو تتسبب في الحدث وتخلق حالا من التوتر في بنية الخطاب السردي وتسهم في جعل المتلقي في أكبر حالات التشويق والترقب للقادم من بنية الخطاب السردي. القيمة الدلالية الواحدة الكامنة في العقل أو التي يبدأ منها تكوين الحكاية بشكل افتراضي أشبه بمعادلة رياضية مثل قيمة الثأر تأخذ وضعيات حضور مختلفة في السرد بحسب البيئة أو الثقافة التي سيتم صنع الترهين والتحيين منها، أي الثقافة أو البنية الاجتماعية والمعرفية هذه التي سيتم تطبيق قيمة الثأر عليها. فصراع الفتوات في الحارة يختلف عن الصراع في بيئة أخري كالصعيد المصري، الثأر لدي الحرافيش الذين يريدون تحقيق العدالة واستعادة الحقوق غير الثأر عند رجال العصابات أو التنظيمات الإجرامية في أعمال أخري أو لدي كتاب آخرين، الثأر في الثقافة العربية أو في المجتمع المصري علي سبيل التمثيل يأخذ شكلا مغايرا عنه في مجتمع غربي أو في ثقافات شرق آسيا. وكذلك فكرة الحصول علي الحبيبة أو قيمة النضال من أجل الحب تأخذ أشكالا سردية عدة بحسب الثقافة وبحسب تنويعات الكاتب نفسه ومغايراته في أدواته ومعادلاته أو قدرته علي إنتاج أكثر من تطبيق سردي للنموذج الواحد، ففي حالات قد ينتقم الحبيب إذا فقد حبيبته وفي حالات أخري يكون مصرا علي الهرب بها أو يواجه المجتمع والأهل وينتصر عليهم أو ينهزم، وهكذا.
قصص مجموعة همس النجوم علي قدر كبير من التشويق برغم كونها تنتمي لعوالم نجيب محفوظ التي قد نتصور أنها مكررة أو مستهلكة. فالحقيقة أن الملكات والقدرات السردية الخاصة بالزمن وترتيب وحدات الحكاية وأحداثها في الخطاب السردي تنتج حالا من التوتر والتحفيز وتجعل القارئ شريكا من البداية في رحلة بحث - طويلة أو قصيرة بحسب فضاء النص – عن لغز أو سر أو يحاول أن يفهم هذا العالم الغريب أو الحالة الغريبة التي ينتجها السرد. في قصة مطاردة التي هي نموذج رمزي بسيط علي فكرة تعقب صاحب الحق لحقه وإصراره عليه ودور شيخ الحارة في التوفيق بين زكية صاحبة الحق والمعلم عثمان ظالمها، ولا تزيد عن هذا من حيث محتواها الدلالي أما جماليا فنجد أن البنية السردية تزيد علي هذا لتنتج قدرا من التشويق والتوتر عبر التفاصيل الصغيرة والمشهدية التي ترصد المشاعر وما وراء الكلام والكامن في نفوس الشخصيات. فالمعلم عثمان لا يتحدث مع زكية المرابطة بالحلوي عند باب دكانه بوليدها علي ذراعها إلا حين يجد المكان خاليا، وحين يتكلم يتكلم همسا، ليكون باحثا عن التخفي وهو ما يمكن استثماره تفسيريا لاستنتاج كونه هو والد الطفل ومنكره أي أنه هو الذي يسلب الأم وطفلها حق الاعتراف بالأبوة والنسب دون البيوت التلاث الأولي التي ألمحت إليها بنية السرد في أول القصة حين تجولت زكية في أول مشهد بين البيوت الثلاثة في أول دخول إلي الحارة والعودة إليها بالطفل علي ذراعها. وغيرها من مواضع التوتير/ صنع التوتر وتشكيل البنية الشعورية للشخوص، فنجدها كذلك علي قدر من التشويق في موضع آخر من القصة حين ينقل شيخ الحارة عرض المعلم عثمان إلي زكية فتصمت زكية مدة طويلة تحفز المتلقي علي تخيل احتمالات عدة لردة فعلها بين القبول والرفض أو الثورة والعنف سواء ضد المعلم عثمان وحده أو شيخ الحارة أو ضدهما معا. وتتكرر هذه اللعبة السردية من القدرة علي إنتاج التشويق وصنع التوتر في هذه القصة وغيرها.
وفي قصة توحيدة تنتج شعرية القصة من موقع الراوي أو زاوية الرؤية بشكل خاص لأن السرد الذي يأتي علي لسان الراوي المشارك أي الحاضر في القصة ويتحدث بصيغة المتكلم يصبح في موضع المراقبة لتطورات الزمن وما يصنعه في النفوس والشخصيات وكأنه هو البطل الثابت أو الفاعل الأوحد في الجميع يبدل فيهم كيفما يشاء. فهذه الزاوية للرصد أو نقل الأحداث والإحساس بها هي أبرز ما في القصة من الوضعيات الفنية المناسبة لأن عبرها تجلت مشاعر الشخصية التي باحت بآثار الزمن علي الآخرين وكيف شعر بالغربة بعدما هيمنت فاعلية الزمن في الوجود حول صاحب الصوت في القصة وغيرت عناصر عالمه بالموت والهجرة أو الارتحال والخروج من الحارة أو ما يكون من تطور في التعليم أو الثقافة أو الوعي بحيث يصبح الكون أو الوجود شيئا آخر مختلفا عما ترسخ في وجدان هذا المراقب في الطفولة، ويكون هذا هو السبب المباشر في تكريس الشعور بالاغتراب وتبدد الألفة.
علي أن السمة الأبرز في هذه القصص هي طاقاتها الرمزية النادرة أو غير المتكررة أو نادرة التوافرة عند غيره من الكتاب الآخرين أو النصوص السردية الأخري المصمتة إن جاز التعبير، فسمة مهمة من سمات سرد محفوظ بشكل عام وسرد هذه القصص أنها تحمل مستويات دلالية أبعد بكثير من مجرد الحال الواقعية التي جسدتها عبر شخصياتها وأحداثها، فهي ليست مجرد حالات من الظلم الإنساني العادي بقدر ما هي محاولات للتأريخ للإنسانية أو التعبير بشكل رمزي عن الحوادث الكبري في هذا الوجود وبخاصة ما يخص الرسالات السماوية أو علاقة الأرض بالسماء أو الوجود المادي بالغيب والآلهة. وهذا الطابع الرمزي هو تعديد في الأساس لمستويات القراءة ولا يحدث فيه أدني تعسف بل إن العلامات الدالة أو المشكلة للنص وكذلك المنظومة السردية نفسها المتمثلة في منطق الخطاب بعد تضام وحداته وتفاعلها مع بعضها تتيح هذه الفرضية التأويلية المنبنية علي الرمز، إذ تقدر هذه البنية السردية للنصوص علي الإيحاء والاشتباك غير المباشر مع أبنية معرفية خارج السرد من قصص تاريخية كبري. فمثلا قصة نبقة في الحصن القديم يمكن فهمها بحسب عقلي أنا الاستقبالي أو القرائي علي أنها أحد تجليات قصة النبي محمد في ذهن نجيب محفوظ، ومثلها بالضبط قصة ابن الحارة، فالقصتان تكرسان لبناء النموذج الإنساني المكلف برسالة أو المسخر لأداء مهمة غيبية غامضة، يعرف الأسرار أو يُوحَي إليه عبر صوت غامض في الحصن القديم ويعمل علي أداء هذه الرسالة بأمانة وتجرد ولكن آثار هذه الرسالة أو تأثير حضورها في عالم الحارة هو الذي يكون نقطة تحول كبري في حياتها أو في عمر هذا الوجود، في قصة ابن الحارة ينتج السرد في البداية نموذجا تعمل عوامل عدة علي جعله مصدقا أو أمينا ومخلصا ويعتقد الناس فيه اعتقادا حسنا، بما يعني تأهيله للرسالة الغيبية، ثم بعدها يأتيه الصوت الذي يكلفه بالذهاب إلي المعلم زاوي وأمره برد الحقوق المسلوبة إلي أهلها، فيذهب إليه ويلقي منه أذي شديدا ولكنه يكون مثالا في الصبر وقوة التحمل ويعاود التبليغ مرات ومرات ويتضاعف الأذي ويظل صامدا بعدما تيقن من الرسالة الغيبية التي وصلت إليه بتكرار وإصرار. المهم في هذه القصة هو ما ينتج عن هذه التكليفات من الصدام بين البشر وشيوع القتل والحرب في الحارة، فأهل القبو من الفقراء والمظلومين انضموا إلي ابن الحارة يساندونه ضد المعلم زاوي، أو كما جاء في سرد محفوظ نفسه بأنها (كانت ليلة سوداء كما وصفها إمام الزاوية. امتلأ المكان بالغاضبين وسالت الدماء وسقط زاوي كما سقط ابن الحارة لإعادة النظام وهو يعجب من كثرة الجرحي). ومثل القصتين تقريبا قصة شيخون التي لا تختلف كثيرا، فهذه المرة يأتي شيخون بعد غياب ولكنه محمل بالحكمة ومعرفة الغيب، ولكني هذه المرة أراه يميل إلي نموذج آخر من الرسالات السماوية التي تقترن بمداواة المرضي ويتم رفعها عن الناس بشكل غريب أو سحبها إلي السماء في أوج تأثيرها أو في اللحظة التي ينتظر منها المؤمنون بها الكثير من الخير والتغيير. لكن النهاية في هذه القصة تأتي علي نحو ساخر ومباشر وظريف. وأتصور أن كثيرا من قصص هذه المجموعة لمحفوظ موقف فني معين منها تسبب في جعله لا ينشرها في مجموعة، ولا يعني هذا عتابا علي من نشروها أو رفضا للنشر، بل هو مجرد باعث يدعم البحث في خصوصيتها البنائية ومراقبة منظومتها المنتجة للمعني، فبعضها يبدو مباشرا أو لم يتم تذويب القيمة الدلالية الأولية أو إخفاء المرموز إليه أو ما وراء الرمز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.