مى التلسمانى يوليو 1952 علامة في تاريخ العمل الوطني وثورة سياسية بالمعني التام للكلمة. والفترة الناصرية حتي وإن لم تحقق آمال كافة فئات الشعب وخالفت ما وعد به الضباط الأحرار أنفسهم (عودة الجيش إلي ثكناته وأمل الوحدة العربية والصراع علي الديمقراطية) إلا أن تأثيرها علي المستوي الاجتماعي والثقافي كان كبيرا فقد رسخت لصعود الطبقة الوسطي ودعمت ثقافة التحرر الفكري والديني والنسوي وأنجزت عددا من المشروعات القومية الهامة في مجالات التصنيع والزراعة وبرزت في مجال العمل السياسي الإقليمي (من تأسيس حركة عدم الانحياز إلي دعم حركات التحرر الوطني في إفريقيا والعالم العربي) وساهمت في ارتفاع مستوي التعليم والثقافة والإعلام مقارنة بفترات سابقة ولاحقة شهدت انحدارا في هذا أو ذاك... قد نختلف مع التوجه الاشتراكي للفترة الناصرية أو نستنكر الهزائم العسكرية وتراجع الحريات السياسية وصعود طبقة العسكريين والتكنوقراطيين وفسادها الإداري والسياسي. لكننا لا ننكر تأثير مناخ التحرر الوطني علي السينما والأدب والمسرح والفن التشكيلي والموسيقي، لا ننكر زهو المصري بمنجزاته الحضارية وبمصريته (لا بهويته الدينية كما شاء السادات ومبارك من بعده)، لا ننكر صحوة الفنون الشعبية التي سمحت بربط أقاليم مصر شمالا وجنوبا وأتاحت الفرصة لتضييق الفجوة بين الطبقات. لا ننكر أن هذه الفترة سمحت بنمو روح المقاومة والرغبة في تأسيس دولة قوية لها وضعية إقليمية ودولية، لا ينقصها سوي الحرية السياسية والممارسة الديمقراطية لتنطلق نحو تحقيق حلم الرخاء والعدالة الاجتماعية للجميع. لقد جاءت ثورة يوليو بالنظام الجمهوري وحررت مصر من الوجود البريطاني ووضعت الكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية والتعليم والعمل والتصنيع نصب عينها. أما ثورة يناير فقد جاءت لتستكمل ما بدأه المصريون في يوليو 1952 بأدوات جديدة وبأحلام ترفض الواقع المحبط الذي دام أكثر من أربعين سنة، واقع الفقر المتزايد المخجل لإنسانيتنا، واقع القمع الشرس الذي مازال مستمرا إلي اليوم والذي يمارس كافة أنواع الكبت للحريات باسم الدين تارة وباسم الأمن القومي تارة أخري، واقع التلاعب الدنيء بمقدرات وطن عريق والتحالفات المشبوهة بين مؤسسة تصورت أنها قادرة علي قمع الشعب بقوة السلاح وجماعة تتصور أنها قادرة علي قمعه بالرطانة الدينية الجوفاء. مفترق الطرق الآن، ونحن نحتفل بثورة يوليو، يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نكرر أخطاء يوليو 1952 ونرضي بعسكرة الدولة أو نرضي بمثالب عصر السادات ومبارك الذي اتسم بالتبعية الذليلة لأمريكا وحلفائها في السعودية وقطر ومخطط أسلمة الدولة المصرية... وإما أن نطالب كجماهير وكنخب سياسية وفكرية فاعلة بضرورة التغيير الجذري لنظام الحكم أسوة بما فعلته ثورة يوليو لتتحول مصر من دولة شبه عسكرية شبه دينية إلي دولة مدنية حديثة بالمعني الشامل للكلمة.