عبلة الروىنى ضحك وهو يدعوني لحضور أمسيته الشعرية الأخيرة، قبل وفاته بأيام قليلة (سأغيظكم وأعيش)!!.. ومثلك لا يموت بسهولة، مثلك لا يموت أبداً، بعد أن ضاعف الحياة.. حكايات ومودات وقصائد.. حلمي سالم يُشبه قصيدته تماماً.. مغامر ومتسامح.. تسامحه يثير الاستفزاز والأسئلة.. كيف هو المقاتل والمناضل الماركسي، كيف له أن يفكك الصراع، ويقلم أظافره، ويرفع شعارات التسامح في وجه خصومه بكل تلك البساطة؟ (الحداثة أخت التسامح) عنوان كتاب حلمي، الذي احتججتُ عليه يوماً، رأيته تبديداً للمعيار.. وكان يزعجه عدم الفهم (كيف لا يكون هناك معيار ، احترام الآخر معيار، عدم امتلاك الحقيقة معيار.. من يستفزه تسامحي، ويعتبرني غير مصارع، هو يطالبني بالعنف في اللغة والسلوك، ولن أكون، أنا لا أشتم ولا أسب.. أنا مصارع، أراعي أصول الصراع وتقاليد الخلاف والحروب والمعارك.. مشكلتي أني منصف، لا أغضّ الطرف عن الطيّبات في خصمي، أقول السيئ والطيب، وذلك هو السجال الرفيع).. يتسامح حلمي سالم مع خصومه، يتسامح أكثر مع محبيه، يتسامح مع قلبه.. ما هذا يا حلمي (أن تحب الناس جميعاً، معناه أنك لا تحب أحداً علي الإطلاق) يضحك (علي العكس، أن تحب الناس جميعاً، معناه ببساطة أنك تحب الناس جميعاً).. وكنت أصدقه، تماما كما أصدق أشعاره، تتابع التفاصيل وتلاحق الأحداث والكوارث.. وصف البعض قصائده (أشبه بعناوين الصحف) وتلك حقيقة مع تعديل بسيط، أن عناوين الصحف هي الأشبه بالقصائد.. أستعيد صلاح جاهين، الذي غني للميثاق، والاجتماع السياسي، والاشتراكية، والتصنيع الثقيل، فأورقت المفردات موسيقي.. قصائد حلمي سالم أيضاً تنطوي علي تلك الكثافة الشعرية، تمنح المفردة دلالات متعددة.. كل شيء يتحول بين يديه إلي مشكلتي أني منصف، لا أغضّ الطرف عن الطيّبات في خصمي، أقول السيئ والطيب، وذلك هو السجال الرفيع.. قصيدة.. شاعر متورط بواقعه، مشروط بوعيه التاريخي، ورغبته المحمومة في التمرد والتغيير والخروج علي ذاته، هو أكثر الشعراء تجريباً، وانتقالاً من جملة جمالية إلي أخري، ومن قصيدة التفعيلة إلي قصيدة النثر، لم يحب أن يبقي في مكان شعري واحد لأمد طويل..هذا الغرام بالانتقال والتجريب هو المغامرة التي عاشها جمالياً علي امتداد 21 ديواناً.. يكتب في كل شيء حوله.. حبيباته، رئيس الوزراء والوزراء، وعامل المقهي، وحقنة البنج والأطباء، يكتب مدائح لجلطة المخ والسرطان، وغسيل الكلي، لا شيء يستعصي علي القصيدة، لا شيء يستعصي علي الحياة.. سعدي يوسف يكتب مائة قصيدة وينشرها جميعاً، من أجل الوصول إلي قصيدة واحدة، حلمي أيضاً كان يكتب مائة قصيدة وينشرها جميعاً، لامن أجل قصيدة واحدة ولكن من أجل الوصول إلي المائة قصيدة كاملة .. القصيدة هدف في ذاتها وطريق، والكتابة هي المتعة التي لا تعادلها متعة، هي الحياة.