الكتاب: "نداء الشعب.. تارىخ نقدى للأىدىولوجىا الناصرىة" المؤلف: شرىف ىونس الناشر:الشروق "لازم نسأل أنفسنا سؤال: من هو الشعب... اللي عاوزين الثورة الاجتماعية هم دول الشعب... طبعا كلمة الشعب بتختلف باختلاف الظروف واختلاف المفاهيم. النهاردة في ثورتنا الاجتماعية بنستطيع إن احنا نحدد الشعب زي ما ثورتنا السياسية ما حددت الشعب (فيما مضي) بأنه هو كل من وقف ضد الاستعمار". بهذه الصيغة استطاع عبد الناصر في عام 1956 أن يرد علي السؤال الخاص بعزل أفراد من الشعب من ممارسة النشاط السياسي، بعد أن كان قد تم الادعاء بأن العزل تم من قبل فعلاً. إذن عن أي شعب يتحدث عبد الناصر. هذا الشعب هو صنيعة الضباط الخاصة. ربما يكون مفهوم هذا "الشعب الغامض" هو محور كتاب شريف يونس الجديد "نداء الشعب.. تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية". الصادر مؤخرا عن دار الشروق ويعد إعادة كتابة لأطروحته التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه. الكتاب يقدم، كما يخبرنا عنوانه، تاريخا نقديا للناصرية، ليس بمعني أنه تأريخ معاد للناصرية بالضرورة، لكنه نقدي، أي يضع ظاهرة الناصرية في تاريخيتها، وبشكل مبسط، فالكتاب يتساءل: "كيف، ولماذا، أصبحت الناصرية ممكنة؟" الشعب هو شعبان، شعب واقعي، سعي عبد الناصر لتجريده من قواه السياسة وتنميط مصالحه المتناقضة في رؤية ضيقة، وشعب آخر، خالد، تحدث عنه الضباط، شعب سمعوه وهو ينادي عليهم لتحريرهم من الاستعمار فلم يتوانوا عن الاستجابة له، شعب بطل، قام بالثورة مع الجيش، ولكن الظروف لم تهيأ بعد ليظهر علي مسرح الأحداث، شبح شعب كما يسميه يونس. محاولة لإعادة خلق المجتمع من جديد حدثت مبكراً. في عام 1956 تم افتتاح "المجلس الأعلي للفنون والأداب" بهدف القوامة علي المجتمع. جاء في المذكرة الإيضاحية لقرار إنشائه التأكيد علي "واجب الدولة نحو شعبها بوصفها قوامة علي رفاهيته المادية والروحية"، وأن عليها "أن تحميه من سموم الفكر ومخدرات الوجدان". كما أوضح فتحي رضوان أن الهدف من تدخل الدولة المتزايد هو "بعث الفنون القومية" علي أساس "أننا درجنا علي التنكر لكل ما هو قومي، وهو ما يسمونه بالبلدي. إن وزارة الإرشاد... تعمل علي أن تُحل الفنون الشعبية مكان الصدارة، بعد أن تجملها وتصقلها، وتعطيها الثوب اللائق بمصر".. ويعلق يونس: "فهي فنون شعبية فقط من حيث نسبتها لأصل شعبي ما، ولكن معاد إنتاجها بما يتفق مع قيم الطبقة الوسطي، وأيديولوجيا الدولة الأمة، ومعاد تصديرها معدلة (أو مقوّمة) ل"الشعب"، بوصفه كتلة واحدة لها ثقافة واحدة، باعتبارها فنه الخاص". ولعل أكثر التجارب غرابة، ودلالة في نفس الوقت، والتي أدخلها الضباط هي "لجنة الزي والعادات والتقاليد" المتفرعة عن "إدارة التخطيط الاجتماعي" وكان من ضمن برامجها اختراع زي جديد للمصريين. توصلت اللجنة في أواخر 1955 إلي ما أسمته "نماذج للزي الذي سيعمم في القري والمدن المصرية" وكانت القضية قد أثيرت من قبل علي أساس أنها حيوية لتوحيد عقلية السكان: "يجب أن يوضع حد لهذه الفوضي في أزيائنا التي تعطي صورة مهزوزة عن طريقة تفكيرنا وعقليتنا". غير أن حكومة الضباط، كما يعقب الكاتب، كانت أضعف من أن تقطع شوطا بعيدا في المشروع. فبعد محاولات كثيرة انتهي الأمر إلي فرض زي موحد علي الفئات الخدمية الدنيا في الحكومة وآخرين ممن تملك الحكومة أرزاقهم، ليتحول من مشروع قومي إلي علامة طبقية. بدءاً من عام 59 بدأ عبد الناصر يشير إلي مطالبه من الصحافة. الصحافة التي يريدها هي الصحافة التي تعبر عن الثورة (أو بمعني آخر عن نظامه هو بالتحديد) : "الصحافة بتهمل العمل اللي الناس بيعملوه.. مهتمين جدا بإخواننا العاطلين بالوراثة... احنا النهاردة عايزين الراجل اللي شايل شوال والراجل اللي بني مصنع »أما ما ينشر في الصحف« شيء لا يمثل هذا المجتمع الاشتراكي الديمقراطي الاجتماعي التعاوني اللي احنا عايزين نبنيه". ويصل التحديد إلي ذروته في القول بأن: "اللي مش مؤمن بالمجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني... أنا مستعد أديله معاش ويروح يقعد في بيته، ولكن اللي بيشتغل لازم يكون مؤمن". بدأ العسكريون إذن يتدفقون علي مجالس إدارات الصحف وتم إبعاد الأخوين علي ومصطفي أمين عن الأخبار واختفلا جلال الحمامصي، ومع الوقت أحيل حوالي 120 صحفيا إلي مؤسسات اقتصادية مختلفة. ومن المفارقات أنه بعد إتمام التحكم في الصحف أصبحت الرقابة علي الصحف لا لزوم لها، فتم رفعها. كانت هذه الأيام هي ذروة الصعود بشعبية ناصر، بعد محاولة اغتياله في المنشية ثم إعلان تأميم قناة السويس والانتصار السياسي الذي تحقق أعقاب العدوان الثلاثي. بداية انكسار النظام الناصري حدثت كما يؤرخ لها يونس مع انتصار الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم في العراق. ومع بداية اضطهاد قاسم للعناصر الناصرية هناك. هكذا تكون أمام ناصر عدو له، ولكنه للمفارقة، عدو يتقاسم معه الادعاءات حول التقدمية والقومية العربية، ولا يعد نفسه منتميا إلي ما سمي وقتها الأنظمة الرجعية سواء في الأردن أو دول الخليج العربي. أما لحظة الانكسار الأكبر فهي مع الانفصال عن سوريا، والذي تم علي يد "ضباط البعث" الذين لا يمكن تصنيفهم بحال أيضا تحت مسمي "الرجعية" بمفاهيم الستينيات. الخطاب الذي يتحدث عن تلاعب السادات بالإسلاميين لتمكينهم من القضاء علي الناصريين واليساريين شائع، ولكن من غير الشائع الانتباه أن عبد الناصر مارس نفس اللعبة، حين بدأ التحريض بقوة ضد الشيوعية بعد اتضاح عداء عبد الكريم قاسم للنظام المصري، وتذمر ضباط البعث، فمحرر الأخبار السياسي مثلا يكتب: "الشيوعيون في سوريا يهاجمون القومية العربية... وينادون بالانفصال. وعملاء الاستعمار الأمريكي يدخلون إلي المعركة يؤدون نفس الأهداف... كيف تقبل أمريكا أن تلعب لعبة الشيوعيين... الجواب أن هدف الاستعمار الأمريكي هو تفتيت القومية العربية... والمحاولات التي يبذلها الشيوعيون لعزل جمهورية العراق عن البلاد العربية هو نفس ما كان يعمله نوري السعيد وما يعمله حلف بغداد... هم يرحبون بكل محاولة لتحطيم هذا السد العالي الذي يقف ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي". هكذا أصبحت الشيوعية مرادفة للإمبريالية الأمريكية، فكلاهما تطمحان للقضاء علي القومية العربية. وهذا الادعاء تم علي يد نظام صنف نفسه بأنه "اشتراكي ديمقراطي تعاوني". ما هي اشتراكية عبد الناصر؟ ظهرت من البداية صيغة "اشتراكية المصطبة".. اشتراكية توافقية لا تجعل الملاك أجراء وإنما تجعل الملاك أجراء. اشتراكية هدفها "التقريب بين الطبقات" وليس "صراع الطبقات"، "اشتراكيتنا العربية" التي لا تعادي الدين، وهو ما سمح لكثير من الكتاب الإسلاميين بتبني مصطلح الاشتراكية بوصفه مفهوما إسلامياً في الأساس، في نفس الوقت الذي حاول فيه كتاب شيوعيون مستقلون، مثل لطفي الخولي وغيرهم، توجيه انتقادات حذرة لهذه الاشتراكية. حدث هذا قبيل صياغة الميثاق، فقد كتب أحمد بهاء الدين مثلا رافضا لاشتراكية المصطبة: "إن الجهل هو أغلي ترف يمكن أن ينغمس فيه شعب! كلا!... إن الأكل حول طبلية واحدة ليس اشتراكية". عبد الناصر نفسه لم يدل بدلوه حتي العام 61 الذي شهد أكبر حركة تأميمات قام بها النظام. ظلت هذه هي أكبر حركة تأميمات ولكنها لم تحقق الحد الأدني مما يطمح إليه اليسار وأغلب ما طالته كانت رؤوس الأموال الخاصة بمتمصرين من ذوي الأصول الأجنبية، أي أخاص ليس لهم قاعدة اجتماعية قوية في مصر وبالتالي يسهل اصطيادهم. الثورة الدائمة هي مفهوم مهم في الكتاب، فطالما أن الشعب الخالد الذي يعتقد بوجوده الضباط، لم يظهر بعد، ومادام الشعب الواقعي مازال منقسما بقواه السياسية ومصالحه المتباينة هو الذي يظهر في المشهد السياسي، فلابد من أن يتم تجذير فكرة الانقلاب، ولابد أن تسود حالة الطوارئ الدائمة. رأينا في البداية كيف تم التلاعب بمفهوم الشعب وتغييره من وقت لآخر في أعين عبد الناصر، كما تم تغيير هيئة التحرير بالاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، ككيان سياسي يعبر عن جموع الشعب المصري المؤمن بالثورة، (في نص دستور 56 مكتوب أن جميع المصريين أعضاء بالاتحاد القومي). بدأ مفهوم الثورة الدائمة في التبلور بعد الانفصال عن سوريا ونهاية ما أسماها الكاتب المدينة الفاضلة: "كان الحل الذي طرحه النظام كما سنري هو بناء صيغة مغزاها العام هو الانقلاب الدائم، أو الثورة الدائمة، بمعني إجراء عمليات تطهيرم ستمرة إلي أجل ما، يُفترض بحلوله في مستقبل غير منظور أن يكون المجتمع قد نضج وارتقي إلي مستوي "اسم الشعب" الذي يمثله الضباط. ولكن عمليات التطهير المستمرة تعني تغيرا أساسيا، فتصبح عملية مؤسسية، دائمة، وتظهر علي السطح، لا في الكواليس فقط. كان هذا يعني استدعاء "أعداء الشعب" أو"الذئب" إلي المجال العام بشكل دائم". كان هذا ببساطة تفسير جملة عبد الناصر، المركزية في الكتاب: "كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب".