خرجتْ الكلمة من فم دكتور »إم« قبل أوانها، ودون قصد. ابتسم لتهاني الجالسة أمامه، تفصلهما صفحة ترابيزة، بقشرة فورومايكا، ملطوشة بأقواس رقيقة نظيفة من خرقة الجرسون المُندَّاة بماءٍ وشمَّة ديتول، وابتسمتْ هي أيضاً، ثم تركتْ سياق حديثها، وقفزتْ قليلاً إلي الأمام للتعليق علي كلمته. اعتذر دكتور إم بأن رفع يده في الهواء، وتابع بعلبة السجائر مسار أحد أقواس النظافة المُحتضرة علي صفحة الترابيزة. عادتْ تهاني إلي سياق حديثها، وهي تفكِّر أن كلمة الدكتور إم ما كان لها هذا الانفلات الحيوي لو لا طبيعة المكان، وحبه لعادات المطعم، وحزَّرتْ أن شُبْهَة الديتول الخفيفة الهاربة في أنفه كانت حاسمة في انفلات الكلمة. أدرك دكتور إم من تعليق تهاني العابر علي كلمته، أنها تلومه بشكل ضمني، وكأنها تقول له: لماذا الآن. فشلتْ تهاني في العودة إلي سياق حديثها، وظهر في الحال زيف قفزة التعليق الرشيقة إلي الأمام. ردد دكتور إم آخر كلمة في سياق حديثها كي تمسك الخيط من جديد. دام الصمت بينهما لحظات. صعد وهج بحمرة إلي وجه تهاني، حُمرة غضب. عبثتْ في حقيبتها، وأخرجتْ بعصبية كتاباً، ووضعته أمام دكتور إم. قالتْ فيما يُشبه التقرير: هناك في صفحة 37 دائرة بخط أزرق علي الكلمة. فتح دكتور إم الكتاب بلهفة، فوقعتْ عيناه سريعاً علي الدائرة الزرقاء في أعلي الصفحة. كانت الكلمة مُحدَّدة بدائرة خطر، وكأنها خطر علي كلمات الكتاب الأخري، ومع أنها مُكررة كثيراً داخل الكتاب، إلا أن الدائرة الزرقاء فقط حول وجودها الأول في صفحة 37 من مجموع عدد صفحات الكتاب التي تبلغ 577، وطوال صفحات الكتاب، وما بعد الصفحة 37، هناك إسراف في استخدام الكلمة، وكأن إنذار الدائرة الزرقاء لم يكن إعلاناً للحظر والحَجْر اللغوي، بل هو بداية إفراط لا تحكمه غاية. جاءت تهاني التي تعمل موظفة في مكتبة حلوان العامة، بالكتاب إلي خطيبها من أجل مُقارَنَة يجريها علي نسخة حديثة الطبع يملكها منذ سنتين، ومن إحدي المُقَارَنَات مثلاً، أن بنط الحروف في النسخة التي يملكها دكتور إم، أصغر من بنط الحروف في نسخة المكتبة، ولهذا تراجعتْ الكلمة في نسخته عند أول وجود لها في أسفل صفحة 22. أخرج دكتور إم من جراب كرتوني مُلصق في باطن مُجلد الكتاب، إستمارة الاستعارة، وهي تحوي تواريخ الاستعارة من سنة 1980 إلي 2000، وعدد المرات التي خرج فيها الكتاب لمدة أسبوعين، وهي المدة المسموح بها للاستعارة، عشر مرات، وهو خروج قليل قياساً بمدة عشرين سنة، ولاحظ دكتور إم أن اسم المستعير سعد الدين عمران له وحده تسعة خروجات من الخروجات العشرة للكتاب، وهي تتراوح بتفاوت حاد علي مدار العشرين سنة، إذ أن هناك ستة خروجات للكتاب في شهور أربعة من سنة 1981، بفاصل خمسة أيام كحدٍ أدني تقره المكتبة لتكرار الاستعارة، مع اعتبار الزيادة أو النقصان بيوم أو يومين في ثلاثين يوما معياريا للشهر، وهي تشوهات استثنائية قبيحة تُعكِّر عند الاصطدام بها ذهن دكتور إم. أما الخروجات الثلاثة الباقية، فواحدة سنة 1986، وثانية سنة 1990، وأخيرة سنة 1999. وكان المستعير الآخر، صاحب الخروج العاشر للكتاب سنة 1995 هو عماد الضمراني. طلبتْ تهاني بيتزا ميديم بالمشروم وكوكا دايت، بينما طلب دكتور إم بيتزا مارجريتا لارج وبيبسي. قالت تهاني بسادية وانتقام: علي فكرة الكتاب موجود في المكتبة من سنة 1962، وظل كمرجع خارج قانون الاستعارة إلي سنة 1975، إلي أن دخل في قائمة الكتب القابلة للاستعارة بعد طباعته وتوفره في دور نشر كبيرة سنة 1972 و1973 و1974، وما يهمك أكثر أن أرشيف المكتبة به بطاقتان مليئتان بتواريخ استعارة من سنة 1975 إلي سنة 1980، وبه أيضاً بطاقات لا حصر لها لتوقيع روَّاد غرفة المَرَاجِع، وهي الوحيدة في المكتبة التي يُقيَّد فيها القارئ بتسجيل اسم الكتاب الذي يقرأه، بمعنًي آخر هناك ثلاث عشرة سنة عذراء، تنتظر بحثكَ. علي الفور شعر دكتور إم بسهم حيرة يخترق عقله، وسأل نفسه بإحباط عن سن سعد الدين عمران وعماد الضمراني. رمية من غير رام حدث ويحدث، أنني قطعتُ، وما زلتُ أقطع، في التسلية أشواطاً بعيدة، بإخلاص واصفرار وذهول، كما لو كنتُ في معركة مُباشِرة مع الوقت، ليس لأنه ثمين، ولا يُعوَّض، بل فقط لمجرد وجوده، وإحساسي الطاغي بثقله، إنها معركة تستهدف قتله، وعلي الرغم من أن المعارك تسمح بجميع الأسلحة، الشرعي منها وغير الشرعي، إلا أن حالتي تبقي فيها التسلية دون تنوِّع، دون انحراف، تسلية تقليدية عادية، يمنعني الحياء عن ذكر فصولها الرتيبة، وإذا كان هناك فخر ما، فليس سوي الثبات المُتَخشِّب الهش المعرَّض لانكسار مُهين دون أسباب واضحة، أمام الأيام والساعات والدقائق، ومع أنه يُحْسَب في النهاية ثباتاً، إلا أنه لا يستدعي الفخر، كما أن العمل في مجال الأدب لا يستدعي الفخر. قلتها أخيراً: أعمل في مجال الأدب. وكانت الأسباب التي جعلتْ أبناء مهنتي يرضون عن مهنتهم، وعن أنفسهم، هي نفسها الأسباب التي جعلتني في نفور من مهنتي أولاً، ومن نفسي ثانياً، ومنهم ثالثاً، وعلي هذا تركتُ لهم جيفة الأعمال الروائية المُطابِقة للمواصفات، وحفلات التوقيع، واصطياد ما هو اجتماعي أو سياسي أو تاريخي، ونجاحات البيست سيللر، وبؤس توجههم لكتلة دهماء لها اليد الطولي في تشكيل الذوق الفني، وفي وضع الكاتب علي خازوق الشهرة. إذا كانت الكتابة لديهم تستدعي الاستراتيجيات، فقد جعلتها لدي تستدعي حروب العصابات، لا للأعمال المُتوازنة التي تتجاوز المئتي صفحة، لا للبطاقات الدرامية الخاصة بالشخصيات، لا للبحوث التاريخية، والتأريخات المكانية، فقط حروب الحرف والجملة والكلمة والأسلوب، حروب عدم الاكتمال والنقصان، نحو أدب قاصر، أدب الفقرات والشذرات، وليستْ هذه استراتيجية مُضادة، بل إنني بريء منها بعد قولها، مُتنصِّل من الدفاع عنها، هي حجر يحلو لي رميه بوتري نِبْلة من عروق جلد الجلوكوز الطبي الملوَّث برائحة الموت وراء مستشفي المستعصية في سبعينيات القرن الماضي، نِبْلة خراطيم، طول الوترين عشرة سنتيمترات، وهي تشتد عند التصويب بطول ذراع، تشتد من سبعينيات طفولتي في القرن الماضي إلي الآن، رمية علي نوافذ الأدب المُضاءة في بهمة الليل، نوافذ الأدب الكبير، الأدب الصالح، أدب المنتخبات المُختَصَرة لطلبة المرحلة الثانوية، شكسبير، نجيب محفوظ، عائلة برونتي، والحجر أعمي، ونظرة أصحاب النوافذ، مين اللي حدف الطوبة، ديلي في أسناني علي قارعة الطريق، علي طول الطريق، حافي القدمين، حافي القدمين في حقل أحلام. عند نقطة مرور، تحقيق، إنت اللي حدفت الطوبة، ربما هي رمية من غير رام. قلت: اتركوا لي الجيفة، شرط أن تتركوها جميعاً، فأنا لدي شهية ضبع مُشرَّد لا يحب الشَرَاكة، واحملوا نيابة عني صليب الأفانجارد والإندبندت. أخلاق الفن في الفيلموجرافيا الخاصة بالمخرج سيرجي ليوني يُنسب فيلم اسمي لا أحد إلي قائمة أعمال سيرجو ليوني، وفي الفيلموجرافيا الخاصة بالمخرج تونينو فاليري يُنسب نفس الفيلم اسمي لا أحد إلي قائمة أعمال تونينو فاليري. لكنني عندما أقرأ بشكل أكثر تفصيلاً في أدبيات تُمثِّل الأرشيف الموضوعي لفيلم اسمي لا أحد، أجدُ أن الفيلم يُنسب للمخرج سيرجو ليوني وللمخرج تونينو فاليري علي حد سواء، مع توضيح صغير مُقتضب يحمل بشكل سطحي اضطراباً وارتباكاً، ويحمل بشكل عميق روحاً أرثوذوكسية لمحكمة تاريخ فنيَّة، أن الفيلم لا يُحْسَب للمخرج سيرجو ليوني، وبما أن الفيلم في نوعه، وهو الويسترن الاسباجيتي، علامة فارقة، من وجهة نظري، وهذا الحكم الجمالي لم تقره المحكمة، إذ بمجرد شُبْهَة تيترات الفيلم التي تقول بأن تونينو فاليري هو مخرج الفيلم، وسيرجو ليوني مجرد مساعد في الفيلم وصاحب الفكرة، مع أن الفيلم يحمل بشكل صارخ بصمة سيرجو ليوني الأسلوبية، توقَّفتْ المحكمة علي الفور عن إعطاء أية أحكام جمالية، وكأنه عقاب للمخرج الكبير الذي تجاوز أخلاقيات الفن التي لا سبيل لها سوي الرجعيَّة. إن أرثوذوكسية الفن الأخلاقية أدانتْ سيرجو ليوني قبل تونينو فاليري، طالما أن محكمة التاريخ الفني سبق لها وأسقطتْ بسهولة ويسر أفلام تونينو فاليري بالغة السوء التي تردَّت أحياناً إلي أفلام البورنوجرافيك. ربما كان سيرجو ليوني المخرج والفنان الكبير يحمل للمخرج تونينو فاليري الساقط من غربال الفن، مشاعر شخصية تتعدّي حدود الفن السينمائي، ربما كان يحمل له ما يحمله جيمس وودز لصديقه روبرت دينيرو في فيلم سيرجو ليوني الأخير حدث مرة في أمريكا، صداقة يجري من تحتها نهر من الحب المثلي المُعذِّب المكتوم. أثناء تصوير فيلم اسمي لا أحد في بداية السبعينيات من القرن الماضي يطلب بطل الفيلم ترانس هيل توجيهاً إخراجياً من سيرجو ليوني، علي الرغم من وجود تونينو فاليري كمخرج شرعي للفيلم، وكل مَنْ يعرف أخلاقيات الفن السينمائي يعرف أن طلب الممثل ترانس هيل يُعدَّ فضيحة مهنيَّة للمخرج تونينو فاليري. في بلاط المحكمة الأرثوذوكسية تتردد علي ألسنة الصغار غير المتضلعين في صرامة الأحكام الرجعيَّة، مماحكات جمالية من نوع، الفضل يرجع لسيرجو ليوني في إخراج افتتاحية الفيلم، وفي مَشَاهِد المعارك بين هنري فوندا وبين عصابة المئة والخمسين، تقطيع جسم الفيلم وتفضيل مَشَاهِد علي أخري، بدلاً من شجاعة وجرأة الاعتراف بوحدة الفيلم الجمالية كما هي موجودة بالفعل، من وجهة نظري، تشد قوالب فيلم اسمي لا أحد بعضها إلي البعض الآخر كالبنيان المرصوص، أو الصمت الأخلاقي أمام الفيلم كما فعل أرباب المحكمة الأرثوذوكسية. كان فيلم اسمي لا أحد تتويجاً نهايئاً لنوع أفلام الويسترن الاسباجيتي، كان قتلاً جمالياً للنوع كله، وكما قتلتْ رواية سيرفانتس دون كيخوته نوعاً من روايات الفروسية السابقة عليها، وبحجة السخرية منها أخرج لنا سيرفانتس فارسه الجوَّال الحزين الطلعة دون كيخوته بكل كوميدياته الرفيعة، وعاش في ذاكرة المحكمة الأخلاقية، الجمالية هذه المرة بسبب نزاهة نسبة دون كيخوته إلي سيرفانتس أولاً وقبل أي شيء، بعد أن سحب دماء روايات الفروسية، ليتركها جثثاً هامدة. كذلك فعل سيرجو ليوني عندما خلَّص أفلام الويسترن الاسباجيتي، باستثناء أفلامه هو، من السخافات الإخراجية والسيناريوهات الهزيلة، وأكسب بطلها الشهير ترانس هيل هالة لا تُنسي، ووقف أخيراً علي قبرها. كان لأعمدة محكمة الفن أن تهتز كما تمنيتُ لو أنني في بحثي الجنوني ومسحي الكامل لأفلام تونينو فاليري السابقة علي فيلم اسمي لا أحد واللاحقة عليه، وجدتُ له فيلماً واحداً يستحق المُشَاهَدة الكاملة إلي نهاية الفيلم، ولأنني أنتسبُ علي مضض إلي ربوبية المحكمة الرجعيَّة، ومن أحد بروتوكولاتها العريقة، معرفة أن هناك مُخْرِجاً سينمائياً ينكشف زيفه من الدقائق الخمس الأولي، وهناك آخر يصمد في زمن الفيلم عشر دقائق، وهناك مَنْ يصمد نصف ساعة، وهناك مَنْ يصمد إلي قبل نهاية الفيلم بقليل، وقليلين جداً يصمدون من بداية الفيلم إلي نهايته. مع تونينو فاليري في أفلامه السابقة واللاحقة لفيلم اسمي لا أحد، كان لا يتعدَّي الدقائق الخمس الأولي، وهي كفيلة لإحساسي بالمرارة، ويأتي بعدها الحكم وخيبة الأمل. ضربات النجاة لأنني غير راض عن حياتي، ولأنها حياة دُفِعتُ لها دفعاً، ولأن مَنْ دفعوني إليها كانوا يضمرون لي حسن النوايا علي طريقة خضْ في الماء أولاً ثم تعلَّم ثانياً عبر ضربات النجاة فن السباحة، فن العيش. وحدث بشكل في غاية الإحراج أن ضربات النجاة بعد سنوات طويلة ما زالتْ ضربات نجاة، نعم لم تصل بي إلي كارثة الغرق التام، لكنها تركتني في عار الحد الأدني من الوجود. وحدث أنني أُبْتُليت بمهنة تتطلب كثيراً من الرضا عن النفس، أو بمعني آخر، لو كانت لكل مهنة عصابها الخاص، فإن مهنتي تتطلب من الآخرين سجوداً دائماً، وتتطلب مني نفوراً وتعالياً أمام سجودهم، وتصريحاً دائماً بأن لا فائدة، لتتفرَّع اللا فائدة في الحال إلي فرعين، فرع ينال من سجودهم في حد ذاته، وفرع ينال من استحقاقي لهذا السجود. وحدث أنني بقيتُ في مُحاوَلَة الحياة كارهاً لمجموع أُطْلِق عليه اسم البشرية، وأصبحتُ بتأثير المرارة صائد خيبات وآلام، لي وللآخرين علي حد سواء. وكانت السعادة التي يحصدها الآخرون من نزهات عادية ومن حفظ النوع ومن أنفاس كتلة القطيع الباعثة لدفء جبان، بعيدة عن نفسي، ليس لاستحالتها أو لرغبتي فيها، بل لأنها سعادة تتم باتفاق وتقليد. تعبتْ اليدان من ضربات النجاة، والماء القريب من أفق العينين يقف قلقاً علي باب الفم. لو كانت إرادتي في وقف نشاط الذراعين تتوافق مع فعل التنفس اللا إرادي، لسقطتُ سعيداً إلي القاع، لكنّ الجسم لا يعترف بذل نشاطه. نهاية يُفكِّر أن عليه الانطلاق من شيء يعرفه إلي شيء لا يعرفه، لكنه يلاحظ أن انطلاقاته العديدة التي هي بعدد رمل شاطئ صغير، كانت تتوقَّف بعد البداية بقليل، وبهذا كان يقف غريباً، قريباً من شيء يعرفه، بعيداً عن شيء لا يعرفه، ومع تكرار المُحَاوَلات، أدرك أن الوصول وليس الانتقال من شيء يعرفه إلي شيء لا يعرفه إلي شيء لا يعرفه من شيء يعرفه، يساوي غربة المسافة،