بدأت كيران دساي الهندية (1971) مشوار الكتابة بعملها "هولابالو في حديقة الجوافة" والتي نشرت عام 1998، وحصلت علي اهتمام النقاد. وفي عام 2006 قدمت دساي عملها الثاني "ميراث الفقد" وحصلت به علي جائزة البوكر في نفس العام. جاء في تعليق النيويورك تايمز علي الرواية أنه وبالرغم من أن الأحداث تدور في منتصف الثمانينات في أحد مقاطعات الهند إلا أنها الرواية الملائمة تماما لتعبر عن الوضع بعد أحداث سبتمبر في أمريكا. وهو التعليق الذي يبدو مقحما ومجحفا للرواية بشدة، وكأن أي رواية تصور بعض العنف أو ما يشبه الإرهاب لابد وأن تعبر عن أمريكا بعد أحداث سبتمبر. تصور كيران دساي الوضع في مدينة كاليمبونج في منتصف الثمانينات. وهي المدينة التي أصبحت جزءا من غرب البنغال بعد حصول الهند علي استقلالها عام 1947، وبعد تقسيم البنغال بين الهند وباكستان. قد يكون من الممتع الغوص قليلا في أحداث وبنية الرواية بمناسبة إلقاء كيران دساي محاضرتين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة يومي 13 و17 مارس. لا تبدأ الرواية مباشرة بهذه الأحداث- عنف وسرقة وقتل وفساد وبطالة وفقر وجوع وطائفية شديدة- بل هي تبدأ بثلاثة أفراد وكلب يعيشون في منزل أنيق لم يرحمه الدهر. ثلاثة أفراد لا يربط بينهم أي شيء، ولكنهم في الحقيقة ليس لديهم أي اختيار سوي البقاء معا، مما يحول المكان إلي بطل رئيسي منذ البداية. فهناك الجد الذي تلقي تعليمه في كامبردج بانجلترا وعمل قاضيا لمدة من الزمن تحت الاحتلال، وهناك حفيدته ساي التي فقدت والديها في حادث بروسيا (في زمن العلاقات الوطيدة بين الهند وروسيا) وهناك الطاهي الذي أرسل ابنه بيجو ليعمل في نيويورك. كل فرد من هؤلاء يعيش في العالم الخاص به، العالم الذي تحيطه حواجز نفسية صارمة لا تسمح بالتواصل إلا قليلا بين ساي والطاهي. فالجد لم يكن يرغب في استقبال حفيدته، لكنه اضطر لذلك، شخصية قاسية صارمة لم يبق لديه شيئا إلا استعادة ذكريات الماضي، بداية من رفضه الانصياع لطقوس عائلته- مما جعله ملحدا- ومرورا بقسوته مع زوجته التي رافقته لانجلترا، وتذكره لقراره أن يعيدها لأهلها في الهند بعد أن رافقت مجموعة من السيدات لاستقبال نهرو. في استعادته لكل الأحداث ترتسم شخصية الجد تماما ليس فقط فيما يتعلق بالقسوة والتجهم، لكن الأهم فيما يتعلق بالتحول الكلاسيكي الذي يصيب بعض من يقعون تحت طائلة الاحتلال: النظرة الدونية للثقافة الأم وكل ما يتصل بها والانبهار الكامل بالمحتل (بفتح التاء) ومحاولة محاكاته. ولذلك عندما تسرق الكلبة مات في النهاية- وذلك في تصاعد الفوضي والسرقة- يبدو أن ثمة عقابا ضروريا قد وقع للجد، حتي أنه يبدأ في الصلاة ويبذل الوعود أن الكلب لو عاد فسوف يعلن إيمانه بالله. أما ساي فقد تلقت تعليمها الأولي علي يد سيدة صديقة للعائلة تقطن بجوارهم، وهي السيدة التي تتباهي طوال الوقت بابنتها التي تعمل في إذاعة البي.بي.سي. الانجليزية وتنافس جارتها التي تعمل ابنتها بقناة السي.إن.إن. بأمريكا. تتجسد في هذه السيدة وأختها سذاجة الانبهار بانجلترا (المحتل السابق) وبكل ما له علاقة بالثقافة الانجليزية، وقد كان هذا الانبهار هو الذي نفرت منه ساي علي مستوي اللاوعي وبدون أي قصدية عندما وقعت في حب جيان مدرس الرياضيات البنغالي. بدأت العلاقة حميمة، حيث تمكن كل طرف من اكتشاف نفسه وجسده مع الطرف الآخر، إلا أن نغمة العنصرية والطائفية ظهرت منذ البداية. فحتي الطاهي لم يكن معفيا من إطلاق أحكام علي جيان نابعة من الصورة النمطية عن البنغال. علي الجانب الآخر، يبدو بيجو المنعدم الخبرة وهو يتنقل في مطاعم نيويورك بحثا عن عمل بمطعم يلتزم بالتعاليم الدينية (حيث أكل البقر محرم)، ويخوض صراعا نفسيا عنيفا عندما يتعرف علي سعيد المسلم من زنزيبار، فهو لم يتخيل أنه في يوم ما سيضطر إلي التعامل مع جنس ولون ودين مختلف. في رحلة بيجو تتمكن الكاتبة من طرح مسائل الهجرة غير الشرعية التي تؤدي إلي كافة أنواع الاستغلال، ليتحول الفردوس المنشود (أمريكا) إلي جحيم كامل يدفع بيجو إلي اتخاذ قرار العودة بمدخراته القليلة، حيث يتم سلب كل ما يملكه بما في ذلك ملابسه وهو علي مشارف مدينة كاليمبونج. تبدو رحلة بيجو الشاقة في أمريكا هي الرد الملائم علي الفخر المتمكن من الشخصيات الأخري في الرواية الواقعة في هوي الغرب، المصدقة لأحلام وردية لا أساس لها من الصحة. فالكاتبة لم تقع في الفخ المعتاد الذي قد يدفع الراوي العليم إلي إدانة رؤي وأفعال الشخصيات المحكي عنها، بل إن المفارقة التي تشكلها مسارات الشخصيات هو الذي أوضح مقصد ورؤية الكاتبة دون أن تتدخل بصوتها مطلقا. تختمر الأحداث المؤدية إلي العنف تدريجيا علي مسار الحكي، فالبنغاليون يشعرون بالظلم والغبن وعدم المساواة مع الهنود مما يدفعهم إلي المطالبة باستقلال مقاطعة دارجلنج بأكملها، وفي مشهد درامي ترسم الكاتبة تصاعد ذروة المظاهرات التي أدارت عقل جيان وأشعرته انه قد يستمد أي وجود له عند انضمامه لما يسمي جبهة التحرير. كان جيان في قرارة نفسه يتمرد علي ساي ويرفض حياتها، أو بالأحري يرفض ما لا يستطيع الحصول عليه. وهو في الوقت ذاته كان يرفض بطفولة حياته البائسة، حتي أنه أبلغ الثوار بوجود أسلحة في منزل الجد.
تتعاظم الفوضي مع إعلان حرق المعاهدة البنغالية-الهندية، تتعاظم فوضي المشاعر، مشاعر الطاهي الذي لم يعد متأكدا أنه سيري ابنه مرة أخري، مشاعر الجد الذي فقد الكلب مات فكأنه فقد العالم، مشاعر ساي الحزينة من أجل غياب جيان عنها، مشاعر الحزن التي خيمت علي الجميع عندما بدأ يتم ترحيل كل من هو ليس "هنديا" ومنهم القس بوتي، مشاعر الخوف تجاه عجز الحكومة عن السيطرة علي الوضع مما دفعها إلي إلصاق تهم السرقة بأكثر الناس ضعفا وفقرا، مشاعر الخوف والهلع مما سيحدث في الدقيقة التالية. إنها الفوضي الكاملة المبنية علي أساس عنصري طائفي نابع من أزمة اقتصادية بحتة. بالرغم من هذه الفوضي المهولة المشوبة بالرعب، تحمل عودة بيجو- الذي فقد كل ما يملك ويرتدي ثوب امرأة- الكثير من الأمل. فالعودة بالإضافة لدلالتها الحرفية من التئام الشمل، تحمل أيضا دلالة مجازية، إذ أن بيجو يعود إلي الأصل ويتخلي تماما عن كل الأوهام الخاصة بالهجرة مما يعني إمكانية استعادة الذات لثقتها في نفسها وفي العالم. في الوقت ذاته يعترف جيان بخطئه تجاه ساي وهو ما يحمل أيضا دلالة إمكانية مواجهة الطائفية الشديدة بكل تبعاتها، وهو ما يجعل الكاتبة تعطي لساي الكلمة الأخيرة التي تعلن فيها أن "الحقيقة كانت هناك طوال الوقت، لا تنتظر إلا الوصول إليها لقطفها". إنها الحقيقة التي تمكنت دساي من رسمها عبر تضفير الأحداث بمسار الشخصيات، وعبر توظيف المفارقة الإنسانية في أعلي أشكالها، حتي أنها تستثير الضحك والبكاء معا.