لسركون بولص الشاعر العراقي صاحب التجربة الطليعية البارزة في قصيدة النثر العربية تجارب أخري في كتابة القصة صدرت له ضمن المجموعة القصصية » عاصمة الأنفاس الأخيرة» . ترسم قصص سركون بولص التي تأتي كسرد سينمائي في لغة نابضة بالمجاز وسرد حافل بالمشاهد صورًا متضامة لعراق الستينيات من القرن العشرين، لا سيما العاصمة بغداد مركز الدولة العراقية التي صارت مقصدًا للنازحين من الأطراف والأقاليم العراقية إما هربًا من تاريخ إليم يلاحقهم وماضٍ قاسٍ يطاردهم أو بحثًا عن حلم تحقيق ذواتهم في العاصمة. يحفل قص سركون بولص بثراء استعاري وصور تبدو رغم انتزاعها من مكونات الطبيعة الحية كاسرةً للألفة المجازية في تركيباتها المُؤلِّفة بين المُشبَّه والمُشبَّه به، فيطالعنا في » عاصمة الأنفاس الأخيرة» قصُّ بأنفاس الشعر، دونما إسراف في مجازية التراكيب أو » شعرنة» للغة الخطاب السردي، فلا تُعطِّل شعرية لغة القص درامية حركة السرد أو تحدُّ من تدفُّق أحداثه. الضياع في المكان تبدو الذوات في قصّ سركون بولص ضائعين في المكان، ذوات في حالة فرار بين الأماكن، من مكان يطردهم إلي مكان يلوذون به فيضيق بهم وعليهم، كما هو حال يوسف بطل قصة » الأيام الأخري أيضًا» إذ يصفه السارد بأنّه » كان يمر في الشوارع، كل يوم، بعاطفة عمياء كبركة طين» ، فرغم حركة الذات في الزمكان المفتوح الممتدّ (الشوارع/ كل يوم)، فقد استغلق المكان والزمان علي الذات ليصبحا كدائرة مغلقة، وهو ما يسم العاطفة بالعمي فتسقط الذات في الوحل (بركة طين)، وكأنّ وعي الذات يدرك لاجدوي المراوحة في المكان التي تستغرق الزمن كله (كل يوم). إنّ حركة الذات في المكان- بقصّ سركون بولص- تيه في اللا اتجاه كما تقول الذات الساردة في قصة » يجوب المدن وهو ميت» : » » غبي، غبي، غبي، تندفع دون غاية وأنت في أطراف المدينة لا تدري إلي أين تركض هذا الركض الجنوني، مسرعًا، مسرعًا نحو لا شيء في هذا الظلام الفظيع، كأنّ لعنة تلتهم الأرض في أعقابك» . كنتُ أسبّ وقد خرجتُ كالوطواط بعد مطر عنيف قصير الأمد» . دائمًا علاقة الذات بالمكان لدي سركون هي تيه مستدام لاسيما في رحيلها في المدن، إذ تكون » أين» هي السؤال الدائم للذات في المكان، كما في » الوصول إلي مدينة أين» الديوان الأول لسركون، فلا وصول للذات إذ لا مكان تجده مستقرًا لها. وتبدأ القصة بضمير السرد الثاني، ضمير المخاطب، في مونولوج داخلي، تعبيرًا عن انشطار الذات وانقساماتها وتمثيلاً لتيار الوعي وتموجات داخل الذات، ثم يُستَأنَف الخطاب السردي بالضمير السردي الأول، ضمير المتكلم، لوصف حركة الذات الخارجية. كذا تعمل التكرارات كما في (غبي) لثلات مرات، و(مسرعًا) لمرتين، علي تجسيد الإيقاع النفسي للذات ورسم ذبذباتها الشعورية، وتمثيل نبضاتها المُباطِنة، واستكناه خلجاتها الداخلية. الاغتراب في الفضاء المديني يسم التوتر علاقة الذات بالمدينة لدي سركون بولص، فالذات تبدو في حالة اغتراب متفاقم كما في قصة » وغمرتني اليقظة كالماء» فيقول بطلها » أدمون» لصديقه صاحب الصوت السارد في مبادلة حوارية: » -لا أدري لِمَ هربت علي كل حال./ –من البيت؟/ -وإلي هذه المدينة القذرة./ وردّد بضعف:-هذه المدينة القذرة جدًا.» فثمة شعور ما بدنس المدينة وفسادها، كما يبدو المسار الحواري رغم توزُّعه علي صوتين بأنّه يسير في اتجاه واحد ناقم إزاء المدينة. والبارز أنّ الذوات تضع المدينة التي هربوا إليها فاكتشفوا قذارتها إزاء » البيت» ، وكأنّ الذات تفقد في المدينة » البيت» أي خصوصيتها المكانية. وتجسد قصة » يجوب المدن وهو ميت» مأساة الذوات في المدن، الذوات التي تضيع في ترحالها بين المدن، فتقول السيدة إحدي أصوات القصة: » نحن غجر كما تعلم، لصوص وجوّابو آفاق، نجري وراء سحابة الربيع ونهرب من المطر ومن القيظ. لا نستطيع العيش إلا فيما بين الفصول. ولكنه بدأ يعجز ويتشرّب عادات المدن، ذلك الذي يموت خلفي الآن» . في المدن تبدو الذوات عالقة في الزمن، لا تعيش إلا في البرهة المابينيّة الضيقة، كما تبدو عادات المدن مفسدةً ومأتي للموات، فتقول الغجرية عن زوجها: » مات، نعم، نعم. يجوب المدن وهو ميت. منذ أخذ يبيع كلّ شيء. يبيع نفسه، يبيعني. مات قبل أن يبيع العربة، لحسن الحظ» . تبرز هذه الشهادة الناضحة بالأسي فعل المدن بالذوات الذي مآله موات معنوي، نفسي، ثم موت بيولوجي، جسدي، كما تبرز أثر حياة المدن في الذوات بإجبارهم علي بيع أنفسهم، فيما يبدو أنّ الوعي الجمالي والرؤيوي لسركون مسكون بالفكر الماركسي والأيديولوجية الاشتراكية التي تدين مبدأ » تسليع» الأشياء الذي أفضي إلي » تسليع» الإنسان واستلابه في المجتمع الرأسمالي . رتابة الزمن وآليته يداخل الذوات في قصّ سركون بولص شعورٌ بآلية الزمن ورتابته مما يعكس جمود الحياة وفتورها، كما في قصة » الأيام الأخري أيضًا» التي يقول ساردها عن بطلها يوسف: » وكان صباحه كنهاره وليله. وكان يأكل ويشرب كالطفيلي في بيت أخته. وكان هذا مدمّرًا، لأنه شعر بأن قسمًا من جسمه يفرغ، كعلبة سردين قُلبت علي جنبها» . ثمة إحساسٌ بحيادية الزمن أو بالأحري حيادية شعور الذات بالزمن، الزمن الذي فقدت الذات الإحساس بتمايزاته تلك الفكرة التي تبرز في شعر سركون أيضًا إذ يقول في قصيدته » ألف ليلة وليلة» : » والليلُ والنهار/ توءمان سياميّان/ يلعبان الشطرنج علي صدري» ، في تأكيد آخر علي عجز الذات البادي إزاء الزمن الممسوخ الفاقد لتمايزه الجوهري بين وحدتيه المتقابلتين (الليل والنهار) الذي ينجم عنه شعور سلبي بفقد الزمن دورته وتجمّد حركته، ما يشعر الذات- كما في النص القصصي- بطفيليتها وخوائها وتشيؤها. ونتيجة إحساس الذوات بعبثية الزمن وخسرانهم الرهان عليه يتولّد داخلهم عنفٌ إزاء الوقت: » وأدرك بفظاعة أنّه سيخسر المساء، ولكنه فكر: علي كل حال، كالأيام الأخري. وكان حين يفهم أنّه يغوص في فراغ غباري، وأنّه يقتل الزمن بسرعة بائسة مملّة، يدرك كل شيء فجأة، ويشعر بأنّه يتساقط إلي قعر جاف من السادية والغموض وأنّه، خلال تساقطه نفسه، يتكصّف ويعانقه غطاء من الكلس العفن لا يلبث أن يتصلّب حوله» . ثمة شعور طاغٍ بفقد الوقت وتناسخه وتكراريته مما يعني هدره ولا جدواه، وهو ما يوقع الذات في براثن اليأس والسقوط النفسي في هوة العنف والسادية، نتيجة الشعور بالخواء والضبابية ما يدفع الذات إلي قتل الزمن، أي إهداره نتيجة إحساسها بإملاله ورتابته، هذا الهاجس الذي يتكرر في شعر سركون كما في قصيدة » إقامة في اليونان» من ديوانه » الأول والتالي» ، إذ يقول: » وأتعلم كيف أقتل وقتي كأنّه عدوي!» ، حيث تدخل الذات في عداء مع الزمن. التمثّل السوريالي للعالم نتيجة وطأة الإحساس بمأساوية العالم وقتامته، كذا للنفس الشعري النابض بجسد الصياغة السردية للقصّ، تنشأ رؤية سوريالية في تَمثُّل الذات العالم ورسمها له، لتجسِّد هذه السوريالية وعي الذات بلامعقولية العالم وعبثيته، كما يبدو في تمثُّل الذات للعالم في قصة » الأيام الأخري أيضًا» : » كانت الشمس كالمعدة، يتسرّب من ثقوبها عصير فاتر سقيم فيه رائحة المطاط والشوارع المرشوشة والدكاكين والسينما، وكانت معزولة عن الناس، وكان القرف يتنشر في نفسه كمحلول الفولاذ. وغرق يوسف في الهواء المبرد الذي يتجمع أمام السينما، وتفرج علي الصور التافهة التي خلف زجاجة العرض، ونقل بصره من الحائط إلي الرجل والمرأة. وكانا يتفرجان، وكان الزوج يعرفه وكذلك المرأة. وانتظر. وكانت أفكاره تتجه في غموض إلي خارج المكان، ولكنه كان مشوشًا بسبب انشغاله! كان منشغلاً يهيئ نفسه لتفاهة القربي: سينظر الرجل إليه لحظة، ثم يدهش، ويرفع حاجبيه، ويصافحه ويتكلمون، هو ويوسف والمرأة» . يجسِّد السرد اضطراب الذات إزاء جهامة العالم الذي تعاينه، كما تلعب المراوحة بين أزمنة أفعال السرد من الماضي المردف بمضارع كأنّه ماضٍ مستمر في وصف الشمس المعزولة عن الناس في إشارة لافتقاد الناس لطاقات النور والإحساس بالدفء، ثم الماضي والماضي المتبوع بمضارع في وصف حركة الذات تمثّلاً لعالمها، ثم الانتقال للمضارع التسويفي الدال علي زمن المستقبل القريب في سرد استباقي ينقل توقّعات الذات لحركة الآخر (القريب وزوجته) ما يدلّ علي آلية حركة هذا الآخر وتناسخها واصطناعها. أما في تشبيه (الشمس كالمعدة) علي غرابته، إلا أنّ مُكوِّن المشبَّه به (المعدة) يبدو أثيريًّا لدي سركون، حيث تتناثر (الأحشاء والمعدة) في صور سركون وتشبيهاته، فهو الذي يقول في شعره: » ماذا أفعل بحياتي؟/ هناك باخرة ضائعة ترعي بين أحشائي» وكذلك في قصيدته » الجد يبدأ بالطواف» : » بماذا كان العجوز يفكّر وهو يمشي/ تائهًا كالظلّ في أحشاء المدينة» ، فيما يبدو أنّه تأثر ب » رابلية» في استخدام المعدة والأحشاء تمثيلاً لإحساس الذات الاغترابي بمتاهية الوجود.