في حديث مسجل بالصوت والصورة قدم لي الباحث في الموسيقا الشرقية المصرية الدكتور فريدريك لاجرانچ أسباب عدم حماسته لموسيقا الشيخ سيد درويش واعتباره أحد من حولوا الموسيقي الشرقية المصرية لنهج سهل تغريبي وسار علي نهجه تلميذه النجيب محمد عبد الوهاب مما افقد الموسيقا المصرية خصوصيتها الشرقية وألقاها فريسة سهلة في أحضان التغريب وأردف لاجرانچ أن الموسيقا في ذلك العصر كانت تسير علي نهج حداثي يحافظ علي هويتها ويطورها ويأتي علي رأس المبدعين المطورين الموسيقار داوود حسني, ولما كان سيد درويش بالنسبة للكثيرين هو فنان الشعب الأول فحاولت مقاومة ذلك الطرح باعتبار أن الكثير من الباحثين الغربيين يروجون لذلك بسبب يهودية داود حسني والتي اعتبر لاجرانچ هذا القول مزيفا لأن الحان داود أكثر مصرية وشرقية وعمقا من سيد درويش بل افضي بخبر ان داود قد يكون تحول لإعتناق الدين الاسلامي سرا قبل وفاته عام 1937. وسواء كان داود حسني مسلما أم يهوديا فالمؤكد أن إبداعه الموسيقي الفذ يضعه في مصاف عبقريات الابداع المصري الخالص وحتي غخلاصه في اكتشاف وتعهد وتدريب العديد ممن اشتغلوا بالغناء في مصر مثل ليلي مراد وأسمهان وعلية فوزي ومحمد عبد المطلب مايدل علي تفرده وعلي مصريته الخالصة. في أحد لقاءات جمعية محبي موسيقي سيد درويش جاءنا خبر وفاة المؤرخ الموسيقي الدؤوب عبد القادر صبري وأحد أهم جامعي التراث الموسيقي المصري , اتصلت بأرملته لأداء واجب العزاء وعندما التقيتها في منزلها بحدائق القبة كانت الصالة مليئة بأكوام الإسطوانات وشرائط الكاسيت وشرائط الربع بوصة وقليل جدا من الكتب والمجلات وعرضت أرملة المرحوم علي شراء ما ينقصني من التسجيلات التي أفني الرجل عمره في جمعها وبعد انتقاء ما أحتاجه سالتها عن قوائم كتبها المرحوم لمحتويات الشرائط وذلك لمعرفتي السابقة بدقته وتوثيقه لكل تسجيلاته وخاصة أنني عثرت علي ثلاثة شرائط مكتوب عليها ألحان لمطربين مجهولين. أحضرت السيدة عددا قليلا من أوراق المرحوم لا تشفي الغليل ولكن كان من بينها كشكولان لونهما أخضر وتطل من أحدهما قصاصة ورقية من إحدي المجلات القديمة للمطربة الممثلة سعاد زكي , كان همي الأول الاحتفاظ بالصورة التي أهدتنيها السيدة مجانا ولما كانت الشرائط كثيرة فضلت السيدة أن اعيد الصورة الي الكشكول حتي لا تتمزق واثناء ذلك قرأت بخط اخضر فوق الكشكول داوود حسني. تصفحت الكشكول فكانت مقدمة من الأستاذ عبد القادر صبري يحكي فيه تعارفه علي إبني داوود حسني ابراهيم وكمال وأن في هذه الأوراق مذكرات الأستاذ داود التي كتبها عنه ابنه ابراهيم. أخبرت السيدة بمحتوي الكشكولين الذين اكتشفت عند عودتي أن أحدهما نسخة مكررة من الآخر تم الاتفاق بيننا وعدت بالكنز الثمين . الكشكول ثمانون صفحة من القطع المتوسط تم تدوين المذكرات فيها علي 74 صفحة بخط القلم الجاف الأزرق. يغلب علي أسلوب كاتب المذكرات استخدام الكثير من الجمل الكليشيهية المعتادة ومحاولة اضفاء روح من البلاغة المدرسية علي المذكرات , كذلك تدخل الكاتب الذي من المفروض أن ينقل ما يروي له حرفيا من صاحب المذكرات ولكن نزوعه لإثبات شخصيته ككاتب حول المذكرات الي الحديث عن داوود وكأنه اصبح بطلا يكتب عنه ابراهيم داود حسني الا في مواطن مختلفة كان الحديث بصوت داوود حسني نفسه . أهمية المذكرات تكمن في أنها تبرز اعتزاز داوود حسني ومن ثم ابراهيم بالإنتماء لمصر وللعروبة ويتضح ذلك بقوة في أماكن عديدة وكذلك اعتزاز داود حسني بعمله الفني كموسيقي وحبه الشديد لزوجته الأولي التي ماتت في عمر الثلاثين بعد انجاب أربعة أولاد . كما تقدم المذكرات حالة الود والصداقة مع الشيخ سيد درويش بالرغم من التنافس العملي بينهما وكذلك الصداقة مع الشاعر احمد رامي وعازف الكمان سامي الشوا وجميل عويس ومحمد القصبجي وأم كلثوم والإقتصادي المصري الفذ طلعت حرب والزعيم سعد زغلول والشيخ محمد عبده . لا تخلو المذكرات من معاصرة داود حسني لثورة 1919 واشتراكه في المظاهرات ولقاءاته المتعددة برجالات الثورة بل ويحكي في بعضها معاصرته لثورة عرابي ولقائه بالعديد من رجالها الثوار ومنهم الوزير الشاعر محمود سامي البارودي. مذكرات داوود حسني أوراق مصرية خالصة في عصر كان الإعتزاز فيه بالانتماء لمصر يعلو فوق أي انتماءات دينية أو حزبية او مذهبية . ولد الموسيقار داوود حسني في القاهرة قي 26 فبراير سنة 1870 من عائلة مصرية ومن طائفة اليهود القرائين واسمه في شهادة الميلاد (دافيد حاييم ليفي) وعاش في حي الصناديقية الشعبي القريب من حي اليهود القرائين في قسم الجمالية و توفي في العاشر من ديسمبر سنة 1937 ودفن في مقبرة اليهود القرائين بالبساتين.