في دراسته عن »طراز التوشيح بين الانحراف والتناص»(مجلة فصول1989)، التي وضعت قوانين الانحراف عن المألوف جنبًا إلي جنب مع قوانين الطبيعة التناصية للنصوص، مكتشفة ما أطلقت عليه بويطيقا الانحراف التي يمكن معاينتها وتأملها من منظور التناص. يقدم »صلاح فضل» فحصًا نقديًا للتوشيح، حيث يشير في بدايته إلي مدائنها التي ولدت فيها، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكتشف »تراسلًا شائقًا بين جماليات المكان وملامح الإنتاج الفني الذي تخمر في حضنه وتشرب روحه، وتشكل بطابعه» (ص 70)، وعلي الرغم من ذلك، فإن ذلك الفحص الذي يقوم به »فضل» يتجاوز عن القراءة التاريخية لهذا الجنس الأدبي، ويكتفي بالإشارة إلي ذلك التطابق المدهش بين »جملة الملامح الأسلوبية البارزة للموشحة، وهذه الصورة الطريفة للمدينة المطرزة اللعوب» (ص 70)، متجهًا إلي فحص الخصائص النوعية للموشحة، التي تشير إلي »انحرافها الحاد عن نموذج القصيدة المشرقية وخروجها عن إطاره، وهو انحراف أندلسي في صميمه أدت إليه ضرورات الزمان والمكان» (ص 70). ولهذا السبب يتصور »فضل» أن الجهد النقدي المبذول من قبل الباحثين، للمباعدة بين الصفة الأندلسية والموشحات وذلك بإرجاعها إلي أنماط المخمسات المسمطات المشرقية، يغيب عنه »الوعي بشبكة العلاقات النصية والتاريخية معًا» (ص 70). هذا الانحراف الأندلسي للموشحة عن القصيدة النموذج يتجلي في ثلاثة مستويات متراكبة، يختص المستوي الأول منها بالبنية الموسيقية، والثاني بتداخل المستويات اللغوية، والثالث بكسر النمط الأخلاقي، فتحت عنوان: تنضيد البنية الموسيقية، يرصد »فضل» انحراف الموشحة الموسيقي متمثلًا في مبادئ ثلاثة هي: »الاعتماد علي التفعيلة بوصفها وحدة للوزن بدلًا من البحر، ومزج البحور في الموشحة الواحدة، وارتكاز الإيقاع علي اللحن المصاحب علي الوزن العروضي فحسب» (ص 71). هذا الانحراف الموسيقي بأشكاله الثلاثة لم يكن رخصة تجيز للوشاح أن يستخدمها في موشحته، وإنما هو معالم أساسية ومائزة للموشحة. فإذا عدل الوشاح عن هذا الانحراف وقوم معوجه رجع إلي جنس الشعر، وأنتج موشحًا شعريًا مزرولًا. ويتصور »فضل» أن بعضًا من الباحثين لم يستوعب هذا الأمر حتي الآن، فقد يقوم هؤلاء بإخضاع الموشحة قسرًا لعروض الخليل مما ينتج عنه إخماد لثورتها الموسيقية (ص71)، فالموشحة تعتمد علي التفعيلة بدلًا من البيت، وترتكز علي فكرة التنضيد المتساوق المتوازي فتبدع نسقًا مرتبًا وتحافظ عليه وتعمد إلي تكرار النمط الذي تتخذه وتلتزم به بالإضافة لتكرار القافية المتنوعة. ويقودنا هذا الانحراف إلي الانحراف الثاني وهو مزج البحور، ويعد من »خواص البنية الموسيقية للموشحات، ومظهرا بارزا من مظاهر كسرها للإطار العروضي للقصيدة» (ص72). أما المظهر الثالث للانحراف في البنية الموسيقية للموشحة فيتمثل في الاتكاء علي التلحين، حيث إن التلحين يقوم بعملية جبر للكسور العروضية، كما أنه يكمل مسافاتها الإيقاعية: »فإذا قرأت أبيات بعض الموشحات بدون موسيقي بدت كأنها نثرية لا إيقاع يضبط أنغامها، ولا وزن ينتظمها، فإذا جرت علي يد الملحن أضاف إليها من اللوازم الموسيقية والتكملات اللحنية ما تصح به». (ص72). يمثل تداخل المستويات اللغوية المبدأ الثاني لانحراف الموشحة عن القصيدة النموذج. فإذا كانت القصيدة النموذج، كما قننتها نظرية عمود الشعر في النقد العربي القديم، تتأسس، فيما يري »فضل»، علي نظرية النقاء اللغوي، بالمعني الذي يتطلب »قدرًا عاليًا من بكارة اللغة، وجزالة اللفظ، وشرف المعني، والتئام النسيج، بحيث تنتمي القصيدة إلي مستوي رفيع وفريد دون خلط أو تفاوت، وكلما أمعنت القصيدة في صبغتها البدوية الأصيلة اقتربت من المثالية المنشودة لدي النقاد والبلاغيين في جملتهم، واكتسبت درجة عالية من النبل والصفاء» (ص72)، فإن الموشحة تخرج عن هذا العمود الشعري، وتكسره لتتخذ مسارًا مضادًا له، وتنبني »علي تداخل المستويات اللغوية، وتجمع في نسيجها بين ثلاثة خيوط، الفصحي المعربة، والعامية الملحونة، والأعجمية الرومية» (ص ص73-72). ويري فضل أن هذا التداخل بين المستويات اللغوية في الموشحة هو شرط وجودها وتحققها، فبدون هذا التداخل لا يمكن أن تستقر تقاليد الموشحة، »فيخصص الجزء الأخير منها وهو الخرجة للمستويات العامية والأعجمية، والخرجة هي الجزء المهم في البنية... ويظل التفاوت اللغوي هو الخصوصية الشائقة والفارقة بين القصيدة والموشحة» (ص73). وإذا كانت الموشحة قد انحرفت في بنيتها الموسيقية، وقامت بعملية تدمير لنظرية النقاء اللغوي بإقرارها تداخل المستويات اللغوية، فإن ذلك يؤدي بنا إلي المستوي الثالث للانحراف، الذي أطلق عليه »فضل»: كسر النمط الأخلاقي. لقد عمدت الموشحة إلي الإطار الأخلاقي الصلب الذي »تكلس حول الإبداع الشعري فأصابه بالجمود والنمطية فقفزت من فوقه، ولعبت بقوانينه وجعلت العبث المحسوب من تقاليده... فعلي حافة العلاقة المسنونة بين العقل والعبث والتعبير والتصوير، تتراءي أمام الفنان أعمق مظاهر الحياة وأوضح معالم الوجود الواقعي للإنسان في المجتمع، دون تكلف أو ادعاء أو تصلب» (ص75). ويلفت فضل انتباهنا إلي أن معظم الخرجات الخارجة أو التي تكسر الإطار الأخلاقي الصلب قد وردت علي لسان امرأة أو فتاة، وأنها تمثل طفرة في سياق الموشحة، »لتحقق إلي جانب تعدد الأصوات... المفارقة البينية بين المستويات الجادة والعابثة وبهذا تختلف الموشحة عن قصيدة المجون في الشعر العربي، فكلها يتسم بهذا الطابع المتسق، أما الموشحة فتشق النظام السائد وتزاوج بين حالات الحياة» (ص75). وبعدما انتهي »فضل» من فحص مظاهر الانحراف في الموشحة ينقلنا إلي المحور الثاني من دراسته وهو معاينة الموشحة من منظور التناص، فتحت عنوان »التناص والشعرية» يشير »فضل» إلي ما ذكره »جريماس» و»كورتس»، في معجمهما التحليلي للسميوطيقا واللغة، في تعريف التناص، وإقرارهما بأن »باختين» هو أول من استخدام مفهوم التناص، وقد لفت الانتباه بحيوية الإجراءات التي يمكن أن تمثل تحولًا منهجيًا في نظرية التأثيرات (ص76). ويعود »فضل» إلي »باختين» ليجد لديه فصولًا ممتعة عن الشعرية وحوارية اللغة التي يمكن أن تلقي ضوءًا غامرًا يفيدنا في فهم خاصية التناص كما تتجلي في الموشحة. ثم يتقدم »فضل» خطوة أخري لمعاينة مفهوم التناص كما طرحته »جوليا كرستيفا»، التي اشتهرت بأنها أبرز من قدمه للنقد الحديث، وتستند »كرستيفا» إلي أن أي فضاء نصي هو فضاء متعدد الأبعاد، وهو ما تطلق عليه اسم التناص، فمن خلال هذا المنظور، فإن الدلالة لا يمكن أن تعد رهينة شفرة وحيدة بل تتقاطع فيها عدة شفرات، وإنتاج النص ينمو خلال حركة مركبة من إثبات نصوص أخري ونفيها (ص76). ويشرح »فضل» الكيفية التي يمكن من خلالها الإفادة من هذا المفهوم وتطبيقه علي الموشحة بقوله: »وإذا كانت القصيدة العربية تعيش وهم البكارة اللغوية، عندما يشترط فيها نقديًا نقاء صوتها الشعري وتفرده، وخصوصية أبنيتها التركيبية، وتوحد مستواها الإبداعي للمؤلف، بحيث لا يشتم منها أية شبهة للالتقاء بأصوات أخري، وإلا عد ذلك من قبيل السرقات التي مثلت نسبة عالية من كتب التحليل النصي التي تأخذ بهذا المنظور، إذا كان ذلك كذلك فإن الموشحة تقصد إلي النموذج المضاد، عندما يعمد الوشاح إلي اختيار خرجة أعجمية، من بقايا أغنية شعبية رومانسية، أو عامية من قطعة غنائية دارجة، ويبني عمله الشعري عليها، علي النحو الذي يتضمن اعتداء جسورًا علي الحدود الفاصلة بين العوالم المختلفة، إنه بذلك يجرح بتلذذ الحس القومي والتاريخي والفني، ليصل إلي أقصي درجات الإمتاع الغنائي، ويقيم تجربته في هذه القصيدة المضادة علي أنقاض الحياة السابقة للنص المأخوذ، بلغة غير عذرية، علي نحو يقربه من شعرية الواقع المعيش، بتقلباته التاريخية، وخبرته المتراكمة في الحياة والفن» (ص77). أما قراءة الموشحة من منظور التناص، فإنه يتخذ طريقين أحدهما تعدد الأصوات، والثاني هو ترجيع الأصداء وإشباع النموذج، والطريق الأول يتكئ علي الخرجة في الموشحة بوصفها المظهر المحدد لتعدد الأصوات، فعندما »يعمد الوشاح إلي اقتطاع جزء من أغنية أعجمية أو عامية علي أساس منظومته، أو تعددًا مفترضًا، وذلك بأن يجتهد الوشاح أولًا في تمثل موقف ما علي لسان شخص آخر يعبر عنه، ثم يأخذ في إتمام عمله متقدمًا من النهاية إلي البداية، ولابد له في كلتا الحالتين من إقامة دليل لغوي مادي يشير إلي هذا التعدد، فلا تأتي الخرجة إلا عقب إيراد إشارة لفظية تحدد اختلاف من ترد علي لسانه عن مؤلف الموشحة(ص77). أما الطريق الثاني فإنه يعتمد علي فكرة البؤرة المزدوجة، وهي فكرة اقتبسها »صبري حافظ» في دراسته عن »التناص وإشاريات العمل الأدبي» من دراسة »جوناثان كولر» الشهيرة: »الافتراض القبلي والتناص» (»uller, Jonathan 1981)، ويتم توظيفها من قبل »فضل» ببراعة متقنة، إذ »تتجلي ازدواج البؤرة بشكل بارز في الموشحات التي تكتب كلها علي نمط نموذج سابق عليها: إذ يتراءي النموذج الأول دائمًا خلف ما يوازيه، ومع هذا اللون من المعارضة كان قائمًا في بعض الأحيان في القصيدة، إلا أنه أصبح من قوانين الموشحة ونظامها المطرد» (ص79). هذه هي القراءة التي قدمها »صلاح فضل» ل »طراز التوشيح بين الانحراف والتناص»، وهي قراءة، كما أشرت سلفًا، وضعت قوانين الانحراف عن المألوف جنبًا إلي جنب مع قوانين الطبيعة التناصية للنص، مكتشفة ما أطلقت عليه بويطيقا الانحراف التي يمكن معاينتها من منظور التناص، أما اللافت للانتباه في هذه القراءة أنها لم تبدأ من مفردة التناص لافتراض شبكة من العلاقات النصية يتم تأول وفهم الموشحة طبقًا لها، فما قدمته العكس تمامًا، إنها بدأت ب »بويطيقا الموشحة»، واكتشفت كيف حصلت تلك الموشحة علي نتائجها الأدبية، وهي نتائج نتجت من غير شك بعلاقات تدميرية بالنص أو بالنصوص السابقة عليها، ويأتي التناص بعد ذلك ليؤكد تلك الطبيعة الانحرافية للموشحة عن طريق تعدد الأصوات وإشباع النموذج. قراءة »فضل» متقنة ودقيقة، لكنها تؤدي بنا إلي أن نصف »فضل» بأنه بويطيقي تجاوز عن البنية المنغلقة علي نفسها إلي آفاق البنية المنفتحة علي ما سواها، وقراءة النصوص ثقافيًا أو وضع نص الموشحة ضمن إطار نص المجتمع والتاريخ. هذا أيضًا يبرر لنا احتفاء »فضل» بفكرة »كولر» عن ازدواج البؤرة، التي تعني أن التناص »يلفت انتباهنا إلي أهمية النصوص السابقة، ملحًا علي أن استقلالية النصوص هي فكرة مغلوطة وأن أي عمل يكتسب معناه فقط لأن أفكارًا معينة تمت كتابتها سلفًا، وكأن التناص يركز، من ثم، علي المفهومية أو الإدراكية علي المعني، ويقودنا التناص إلي أن نتأمل النصوص السابقة بوصفها مساهمات لشفرة ما تجعل النتائج المتنوعة للدلالة ممكنة، فالتناص يصبح مسمي هزيلًا لعلاقة عمل ما بنصوص معينة سابقة، وإنما هو تحديد أو تعيين مشاركته في الفضاء الخطابي لثقافة ما: أي العلاقة بين نص ما واللغات المتنوعة أو الممارسات الدالة لثقافة ما... ومن ثم فإن دراسة التناص ليست استقصاءً للمصادر والتأثيرات كما يتم إدراكها بطريقة تقليدية: إنها تطرح شبكتها المتسعة لتشمل الممارسات الخطابية مجهولة المصدر والشفرات المفتقدة لأصولها، التي تجعل الممارسات الدالة للنصوص المتأخرة ممكنة»(»uller, Jonathan)1981(, P. 103). ويجب الانتباه إلي أن المسافة بين »كولر» و»فضل» ليست بعيدة، فهما متشابهان إلي حد كبير، وكلاهما بدأ بويطيقيًا: لقد قدم »كولر» دراسته عن »البويطيقا البنيوية» عام 1975، التي حملت مع مجموعة من الكتب الأخري الوعي البنيوي داخل الأكاديمية الأمريكية، وليس بعيدًا عن هذا التاريخ، ففي عام 1978 قدم »فضل» دراسته عن »نظرية البنائية في النقد الأدبي»، التي قدمت البنيوية مع كتابات أخري إلي العالم العربي، وانتهي »كولر» و»فضل» إلي هجر التزمت البنيوي إلي الآفاق المتسعة لما بعد البنيوية، أو بعبارة أخري: إن دراسة »فضل» ل»طراز التوشيح بين الانحراف والتناص» هي علامة التحول من البنيوية إلي ما بعدها، أو هي علامة التحول من البويطيقا إلي التناص.