في اتصال هاتفي بالسيدة صافيناز كاظم (ضمن من قابلتُهم أو اتصلتُ بهم في رحلتي للبحث عن الراحل نجيب سرور إعدادا لعمل روائي عنه) روت لي هذه الحكاية الدالّة عن الرجل وعن تصورنا له؛ تقول السيدة صافيناز مُتذكرة أول مرة سمعت فيها القصيدة (والتي سيتم تسميتها تهذيبا ب أمَيات) "كان ذلك في الطريق بين العتبة وقبة الغوري حيث كنّا متوجهين معا في أحد أعوام السبعينات لقضاء مشوار ما"، تتذكر، أثناء تلك التمشية يقول لها نجيب سرور"اسمعي هذه القصيدة، وتجاوزي قليلا عما سيرد فيها من ألفاظ وانتبهي لما أريد قوله" تحكي صافيناز كاظم أنه بدأ يُسمعها تلك القصيدة الوحشية، وأنها كانت تتلفت حولها خوفا من أن يسمعهما أحد المارة، وانزعاجا من تلك الألفاظ الفاحشة (طوال المكالمة كانت كاظم تقول فاحشة بالإنجليزية: Obscene) ولكن تضيف - وهذا هو المهم - أنها بعد تجاوز تلك المفردات القاسية، البذيئة، ال Obscene، وجدت أنها قصيدة مهمة فعلا، وأنها تكشف عن خديعة الحلم الناصري وعن الكذبة الضخمة التي عاشها جيلهم المغدور في الستينات إلخ إلخ. لا يعنيني من هذه الحكاية - علي الأقل في هذه الدراسة بصدد نجيب سرور ولغته - سوي ذلك التصور العام الذي عبّرت عنه السيدة صافيناز كاظم بشكل غير واعٍ ولكنه بليغ تماما؛ أن نجيب سرور كان يريد قول أشياء صادقة تماما وفنية تماما ولكنه لظروف ما، شخصية أو سياسية، تورط في استخدام تلك اللغة البذيئة الفاحشة. أن نجيب سرور مبدع كبير ولكنه لم يحتمل ظرفا ما، عاما أو خاصا، فقرر الانزلاق لتلك اللغة الهجائية الغليظة المترعة بالشتائم، وأن قصيدته الأشهر "أميات" هي استثناء في مسيرة شاعر وكاتب مسرحي، انفصلت فيها اللغة عن المعني؛ ارتفع المعني للسماء وتمرغت اللغة في الطين، وأن نجيب سرور مبدع كبير، وأن اختزاله في أميات هو ظلم واضح لمشروعه الكبير إلخ إلخ. كان هذا تقريبا ما يريد جميع معاصري سرور إيصاله لي عندما يعرفون أنني بصدد كتابة رواية عنه وعن الفترة التي قضاها في مصحة العباسية (حيث كتب الجزء الأكبر من "أميات") إلي أي مدي يصمد هذا التصور، عندما ندرس تطور اللغة عند نجيب سرور؟ في مسرحية "الكلمات المتقاطعة" (والتي بذل الكاتب والمحقق محمد السيد عيد مجهودا عظيما لاستعادتها للوجود) يقول الزوج - المعادل الموضوعي لنجيب سرور - لزوجته الصحفية: - بالله العظيم نجيب محفوظ أمكر من توفيق الحكيم الزوجة: انت بتقول ايه؟ الزوج: مش هو اللي قال مرة "المصيبة ان صديقنا هو عدونا" فرد التاني قال له "لأ، المصيبة ان عدونا هو صديقنا"؟ الزوجة: ودي فيها ايه؟ الزوج: بالله العظيم ما اعرف، لكن من يوم ما قريتها وانا دايخ، ولا عارف عدوي من صديقي ولا صديقي من عدوي، عدوك بقا ع الدوخة، ولا الفوازير! الزوجة: وانت قريتها فين دي؟ الزوج: في الكلب واللصوص الزوجة: اللص والكلاب يا جاهل الزوج: وماله؟ معكوسة. في هذا الجزء، يفعل نجيب سرور ما سيفعله بالضبط في كتاب مجهول له بعد ذلك سينشره في منتصف السبعينات يدعي "هكذا تكلم جحا"، السخرية الجارحة من جميع مثقفي عصره، وعلي رأسهم الرجلين المُنظمين نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم؛ واللغة هنا هي بوابة الدخول لتلك السخرية، لا سيما عندما يتحول الأدب عند هؤلاء الكتّاب (والذين تم السماح لهم بالمرور للقارئ، بخلاف ما حدث له، حسب وجهة نظره) إلي لعبة لغوية باردة ينفصل فيها الكلام عن قائله، فالوجوديون يتحدثون عن الانتحار ولا ينتحرون، وصلاح جاهين يحدثنا عن الاكتئاب ويستمر في كتابة أعمال تجارية تحقق له ثراءً فاحشا، والشعراء والمطربين يتاجرون بكلمة أدب وغناء شعبي لينتجوا أدبا وغناءً هو أبعد ما يكون عن الشعب (هكذا تكلم جحا: ص 7 مطبوعات الشعب) إلي آخر تلك الفكرة التي سيطرت عليه بشكل واضح، بدءا من أزمته التي بدأت شخصية قرب النكسة، ثم تصاعدت فيها الدراما تماما بأدائه الدون كيخوتي (وسنرجع لعلاقة سرور بدون كيخوتة لاحقا) بتشرده في الشوارع، حرفيا لا مجازيا، وصولا لدخوله إلي مصحة العباسية ثم خروجه وإلي آخر تلك الملحمة الهائلة التي عاشها الرجل. كانت تسيطر عليه عدة أفكار بشكل واضح، أبرزها فيما يخص المثقفين، أن ما يقولونه يظل مجرد كلام، وأن البلد ضاعت، بينما هيكل (مُلحقا بالأستاذ صفة لا يصح نشرها صحفيا) "بيكتب لسة بصراحة" علي حد تعبيره الساخر والموجع! بحسب ما ينقل عالم اللغة جون جوزيف في كتابه "اللغة والهوية" فإن "اللغة تولد الهوية علي النحو التالي، أولا، تجرد اللغة عالم التجربة إلي كلمات، والالتقاء باللغة يجعلنا نتعالي عن التجربة الآنية البسيطة والانغماس فيها مما يمكننا من تشكيل تصور للذات بدلا من أن نكون مجرد ذات" وربما لا ينطبق ذلك الكلام علي وظيفة اللغة في تشكيل الذات كما ينطبق علي نجيب سرور، والذي تقلصت تلك المساحة بينه وبين ذاته لدرجة مدهشة، وبدراسة أسلوبية بسيطة يمكنك أن تكتشف الخلفية الثقافية والاجتماعية للرجل حتي لو لم تكن تعرف عنه شيئا. يستخدم سرور الألفاظ الريفية بشكل متكرر في شعره، حتي الفصيح منه، علي سبيل المثال (غيرُ مسموحٍ لبنت في بهوت/أن تقهقه/فهو عيبٌ بل وحتي عيب شوم) أو (كان ياسين صبيا/شاربا من بزّ أمه) ويستخدم كذلك التراكيب العامية بكثرة داخل شعره المسرحي الفصيح - وقد جلب عليه ذلك مشاكل نقدية كثيرة، ضخّمها إحساسه بالمؤامرة، وكان أثرها عليه بالغ القسوة، يقول مثلا (فشرت كل الأسامي الأجنبية/جنب اسمك يا بهية/ولهذا/قلت أهواها كما ياسين يهواها وأكثر/فاعذروني واعذروه) أو شعوره التام بالحرية حتي في السخرية من طبيعة الفن الذي هو بصدده، يقول مثلا (ليس في هذا محل للنقاش/لاحظوا أن النقاش/لفظة جاءت غطاء للقماش/وبحكم القافية/ ليس أكثر) أو تلك الحرية المطلقة المنطلقة التي مارسها في كتابه - "هكذا تكلم ابو العلاء"، والذي بدأه كتابا نقديا لينتهي ويصل إلي نتيجة مفادها أن أبا العلاء المعري زعيم أخوية سرية تدعي الكتيبة الخرساء، وأن كل أشعاره هي شفرة سرية لنقل أفكار هذه الكتيبة الخرساء! السمة الأسلوبية الأخري البارزة عند نجيب سرور والتي ربما تلقي بضوء كاشف علي تجربته الإبداعية والشخصية هي استطراداته الكثيرة، واعتماده المكثف علي الاستشهادات (وقد تكفلت ثقافته الموسوعية الطاغية في دعم حكاية الاستشهادات هذه) فمنذ قصيدته الباكرة "فرج الله الحلو والجستابو" وحتي آخر ما كتب - ربما تكون أغاني المسلسل الإذاعي فارس آخر زمن - نجد غلبة الجانب السردي علي الشعري، وربما يفسر ذلك ميله الدائم لفن الشعر المسرحي الذي يتيح ذلك الاستطراد والفضفضة اللغوية، ولكن دلالة ذلك الأعمق فيما يتعلق بنجيب سرور نفسه هو إحساسه الدائم إما بعدم وضوحه أو بعدم قدرة الآخرين علي التقاط ما يريد قوله، فيضطر للشرح والتوكيد أكثر من مرة إما شكا في نفسه أو في الآخرين (أو كلاهما) وهو ما يتأكد أكثر بالسمة الثانية، وهي إفراطه في استخدام الاستشهادات من التراث أو الأدب العالمي واستخدام التضمين المسرحي أو الشعري بوفرة في نصوصه (في مسرحية الكلمات المتقاطعة مثلا ضمن أحد المشاهد فصلا كاملا من يوليوس قيصر!) وغلبة الاستشهادات هذه تقودنا أحيانا للشعور بهشاشة التجربة حتي أنها تضطر أن تستند لشيء آخر تقوم عليه، أو - وهو ما أرجحه - أن شعور نجيب سرور بالشك في ذاته وفي الآخرين كان هو مبرر هذا الإحساس بعدم كفاية التجربة ذاتها، و هو ما كان يضطره بالتالي لهذه الاستشهادات الغزيرة، وقد يؤكد هذا التخمين اتكاؤه الدائم علي عدة شخصيات بعينها في التاريخ كان دائم الرجوع والاستناد إليها (السيد المسيح، المعري، هاملت ودون كيخوتة، والذي كان يطلِق عليه الشهيد دون كيخوتةّ!) بما تحمله هذه الشخصيات من تناقضات جوهرية أصلا في ذواتها، فليس هناك علاقة بين هاملت العاجز عن اتخاذ قرار بشأن خيانة أمه وعمه، والسيد المسيح الذي يتلقي الخيانة بصدر رحب في سبيل وظيفته لافتداء البشرية، ولا أبو العلاء (يكاد لا يخلو كتاب وربما صفحة لنجيب سرور من استشهاد به) الذي اعتزل الدنيا والناس ليمارس ألاعيبه اللغوية، سواء كانت مجرد ألاعيب أو شفرة سرية لتغيير العالم كما كان يؤمن سرور. أضف إلي كل ذلك أن طبيعة الاتكاء علي شخصية تراثية أيا كانت هي مؤشر لطبيعة الشخصية وقوتها، ومدي صلابتها في مواجهة واقعها. يجعلني كل ذلك أفكر، هل لهذه السمة الأسلوبية علاقة بما عرف عن سرور لاحقا من إدمان للخمر؟ أو بما قالته السيدة ساشا - زوجته - لي في حوار معها أن نجيب "لو كان قويا لكان لا يزال حيا بيننا للآن"؟ ربما.. يبدو مثيرا للتأمل هنا ذلك الجزء في مسرحيته "الكلمات المتقاطعة" حيث يقدم سرور نصا بالغ العذوبة يروي فيه قصة الخيانة التي حدثت له مع ممثلة مسرحية تزوجها في الستينات، حيث يبدو البطل/سرور كاتبا أعمي ليس له من صاحب في الدنيا سوي كلب عجوز، في انعكاس واضح للطريقة التي كان يري بها سرور نفسه، عاجزا عن الرؤية أو اتخاذ القرار، وغير قادر علي العثور علي صديق أو أهل للثقة سوي من كلب عجوز، يؤكد عزلته ولا ينفيها. لا يطيب لي أن أبدو فرويديا تماما وأنا بصدد دراسة نجيب سرور ولغته، ولكني بعد عام تقريبا من قراءة أعماله ومقابلة كل من كان له علاقة به، أشعر كلما استعدت قصيدته (والتي اتفقنا علي تسميتها ب أمّيات) فأري أنها حملت ملامح كثيرة، ليس فقط لشخصية الرجل ولا زمنه ولكن كذلك لإبداعه، خشونتها الظاهرة التي تخفي هشاشة صاحبها ذاتية، الجرأة اللفظية التي تتضمن جرأة فنية بلا حدود، الاستطراد الذي يحمل شكوكه في ذاته وفي العالم، ثم موقفها الأخلاقي الذي يكمن من خلفه ذلك الشاب الريفي، والذي هو بحسب تعبير سرور نفسه "شايل طبع الفلاح اللي خايف يضيع وسط شبان البندر"