شهور قليلة قضاها في سجون الملك، وسبع سنوات في سجوان عبد الناصر، وأربع في سجون السادات، وعدة شهور في سجون مبارك .. هي الأقل ولكنها الأبشع من وجهة نظره: كان تعذيبا منظما .. قاسيا أكثر مما يتصور المرء، حاجة حقيرة لا يوجد فيها أي احترام أننا بني آدمين . إنه الناقد إبراهيم فتحي صاحب العديد من الدراسات المهمة عن الثقافة العربية ، الذي لم يغب عن مصر ، او لم تغب عنه رغم إقامته في لندن منذ أكثر من سبع سنوات ، إقامة لأسباب صحية حيث أجري عملية جراحية دقيقة في القلب نتجت عن فيروس، وينتظر أن يخبره الأطباء ان الفيروس ليس بإمكانه العودة مرة أخري ، عندها سيعود. تابع إبراهيم فتحي تفاصيل الثورة المصرية من لندن، توقفت حياته امام شاشات التلفزيون ، لم يكن يستطيع ان يفعل شيئا باستثناء متابعة الثورة والاتصال بالأصدقاء لمعرفة تفاصيل لا تنقلها الشاشات او الجرائد هناك. عندما تنحي مبارك اعتبر أن هذا أول الغيث ، لم يبك أو يتذكر حتي تفاصيل اعتقاله في سجون مبارك القاسية ، كانت في عام 1989 بسجن ابي زعبل في صحبة الراحل محمد السيد سعيد بعد تأييدهما لاعتصام عمال الحديد والصلب وتم اعتبار انهما المحرضان علي الاعتصام ... ولكن رغم ذلك يتمني فتحي أن يتعرض مبارك لقضاء منصف ، بل يكره له الاعدام ..فهو ضد أن يتعرض أي فرد للإعدام! ثمة غموض حاليا حسبما يري فتحي ، ولكن مع ذلك ثمةز تفاؤل أيضا ..الهبة الشعبية تمشي في مسارها الطبيعي كما يري وسيكون لدينا برلمان وحكومة ورئيس منتخب .. ويري ايضا ان الحديث عن تخوفات من سيطرة الاسلاميين علي البرلمان لا محل لها من الاعراب : ثمة مبالغة شديدة في قوتهم ، ليس لهم شعبية كما يتوقع البعض، وليس لديهم تاريخ انتخابي علي الاطلاق ، وعندما ننظر الي ما جري في انتخابات اتحادات الطلبة والاساتذة نكتشف ذلك بسهولة .. أسأله : ولكن انتخابات الطلبة ليست معيارا؟. يجيب: وعي الشعب السياسي ارتفع جدا ، وقد يكون هذا هو الانجاز الاهم للثورة ، كل الناس الآن تتحدث في السياسة ولها مطالب وتصر علي تنفيذ مطالبها، هذا الوعي سيحجم من قوة الاخوان او السلفيين، كما أن الديمقراطية تصلح اخطاءها بديمقراطية اكثر وهذا هو الاهم. ولكن ما اكثر ما يخشاه إبراهيم فتحي؟ يجيب علي الفور: كدابين الزفة. يوضح: نسبة كبيرة ممن خدموا نظام مبارك، يتحدثون الآن باعتبارهم ثوريين ، كمية الادعاءات وخاصة في مجال الصحافة والإعلام كبيرة جدا ، هذا اكثر شئ يخوفني ، ولكن ادراكي أن وعي الشعب في ازدياد يشعرني بالراحة، وكذلك الحركة الشعبية التي تزداد يوما بعد يوم. ولكن هل توقع إبراهيم فتحي ما جري مصر؟ يجيب: لم يكن متوقعا، ولكن كان هناك إحساس عام بأن الوضع القائم لا يمكن استمراره، فالأفلام والروايات والأشعار والأغاني مملوءة بموضوعات الرفض والعصيان التي كانت منتشرة في كل مكان من مخيلة الشعب. أسأله ولكن بعض التيارات السياسية ممن أربكها الحدث، هذه التيارات لا تريد أن تسمي ما جري في مصر أنه ثورة، البعض يراها خطوة ثورية مثلا ..ماذا تسمي ما جري؟ يجيب: كنت أترجم مقالا ليري أندرسون، هو يسميها revolt أترجمها هبّة. أنا أترجمها حلقة ثورية ..والثورة حلقات مستمرة، ما حدث حلقة مهمة تسير في الاتجاه الثوري ، هي حلقة ثورية واحدثت مدا ثوريا عند الشعب وفي الوقت نفسه هناك استمرار في المطالب. وما الذي تنقصه الثورة من وجهة نظرك؟ أجاب: منذ البداية قياداتها ليست في السلطة، والقيادة منقسمة ولا توجد قيادة موحدة هي التي تتحرك، بل في مجاميع مختلفة ، ولكن رغم ذلك هناك تأثير في المجلس العسكري ومجلس الوزراء ويقدم مطالب بضغط ويأخد مكاسب كثيرة. 2 بعد تنحي مبارك ، عندما كان يتحرك إبراهيم فتحي في لندن في أي تجمع عام، ويعرفون أنه مصري يقوم الجمهور بالتصفيق المتواصل ، لسلمية الثورة ورقيها وهذا أحد الأسباب الأخري للتفاؤل. فتحي يري أن المثقفين كان دورهم محوريا في الثورة، ولذا كان أهم مطلب بارز هو الديمقراطية ، بينما جاءت العدالة الاجتماعية في المرتبة الثانية ، وقدموه علي استحياء ، ولكن الديمقراطية هي الجوهر والأساس وبالتالي ما جري حتي تنحي مبارك اسميه حلقة ديمقراطية من أجل الديمقراطية ..بقية الحلقات ستأتي واحدة تلو الأخري. أسأله: هل تعتقد أن المثقفين ينبغي أن يكون لهم دور مختلف بعد يناير؟ دائما كان لهم دور، وأظن أن الذي ضغط علي الزناد من أجل هذه الثورة هم المثقفون. هذه الثورة في بداياتها ثورة مثقفين، ثم التحق بها طبقات الشعب المختلفة. اسأله: ولكن البعض يري أن المثقفين دخلوا حظيرة نظام مبارك وفقدوا تأثيرهم؟ يجيب بحسم: كان هناك محاولة لادخالهم الحظيرة، لكنها لم تنجح ، بل سخروا من الحظيرة وممن دخلوها. يضحك فتحي: المثقفون الذين دخلوا الحظيرة هم كدابين الزفة حاليا ، يدعون لأنفسهم اشياء كثيرة لم تحدث ويتعاملون وكأنهم ثوريون ، وهم الخطر الحقيقي علي الثورة. أساله: هل ستغير الثورة الأدب؟ يجيب: الأدب يغيره الأدباء أنفسهم ، الثورات أو ما يشابهها هي ظروف خارجية ، يمكن أن يأخذ الأدباء منها موقفا أو لا. ولكن اسوأ شيء أن تتحول الثورة إلي إكليشية ، الناس تتحدث عنه طول النهار ، الزعيق هو الشيء الخطير علي الأدب والفن، تحول الفن إلي شعارات يقتل الأدب. اسأله: ولكن هل تصنع الثورة جيلا مختلفا بسمات مختلفة عما سبقه، كما احدثت هزيمة 67 جيل الستينيات، وحرب الخليج صنعت جيل التسعينيات؟ يجيب: من الممكن أن يحدث ذلك، بل الثورة في طريقها لذلك، ولكن أهم ما صنعته الثورة هو تسييس المجتمع، أو اهتمام كل الأفراد بالسياسة ، الوعي السياسي ارتفع لدي الجميع حتي ممن ليسوا شبابا ، الجميع تحولوا الي سياسيين لدرجة أن هناك خطر المبالغة في التسييس. في الزفة التي نحياها ومحاولة اخفاء الوجه الحقيقي لمن خدموا النظام السابق بقيت كلمة الثورة مبتذلة ، بل ان هناك أوصياء علي الثورة ، بينما هم لم يشاركوا فيها, المبالغة في التسييس تضر بالأدب، وتحوله الي مجرد شعارات فارغة. وكل البلاد التي جعلت الأدب تابعا لحزب سياسي لم يكن بها أدب، لكن الأدب له شروط لجودته من أهمها ألا يكون تابعا لحزب. وهو ما حدث في روسيا التي حولت الأدب إلي خدمة الحزب. أسأله: وحدث ذلك أيضا في مصر ، عندما تم الاحتفاء بتيار الواقعية الاشتراكية؟ يجيب: الاحتضان الرسمي خنق الواقعية ، ولم يكن هناك لا واقعية ولا اشتراكية ، الفن الحقيقي في ذلك الوقت كان ممثلوه يوسف إدريس وفتحي غانم والفريد فرج ولم يكونوا هتيفة ، أو بتوع شعارات كانوا فنانين في المقام الأول. حتي محمود أمين العالم الذي كتب لماذا يحزن صلاح عبد الصبور ، كان خطأ منه، ولكن عندما تقرأ كتابه 40 عاما من النقد التطبيقي ستجده يتحدث دائما عن الجانب الشكلي . لينين وماركس كلاهما اعتبر ان جوركي فنانا حقيقيا لأنه بالأساس ليس سياسيا، ولو عاد ماركس ولينين الي الحياة واطلعا علي ما كتبه نقادنا عن الواقعية الاشتراكية لبصقوا علي هذه الكتابات. يضيف فتحي: ز عند أساتذة الماركسية لا يوجد ما يسمي الأدب الحزبي، كان يسخرون من الأدباء الذين يقرأون الجريدة في الصباح، ويحولون ما قرأوا إلي شعر وقصة في المساء. وما قاله لينين عن الأدب الحزبي كان موجها الي ز رجالة الحزب لا إلي الأدباء. أسأله: هل تري أن النقاد الماركسيين اساءوا فهم الماركسية للأدب؟ يجيب: الفن لا ينبغي أن يكون في خدمة أي شيء آخر، عندما يقول النقاد الدينيون أن الأدب في خدمة الكنيسة، فهذا مضر بالأدب ، ويخرج الفن من استقلاليته، ووظيفته، لا يقول الماركسيون أن الفن للفن او الفن للمجتمع، وإنما يريدون تطوير طاقات الإنسان الحسية والانفعالية والفكرية ، وتطوير الطاقات هو الشئ الوحيد الذي تطالب به الماركسية! يوضح فتحي: طوال حياتي كنت معاديا للستالينية وقد كتبت عن ذلك كثيرا، وقدمت للمحاكمة باعتباري مناوئا للاتحاد السوفياتي. وقد كتبت للبرنامج الثاني الثفافي بمصر دراسة طويلة عن الادب السوفياتي وخنق البيروقراطية الحاكمة له. وفي رأيي ان الماركسية السوفياتية كانت ايديولوجيا ليست لها علاقة بالماركسية الا علاقة التشويه العقائدية الزائفة وكان وجوده يجعل الطبقات العاملة في اوروبا ترفض الاشتراكية عموما، ان القول ان الاتحاد السوفياتي كان تجسيدا للماركسية هو افتراء علي الحقيقة والماركسية. يضحك فتحي: عندما كنت في السجن أيام عبد الناصر لم أكن ألعب الشطرنج مثلما كان يفعل بقية الزملاء، لأنني اكتشفت أن لينين كان لاعبا للشطرنج، وكان زملائنا يقلدونه، ولذا رفضت اللعب..كنت ضيفا دائما علي مكتبة السجن ، فقط اقرأ ، وألعب تمارين رياضية، وخرجت من السجن صحتي أفضل مما دخلته .. يضيف: لكن أكثر ما يؤلمني في سجن عبد الناصر أننا لم نكن معارضين له، كنا دائما نقول البطل عبدالناصر .. وهذا أكثر ما آلمني! متي سيعود فتحي؟ قريبا ، انا موجود في لندن لأسباب صحية، تصور لقد نسيت علاجي هذه المرة واضطررت أن اشتريه من هنا، كلفني ما يوازي دخل ثلاثة شهور في لندن هناك أحصل علي العلاج مجانا والرعاية الصحية أفضل ما تكون ..وانتظر أن يخبرني الأطباء أن الفيروس ليس بامكانه العودة مرة أخري وعندها سأعود..مشاركا في بناء مصر الجديدة بما استطيع!