تطوف بنا رواية "104 القاهرة" (دار بيت الياسمين) للكاتبة ضحي عاصي، عبر شخصيتها الرئيسية، "انشراح"، في رحلة ممتدة عبر الزمن من خمسينات القرن العشرين، حيث كان مولد انشراح مع انبزاغ عهد ثورة يوليو، مع عديد من الارتدادات الزمنية إلي الوراء بتناول تاريخ عائلة انشراح التي تستعيده من خلال حكايات جدتها "نرجس" وأمها "حياة المناديلي"، وصولاً إلي مطالع الألفية الثالثة، وتأجج الوهج الثوري، مع مراوحة الرواية مكانيًّا بين أماكن عدة أبرزها "درب شغلان" وأماكن أخري يستحضرها السرد. ينتقل السرد في "104 القاهرة" بين الواقعي والغرائبي والعجائبي، بين واقع عايشته انشراح علي امتداد أكثر من نصف قرن من تاريخ مصر بما مر بها من ثورتين كبريتين ونكسة في يونيو 1967 وانتصار في 1973، وكثير من الأحداث المهمة، وعالم آخر من الغرابة كعالم الجن والسحر. تحفل الرواية بوفرة من الشخصيات العابرة والثانوية وتتشعب فيها الأحداث وتتشاجر الحكايات ما يجعل بنيتها الحكائية أقرب إلي شجرة اللباب في تفرع شخصياتها وتمدد حكاياتهم في تقاطعاتها وتداخلاتها. ضربة البداية تبتدئ الرواية بحدث الموت حيث يبدو "حسن" زوج "انشراح" الذي يعمل منجدًا مذهولاً من العزاء المقام بمسجد عمر مكرم لزوجته، كما يبدو مندهشًا لحضور عدد من الشخصيات المهمة العزاء، ثم تكون الغرابة في المقطع السردي التالي للمقطع المفتتح، المرقم ب(2) بحضور "انشراح" بعد موتها لتشترك مع الصوت السارد للرواية في أن تحكي حكايتها: "اسمي انشراح عويضة هذا المأتم في عمر مكرم هو مأتمي، حسن زوجي في حالة ذهول أو صدمة، لا يفهم شيئًا، عشت معه ثلاثين عامًا حتي توفاني الله، وهو لا يفهم شيئًا ولا يريد أن يفهم شيئًا، إنّه حتي لم يفكِّر يومًا ما أنه يحتاج أن يفهم شيئًا، باختصار حسن حُمَار!" "عندما تموت وتترك جسدك تكون أكثر تحررًا وسعادة، ولا تؤلمك الأشياء الصغيرة التي تجرحك وأنت محبوس داخل هذا الجسد. عندما تموت تتحرر من أزمة الإنسان الكبري، الخوف". "كنت صغيرة في الخامسة عشرة، أذهلتني كلمات صديقي الزائر الليلي عندما جاءني لأول مرةٍ، وقتها كانت جدتي علي فراش الموت ورفض سيد أخي الأكبر أن أكمِل تعليمي، وصوت صفارات الإنذار المدوي في كل مكان، كنت خائفة جدًا، أطرافي مجمدة". (ص14). تتبدي الغرابة في إحضار شخصية "انشراح" بعد موتها لتروي حكايتها لتدخل بالسرد في أجواء من الغرابة بالحضور الشبحي لانشراح التي تحكي قصتها بعد موتها، كذلك ثمة مراوحة صوتية بين صوت انشراح وصوت هذا الزائر الليلي الذي يبث حكمة وجودية ورأيًّا في الموت، باستعمال ضمير المخاطب، بما يجعل هذه الشحنة المقولية تتجاوز في مقصدها الطرف المستقبل الحديث في الحكاية، "انشراح"، إلي المتلقي عمومًا. يبدو استهلال الرواية في فصليه المفتتحين مختلفًا وأقرب إلي ما يمارسه التغريب البريختي في المسرح الملحمي، وإلي البدايات الصادمة للرواية الملحمية التي تستهل الحكاية بحدث جلل أو حادث صادم، ثم تعتمد علي مرويات الأحداث، أي رواية ما حدث لا ما يحدث، وكأنّ الصياغة السردية تريد بالقارئ أن يدفعه حدث الموت، موت "انشراح"، إلي أن يتتبع معها ما ترويه من قصة حياتها وما يرويه الصوت السارد للرواية أيضًا عنها وعن تاريخها الذي يتقاطع مع تاريخ مصر. الزائر الليلي وتبديات الشبحية "يأتي حضور الزائر الليلي في رواية "104 القاهرة" ليمثل حضورًا آخر جديدًا للتبديات الشبحية لشخوص الحكاية في تجليات متعددة للغرابة التي تكتنف الواقعي وتطل عليه، وتتدخل فيه وتوجّه أحيانًا مساراته: إنها المَرة الثانية التي يأتيها الزائر الليلي، كان كلامه مختلفًا، وطريقته مختلفة كانت أكثر حِدةً وصرامة-: انشراح، كفاكِ إهدارًا للعمر, ماذا تفعلين بعمرك؟ بشبابك وبجمالك وبأنوثتك؟ كَم مِن الوقت مضي وأنتِ تبكين مَن رحل وتنتظرين أن يعود؟ تعيشين بطريقة مثيرة للشفقة، تَسكنين الماضي والمستقبل، تعيشين علي الذكريات والتوقعات، تسكنين الأزمنة الخطأ! الماضي قد ذهبَ ولا نستطيع أن نغير ما حدث فيه، والمستقبل لم يأتِ بعدُ ولا نعلم عنه شيئًا، وربما لا تكونين موجودة فيه. عيشي لحظتك الحاضرة، إنها أقوي لحظة في الزمن, عيشي "الآن" لأنها الحقيقة المؤكدة، الحياة هي الآن, فلا شيء يحدث في الماضي ولا شيء يحدث في المستقبل، الفعل يكون الآن وحتي عندما تتذكرين الماضي فأنتِ تتذكرينه الآن، وعندما تتخيلين المستقبل فأنتِ أيضًا تتخيلينه الآن". (ص55) يبدو هذا الزائر الليلي كتجل شبحي للذات الموضوعية، "انشراح"، ذات فائضة، أو بالأحري "ذات ضد"، ليمثل، هذا الزائر الليلي، الجانب المشرق في شخصيتها، الذي يضطلع بالقيام بدور استنهاضي لها، ليحرر الذات من وقوعها في أسر زمني الماضي والمستقبل دون التفات إلي حاضرها الآني. ويبدو هذا الزائر الليلي معنيًّا بقضية الزمن، أو بالأحري إحساس الذات بالزمن وقوعًا بين شقي رحي الماضي والمستقبل- براجماتيًا أقرب في تصوره للزمن إلي فيلسوف كجيل دولوز في نظرته إلي الزمن علي اعتباره، الزمن الآني، المضارع وحسب، وأن الماضي ما هو إلا من صنع الآني وكذلك المستقبل. الجسد هوية يبدو الجسد باعتباره هوية مبدأ إشكاليًّا مثارًا في وعي "انشراح" بنفسها وبالعالم الذي تحتك به وتتعامل معه: "...ولكنها لم تستطع أن تتخيل جسدها في تلك البَدلة الرجالي التي حاكتها لها كاترين، وفقًا لآخر صيحات الموضة في باريس, انشراح قصيرة القامة، بيضاء البشرة، تحملها ساقانِ مصبوبتان، يحلو لها ارتداء الميني جِيب لتبرز جمالهما، جسدها يشبِه الكمثري أو كما كان يُطلِق عليها شباب الحارة القُلة، لم تتخيل نفسها في قَصة الشَّعر الرجالي ورابطة العُنق الفرنسية، وقفت أمام المِرآة مِرارًا وتكرارًا ترتدي تلك البَدلة وتتمرن علي رابطة العُنق". (ص4). يمثل الجسد والأزياء هوية لانشراح سواء كهوية فردية لها أو كمجال للهوية الخاصة بالانتماء الجمعي لثقافة قومية، فيخضع الجسد لتجاذبات ثقافية كالأزياء التي يرتيدها بوصفها علامة هوياتية، كما تمثل "موضات" الأزياء علامة علي التحولات الثقافية والاجتماعية التي قد يخضع لها الفرد أو الجماعة. الميتاسرد يدخل نص السرد في رواية "104 القاهرة" في جدل تناصي مع نصوص أخري، كما في استدعاء صوت "انشراح" لقصيدة للشاعر الفرنسي جاك بريفير: "فرنسا.. الاسم السحري الذي سيحوّل حياتها... عويضة مات، وحياة مشغولة بسيد ابنها الأكبر، أما هي فقلبها وعقلها وأحلامها هناك في مدينة العِلم والبغاء. كيف تجعله ينسي عويضة؟ وضع القهوة في كوب وضع اللبن في كوب القهوة وضع السكر في القهوة باللبن بالملعقة الصغيرة قلَّب شرب القهوة باللبن ووضع الكوب دون أن يكلمني أشعل سيجارة صنع دوائر بالدخان وضع الرماد في المطفأة دون أن يكلمني دون أن ينظر إليّ قام وضع قبعته علي رأسه وضع معطفه للمطر لأن الجو كان ممطِرًا وذهب تحت المطر دون كلمة دون أن ينظر إليّ وأنا وضعت رأسي في يدي وبكيت! هل كان بمقدورك يا جَدتي أن تقرأئي فنجان قهوته؟ وهل يُقرَأ فنجان القهوة الباريسي؟ هل سيكشِف لكِ عن نواياه؟ كيف أجعله ينسي عويضة؟ كيف أجعله ينسي حياة؟ ماذا أفعل في هذه الكمثري حتي أملك قوامًا فرنسيا؟ كرهتُ البَدلة الفرنسية التي لا تناسبني، أبدو فيها مضحِكةً، كيف أتخلص مِن هذه الكمثري؟ "حقا لا تناسبني، لم أُخلَق لها، ولم تُخلَق لي". (ص42: 44). حين تتمثل "انشراح" حبيبها، "إبراهيم" الذي غادر إلي فرنسا وتتعلق به وبوعده لها تستدعي قصيدة لجاك بريفير تعكس عليها مخاوف قارة في لاوعيها من أن يتخلي حبيبها عنها ولا يعبأ بها، كما فعل الرجل بفتاة قصيدة جاك بريفير، فثمة تماهٍ نفسي بين انشراح والفتاة الفرنسية، الصوت الشعري السارد، في قصيدة بريفير. ويبدو خوف "انشراح" من فقدان حبيبها، "إبراهيم" هاجسًا ضاغطًا علي تفكيرها يدفعها إلي محاولة التملص من أهلها الذين تخشي أن يكونوا سببًا في تخلي إبراهيم عنها، ويبدو استدعاء نص قصيدة جاك بريفير مفجرًا لأسئلة انشراح، حتي تقع بين شقي رحي: تكوينها الثقافي والجسدي الذي يخصها، إذ يبدو جسدها مثل "الكمثري"، في مقابل رغبتها لمشاكلة الفرنسيات في أسلوبهن الحياتي وممارستهن الثقافية ومنها الملبس، "البدلة الفرنسية"، الذي لا يناسب جسدها.