يؤكِّد القاص المصري صابر رشدي في مجموعته الثانية "الرجل القادم من الجنة"علي ما سعي لتأسيسه في مجموعته السابقة "شخص حزين يستطيع الضحك"من كتابة قصصية عابرة للنوع، من حكي بدراميته الحدثية في بعض النصوص، ومحاولات استبطانية وارتكاز علي تجريب يمارسه الكاتب في اللغة لينحو بنصه اقترابًا من روح الشعر في نصوص أخري تبدو ميتاقصصية. في "الرجل القادم من الجنة" تبدو عينا السارد كمرايا وجودية حتي في أشد النصوص قصرًا ثمة سعي ما لتقطير روح الوجود مصفاة في استخلاصات من "الحكمة" التي تسعي لأن تكون بليغة، مكثفة لروح الكون. في قص صابر رشدي لا تمضي الحركة من الذات إلي العالم بوصفه وأشيائه موضوعًا للذات وحسب، بل تصير الذات نفسها موضوعًا لهذه الذات، كما في قصة بعنوان "علي باب الله": "هأنت، تمضي وحيدًا في الطرقات، كشبح يتواري من الخجل وهو يخترق المدي، طاويًا المسافات، لا تدري أسماء الدروب، ولا تنتبه إلي الوقت، ليلك مثل نهارك، سرُّك بينك وبين الله، لا تعرف غيره، هو الأحد". في حركة الذات التي يتلبسها روح صوفية في العالم تتلاشي "الزمكانية"، فتمضي الذات مرتفعة فوق "الزمكانات" التقليدية في سبيلها إلي الله، فلا تعبأ بأسماء الأماكن، ولا تحفل بالزمن ودورته. ومع الوصل المشبوب بالوجد الصوفي وانهمار الخواطر البوحية للذات يمضي الصوت السردي في "مونولوج" وتدخل القصة في غنائية تدنو بها من روح الشعر. وفي عالم صابر رشدي القصصي يمسي الوجود والعالم فيوضًا من الرؤي وانثيالات من الصور والتهويمات كما في قصة "أعظم شحاذة في التاريخ": "كانا يسيران أمامي، المرأة وطفلتها الصغيرة، تتهاديان بطيئًا، المرأة بجلبابها الأسود والشال المطروح إلي الوراء، الطفلة بجلباب مهترئٍ، وضفيرتاها منطلقتان خلفها. حدقت إلي الطفلة، وجدتها جميلة جدًا، مضيئة ومبتسمة، أطلت التحديق. وجدتها ولدًا. المرأة التي روَّعها الخجل. كانت أمي. الطفلة الصغيرة كانت أنا، ذلك الطفل الذي جاء متأخرًا، بعد عدد من الأطفال منذورين للموت". وفي قص صابر رشدي أطياف من الواقع السحري، الذي يتبدي- أحيانًا- في الحضور الشبحي للذوات، كما أنّ حضور الأنا يتمرأي طيفًا شبحيًّا في حضورات "الآخر"، وهو تمظهر للحضور الخاص بالقرين الذي يتمايز في تموقعه عن القرين الظلّي الخلفي ليغدو أمام الذات لا خلفها ولا تتعرف إليه الذات إلا بعد حين، فيمسي الوجود مرآة عاكسة للحضور الشبحي للذات. وكما هو بادٍ من التركيب الخاص بجمل صابر رشدي اتسامها غالبًا بالقصر والتقطيع وهو ما يوفر للسرد إيقاعًا سريعًا أحيانًا ما يبدو لاهثًا ليكون تجسيدًا- علي نحو أو آخر- لإيقاع الذات. وإذا كانت الأماكن والذوات تنحل- في قص صابر رشدي- من تعييناتها المادية ومدلولها الفيزيقي فإنّ للزمن في تعيين الذات له مروقًا عن تتابعيته المنطقية وخروجًا عن عليته وكسرًا لكرنولوجيته المباشرة، كما في قصة بعنوان "نوستالجيا": "معتمدًا علي ما تبقي من سمعته، وصيته الذائع، راح ينبش في الماضي يبحث عن ملاذات منيعة من السحر والأحلام، ربما غذت لديه شعورًا بعدم العجز، أو برقت فكرة صاعقة في ذهنه وأخرجته من حالة الخمول، مجددة خلايا كانت في سبيلها إلي الضمور. الأمهر، الذي يحاول اختراق الزمن الباطن الذي لا بداية له، ورؤية ما لا يستطيع أحد رؤيته، ناقش اللاهوتيون عن اللانهاية، والكائن المحدود، متقلبًا بين المسرات، وألق المعني، مندفعًا نحو المستحيل والمطلق، نحو وهم الكمال والمحظورات، حتي بات رهين الحيرة، حبيسًا في متاهته، يتساءل متألمًا: هل عاقبته الآلهة عندمًا ثرثر مفاخرًا، معلنًا عن سره؟" في ما يتبدي أنّ الذات- لدي صابر رشدي- تهجر حاضرها الآني والمحايث وتفر من واقعها الذي تستشعر ضيقه ومحدوديته، فثمة نزوع ميتافيزيقي يقود الذات ويحدوها في وعيها بالعالم وهو ما يجعلها تحاول الفكاك من أسر اللحظة الآنية تنقيبًا في عوالم السحر والأحلام، فالذات تخوض عوالم الغرابة وتنبش تحت ركام لاوعيها وتمشط عوالمها الجوانية، عوالم اللاتناهي إزاء تناهي عالم الخارج مهما اتسع، وعلي صعيد زمني تنحو الذات لأن تعيش زمنًا لامنيًّا متحللاً من رزوناميته، زمنًا ميتافيزيقًّا، نفسيًّا مباطنًا. وكثيرًا ما نلاحظ في عمليات بث الخطاب- لدي صابر رشدي- نوعًا من "الالتفات" الضمائري كما في هذا النص إذ تكون الإشارة للذات (الأنا) بضمير الغائب (الهو)، الضمير السردي الثالث، فالذات تقوم بعملية تخارج نفساني إذ تُحدّق في مراياها.