الأصولي ياسر برهامي في الجمعية التأسيسية للدستور المصري ما بعد الثورة ضمن لجنة "المقومات الأساسية" يحارب لا من أجل بقاء المادة الثانية، ولكن من أجل حذف كلمة مبادئ منها، لتصبح المادة الثانية من الدستور "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". يحدد الأصولي ياسر برهامي للمصريين هويتهم ملخصة في "الشريعة".. المصري بدون الشريعة لا هوية له.. كما لو أن هويات البشر تحددها مادة في الدستور.. كما لو أن حذف المادة الثانية برمتها سوف يُعلّق المصريين في الفضاء.. المصري بانتظار الأصولي ياسر برهامي كي يحدد له هويته ويضبطها وفق شريعته. ما المقومات الأساسية للمصريين التي يبحث عنها برهامي؟ ما مقوماته الأساسية لي كمصري؟.. من أنا؟.. ولدت لأسرة مسلمة.. هل يكفي هذا لأكون مسلما صالحا؟ أو مسلما سيئا؟.. ولدت فوجدت نفسي أتحدث العربية، ورغم تعلمي الانجليزية والفرنسية والألمانية في المدارس فإني لا أتحدث إلا العربية.. لا.. أنا لا أتحدث العربية.. أنا أتحدث العربية باللهجة المصرية.. أكتب باللغة العربية.. هي ليست عربية قرشية بالتأكيد.. ليست لغة حسان بن ثابت ولا امرؤ القيس ولا لغة توفيق الحكيم حتي ولكنها تنتمي للغتهما بالتأكيد.. هل تكفي كتابتي باللغة العربية كي أكون عربيا؟.. انتميت للفكر الناصري بحكم ولادتي لأبوين يحبان عبد الناصر بقدر ما يحبان أولادهما.. تبدلت ناصريتي لتنفتح علي اليسار عموما لأسباب عاطفية بحتة تتعلق بعلاقات أسرتي بفقراء عديدين.. تنتابني أحيانا بعض المشاعر القومية.. لأسباب مجهولة يرق قلبي للمدن العربية القديمة.. الكوفة.. البصرة.. دمشق.. الدارالبيضاء.. أعتز بمصريتي جدا حتي أني أبكي كلما سمعت هتاف المصريين "ارفع راسك فوق انت مصري".. أعتز بإسلامي جدا لكني أغضب جدا حين أسمع هتاف الأصوليين في ميدان التحرير "ارفع راسك فوق انت مسلم".. يوجعني دعاء المشايخ في صلاة الجمعة حين يدعون للمريض المسلم والفقير المسلم والمسكين المسلم.. الإسلام عالمي. إنساني.. فقرينك في الخلق.. بالنسبة لي أدعو لكل الناس.. إن لم يكن أخوك في الإسلام فقرينك في الخلق.. كلمات عُمر الخالدة.. عُمر الذي يفهم الإسلام أفضل منك يا شيخنا.. يومان يؤرقان عمر.. يوم الحديبية ويوم المرأة اليهودية.. يوم أن قسي علي نفسه لأنه دعي اليهودية للإسلام بينما كان يعطيها من بيت المال فقالت له "أما هذه فلا يا أمير المؤمنين" فبات ليلته يتعذب ويلوم نفسه "يا عمر أليس هذا من الإكراه في الدين؟".. من أنت يا شيخ برهامي؟ ما هي هويتك؟ أوصلتني التجربة والقراءة لأن أعرّف نفسي أحيانا باعتباري علمانيا.. أؤمن بالعقل وبالحرية.. تعرفت علي الإسلام حقيقة من كتابات الإمام محمد عبده وطه حسين ومن جدي شيخ الطريقة الخلوتية المحمدية.. قرأت لابن رشد الذي حرقوا كتبه وللجاحظ الذي قيل لي بعدها إنه كان اعتزاليا.. حديث الروح سري لروحي من أشعار محمد إقبال ودراساته عن الإسلام.. مالك بن نبي.. بن عربي.. السهروردي.. وأقنعتني نظرية "غير المترادفات" في تفسير القرآن لدي السوري محمد شحرور الذي قيل لي مؤخرا إنه قرآني.. وقرأت مبكرا لنصر حامد أبو زيد وأحببت إسلامه قبل وبعد أن يفرقوا بينه وبين زوجته كي يتم عبد الصبور شاهين دينه.. بحكم دراستي للمسرح وبحكم كتابتي للأدب تفهمت أن البشر مساكين، وأننا يتعين علينا أن نسامحهم لأنهم رغم كل الشر الذي يمارسونه لديهم تحت الجلد حس إنساني لم يكتشفوه ولم نكتشفه.. من أنا؟.. نصف إله؟.. نصف شيطان؟.. إله مسكين؟ هل فكّر برهامي أنه ربما علي خطأ؟.. أنا فكرت في ذلك.. قبل عشرين عاما من الآن تقريبا شغلتني مسألة الإيمان، تساءلت أنا الصبي وقتها عما هو الأجدر لي: أن استسلم لكوني ابنا لأبوين مسلمين وأن أتلقي تعاليم الدين المعتمد عائليا دون مناقشة نشدانا للسلام، أم أنه من الأجدر وضع المسألة في حيز النقاش والفهم. تعلق السؤال أيضا سؤالي بالتفكير في أن لا إيمان بلا عقل، وأن الله الذي أرسل كل هؤلاء الرسل والأنبياء الذين سمعنا عنهم والذين لم نسمع والذي قيل لنا إنه ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدون لن يكون سعيدا أبدا بملايين البشر الذين يتوارثون إيمانهم ضمن إرثهم الثقافي والبيولوجي والمادي، خصوصا وأنه قد خلقهم أحرارا بالأساس، وكان ظني دائما ومن وقتها أن البشر خلقوا أحرارا فقط لهذا السبب، أو بمعني أدق كي لا يكونوا قطيعا، وأن يكون إيمانهم أو عدم إيمانهم اختيارا وإرادة، وكان ظني دائما أن البشر ليسوا حيوانات ولا ملائكة ولا شياطين، وإن كان لهم نصيب من كل هذا. علي هذا الأساس قررت عدم الاستمرار في الصلاة التي كان أبويّ قد لقناني إياها منذ سن السادسة. وعلي مدار عامين تقريبا كنت قد قرأت كل ما أمكنني التوصل إليه من كتب، بداية طبعا من الكتب السماوية، والشروحات الممكنة، بل والأديان التي تسمي بشرية كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية. في نهاية العامين كنت قد قررت أن أكون مسلما، وجدتني مؤمنا بالإسلام لأسباب أغلبها عقلي، وبعضها لأسباب ترتبط بتعلقي بإله المسلمين الذي قرأت أحاديثه القدسية ذات ليلة فشعرت كما لو أنها كانت خطابات مرسلة لي بشكل شخصي، ولن أكون مدعيا لو قلت إني في تلك الليلة قد كابدت كالأنبياء لحظات الوحي، وإنه لولا هذ المكابدة لما كان لإيماني معني ولما كان لما أكتبه الآن أي مبرر. قررت أن أكون مسلما ولا أعرف ما القرار الذي كنت سأتخذه لو أني تعرفت أولا علي إسلام الصحراء والظلمة الموحشة.. علي إسلام الكراهية؟! قررت أن أكون مسلما ومع هذا فلم أعتقد يوما أن إيماني بالإسلام حجة علي ضلال المؤمنين بالأديان الأخري، سواء السماوية أو ما تعرف بالإنسانية، فقد وقر في ضميري أن كل من مر بتجربة مشابهة وهداه قلبه وعقله إلي الإيمان بأي من تلك الأديان هو علي حق ولو كان علي باطل من وجهة نظر المؤمنين الآخرين. فليس في إيماني أن الله أرسل الرسل ليضللنا، ففي إيماني أن الله أرسل دينا واحدا بشرائع عدة، كل تبعا لظروف النبوة تاريخيا وحضاريا، وأن اختلاف الشرائع لا يعني أبدا أن الأصل لم يكن هو ذاته. لكلٍ أن يبدأ طريقه من النقطة التي تصادفه وهو بالتأكيد سيصل إذا ما رغب حقا في الوصول.. ليست هناك نقطة نهاية واحدة.. نقطة البداية واحدة.. هي تبدأ دائما بسؤال.. أما النهايات فمفتوحة.. علي كل منا أن يتلقي وحيه.. أن ينتظر جبريله.. أن يجيب عن سؤاله بنفسه شرط ألا ينوب عن الآخرين في الإجابة علي أسئلتهم. شرط المحبة الجسارة.. والحرية شرط الإيمان. بعضنا يموت قبل أن يصل.. قبل أن يبدأ.. بعضنا تعوزه الجسارة لكي يسأل.. لكي يحب.. لكي يتحرر.. لكي يؤمن. آمنت في نهاية الطريق أن الله موجود.. حيثما أشرّق أو أغرّب فثم وجهه.. فثم لقاء.. فثم محبة لا استعباد. أدين بدين الحب أنّا توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.. ومع هذا.. أنا المؤمن أفكر أحيانا إذا ما كنت مخطئا أم لا.. الله يحبني لهذا السبب.. لست علي يقين من ذلك.. ولكن لم لا؟ هل ورث برهامي إيمانه عن والديه؟ هل كابد تجربة الوصول للحقيقة كي يكون لديه كل هذا اليقين.. كل هذا اليقين لكي يجيب نيابة عنا عن السؤال الأهم: من نحن؟.. لا أعرف ولكني أعرف أن يقينه يؤذي ضميري.. لا أريد لأحد أن يجيب نيابة عني عن الأسئلة التي خلقنا لنكابد اكتشاف إجاباتها.. كيف يجيب برهامي مهما بلغ يقينه علي أسئلة بعضنا لم يسألها بعد.. بعضنا سألها ولم يصل لإجاباتها بعد.. بعضنا وصل لإجابات مختلفة عن إجابات برهامي. بعضنا يعرف أن الله جميل يحب الجمال.. أن الله عظيم ولن يكون مشغولا أبدا إذا ما طالت لحيتنا أو قصر جلبابنا.. أن الله لن يحب لحية غير مشذبة كهذه التي له.. لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.. والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره.. في شريعتي الله لا يحب الذين في قلوبهم كراهية.. كيف يأتون بكل هذا اليقين ليكرهوا؟ ليبغضوا المسيحيين؟ ليكفّروا العلمانيين؟ ليُجهّلوا المختلفين؟ ليصرخوا فينا ماذا رأيتم من الله كي تكرهون شريعته.. رأيناكم أنتم يا شيخنا.. الله محبة.. النور محبة.. الخير محبة.. يا رب تفضل حلاوة سلام أول لقا في إيدينا.. وفرح أول معاد منقاد شموع حوالينا.. ويفوت علينا الزمان يفرش آمانه علينا.. هل تفتحت مسامهم مرة مع ابتهال الألف ليلة وليلة؟ هم يتقربون إلي الله بالكراهية وأنا في شريعتي.. الله محبة.. لا يُتقرب إليه إلا بالمحبة. أعرف أنني مصري الوطن ومسلم الديانة وعربي القومية وإفريقي أحيانا.. وبحر متوسطي أحيانا أخري.. هكذا قالوا لنا في المدارس.. ولكن هل هذه هي الإجابات المناسبة لسؤال الهوية؟ ماذا يعني كوني مصريا.. كوني مسلما.. عربيا.. أفريقيا.. ما الذي تفرضه عليّ كل تلك الدوائر؟.. ما الذي يعنيه للآخرين أن أكون مسلما؟.. أن أكون مصريا؟.. أن أكون أي شيء؟.. ما الذي يعنيه لي كون جاري في الشقة المقابلة مسيحيا أو كونه عراقيا هاربا من الحرب أو كونه أسيويا جاء للبحث عن رزقه؟.. ما الذي يعنيه لأي أحد؟ فقرينك في الخلق.. قرينك في الخلق. من أنا؟ لست في حاجة لبرهامي لكي يجيب عن هذا السؤال.. هو نفسه لن يكفيه يقينه للإجابة عن السؤال: من أنت يا شيخ برهامي؟.. إلي أي درجة أنت مشغول بي يا شيخ برهامي؟.. ماذا يضيرك لو أقمت الصلاة علي وقتها أم لم أقمها علي الإطلاق؟.. ماذا يضيرك من صلاتي.. من صيامي.. من زكاتي؟. من أطلعك علي إرادة الله؟ من أخبرك أن الله يريدنا أن نصلي كالقطيع ونصوم كالقطيع ونقطع أيدي بعضنا البعض كالقطيع؟ من أنابك عن الله لمنعنا عن السؤال؟ من أنابك عن الله في قول كلمته؟ من أوكلك عن الله لإخراس أم كلثوم؟ إلا أم كلثوم يا وكيل الله.. أنا مسلم.. أنا الذي آمنت بالإسلام في لحظة وحي ما زلت أسأل.. ليس لدي يقينك يا شيخ.. لا أملك إيمانك.. فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.. ادع لي يا شيخ قبل أن تجلدني.. قبل أن تقطع يدي.. قبل أن يكفيك يقينك لحجب قلقي.. من أين لك كل هذا اليقين لتشكيل العالم؟.. خطران يتهددان العالم: يقين مطلق وشك مطلق.. ليس أخطر من الشك قدر اليقين.. كل هذا اليقين يا شيخ برهامي لكي تقيم دولة وفق شريعتك؟.. كل هذا اليقين لتعرف أن الله أنابك لتطبيق شريعته؟ من أنت يا شيخ برهامي؟.. دعني أسألك.. هل اكتمل إسلامي أم تراه لا يكتمل إلا بعد الجلد؟.. كم جلدة أحتاج كي يكتمل إيماني؟.. كم جلدة تحتاج كي يكتمل إيمانك؟.. كم سوطاً يقطع جلدي تحتاجه كي تكتمل هويتك الإسلامية؟.. كم جلدة تحتاجها لتشهد لي بالإيمان؟.. كم جلدة يحتاج الله كي يرضي؟.. كم قتيلاً يحتاج الله كي يدخلنا جنته؟ بالله يا شيخ برهامي أن تجيبني.. من أنت يا شيخ؟