مصادر بالمركزي: انتظام خدمة إنستاباي بعد إصلاح عطل بسيط في السيستم    غارة إسرائيلية جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت    خرجت عن السيطرة، وسائل إعلام أمريكية تكشف المستور بين الولايات المتحدة وإسرائيل    بالأدلة، وكيل القندوسي يدافع عن تصريحات اللاعب ضد الأهلي    مدير سيراميكا عن – مفاوضات الزمالك مع أحمد رمضان.. وتفضيل عرض بيراميدز على الأبيض ل أوجولا    "شكوى ستؤدي لإيقاف القيد".. مصدر يكشف ليلا كورة خطوة جديدة من أشيمبونج ضد الزمالك    وفاة جورج قرداحي في القصف الإسرائيلي على لبنان.. ما حقيقة الأمر؟    صحة المنوفية: تنظم 8365 ندوة على مستوى المحافظة لعدد 69043 مستفيد    الكشف ب 300 جنيه، القبض على طبيبة تدير عيادة جلدية داخل صيدلية في سوهاج    أعراض الالتهاب الرئوي لدى الأطفال والبالغين وأسبابه    لبنان.. غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية بعد إنذار لإخلاء مبان في برج البراجنة    قصف إسرائيلي على غزة يسفر عن استشهاد 6 فلسطينيين وإصابة آخرين    آخر تطورات الوضع في لبنان.. استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية وتجمعات جنود الاحتلال    الكويت.. السلطات تعتقل أحد أفراد الأسرة الحاكمة    ندى أمين: هدفنا في قمة المستقبل تسليط الضوء على دور الشباب    تراجع أسعار الذهب في محلات الصاغة بنهاية تعاملات الجمعة.. هل يواصل الانخفاض؟    ميدو: تصريحات القندوسي غير منضبطة وتحرك الأهلي «هايل»    ميدو: عدم الاستعانة ب سام مرسي في المنتخب أمر غير منطقي    ميدو يفجر مفاجأة بشأن مفاوضات الزمالك مع ماييلي    اندلاع حريق داخل مصنع بالمرج    فيسبوك ينفي شائعة "من زار بروفايلك" ويعلن عن تحديثات جديدة    حبس تشكيل عصابي متخصص في سرقة أسلاك الكهرباء واللوحات المعدنيه بالأأقصر    إجراء تحليل مخدرات لسائق أتوبيس تسبب في إصابة 8 أشخاص بالسلام    تناولتا مياة ملوثة.. الاشتباه في حالتي تسمم بأطفيح    جثة على رصيف 10 بمحطة مصر.. والشرطة تحدد هويته    عطل يصيب خدمات تحويل الأموال ل"إنستاباي وفودافون واتصالات" عبر الموبايل    تفاصيل مرض أحمد زكي خلال تجسيده للأدوار.. عانى منه طوال حياته    عمرو أديب عن مشاهد نزوح اللبنانيين: الأزمة في لبنان لن تنتهي سريعا    «شكِّل حلمك».. أعمال فنية تدعو للسلام    دينا ريحان تمثل مصر في معرض "روسيا وأعضاء بريكس في بعد ثقافي" - (صور)    دعاء قبل صلاة الفجر لقضاء الحوائج.. ردده الآن    لمدة 12 ساعة.. قطع المياه عن عدد من المناطق بالقاهرة اليوم    عمرو أديب عن حفل تخرج الكليات الحربية: القوات المسلحة المصرية قوة لا يستهان بها    الحوار الوطني| يقتحم الملف الشائك بحيادية.. و«النقدي» ينهي أوجاع منظومة «الدعم»    الجيش الأمريكي: نفذنا 15 غارة جوية على أهداف مرتبطة بجماعة الحوثي اليمنية    معتز البطاوي: الأهلي لم يحول قندوسي للتحقيق.. ولا نمانع في حضوره جلسة الاستماع    عبداللطيف: طه إسماعيل قام بالصلح بيني وبين محمد يوسف بعد إصابتي في سوبر 94    إعلام إسرائيلي عن مسؤولين أمريكيين: يبدو أن الهجوم الإسرائيلي على إيران بات "وشيكا"    البابا تواضروس الثاني يستقبل مسؤولة مؤسسة "light for Orphans"    «مش كل من هب ودب يطلع يتكلم عن الأهلي».. إبراهيم سعيد يشن هجومًا ناريًا على القندوسي    هيغضب ويغير الموضوع.. 5 علامات تدل أن زوجك يكذب عليكي (تعرفي عليها)    لمدة 5 أيام.. موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2024 وحقيقة تبكيرها (تفاصيل)    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    عز يرتفع من جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 5 أكتوبر 2024    «بيضة في اليوم».. عمرو أديب: «لو عندك 3 عيال محتاج 600 جنيه في الشهر بيض بس»    المصرية للاتصالات: جاهزون لإطلاق خدمات شرائح المحمول eSim    «ممكن تحصلك كارثة».. حسام موافى يحذر من الجري للحاق بالصلاة (فيديو)    رشا راغب: غير المصريين أيضًا استفادوا من خدمات الأكاديمية الوطنية للتدريب    تناولت مادة غير معلومة.. طلب التحريات حول إصابة سيدة باشتباه تسمم بالصف    «هدوء ما قبل العاصفة».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم حتى الخميس (تفاصيل)    المرصد السوري: انفجاران منفصلان يهزان مدينة تدمر بريف حمص الشرقي    عظة الأنبا مكاريوس حول «أخطر وأعظم 5 عبارات في مسيرتنا»    تفاصيل الحلقة الأولى من "أسوياء" مع مصطفى حسني على ON    بمشاركة 1000 طبيب.. اختتام فعاليات المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدموية    حقيقة إلغاء الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية.. التعليم تحسم الجدل    واعظ بالأزهر: الله ذم الإسراف والتبذير في كثير من آيات القرآن الكريم    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نعمان عاشور.. وباليتة الوجوه المسرحية
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 05 - 2011

فى أثناء عقد قران ابنته الكبرى أبدا - وعلي عكس مما قد يظن - لا تمثل الكتابة عن الراحلين مهمة أسهل من الكتابة عن الأحياء بالرغم مما يكتنف هذه الأخيرة من توقعات الرفض والمراجعة والرد العدائي وتوقعات الخصام أو إجراءات الاختصام أدبيا كان أو قانونيا . فيما يظن البعض أن التعرض لمن فارقوا يشبه أن يكون حرثا في أرض مستباحة أو نيلا ممن أصبحوا غير قادرين علي رد التهم أو دحض الأكاذيب أو التصدي للافتراءات ؛ وبخاصة إذا صدرت من بعض من لا يراعون حرمة لذلك الصمت الإجباري المفروض علي الراحلين . من هنا و من هذه النقطة بالذات ؛ تصبح الكتابة عنهم فعلا أخلاقيا ملزما _ حتي لو كان مجهدا _ لكونه يتطلب وبالضرورة نوعا آخر من موضوعية الرؤية وتنزّه الحكم وحيادية التفسير تحاشيا للسقوط في خطيئة الانتقاص أو درءا لاقتراف رذيلة المبالغة في التعظيم والتفخيم !
ولأن نعمان عاشور الكاتب قد نذر نفسه منذ البدء كاتبا مصريا وطنيا مؤمنا ب " حركة " الثالث والعشرين من يوليو 1952 م - وظل مخلصا لمبادئها حتي لو ناله منها الكثير مما يكره ويكرهه الأحرار والوطنيون المخلصون بل يمقته بنو البشر الأسوياء عامة- هذه الحركة التي أيدوها وتعلقوا بها نتيجة شوق حقيقي ولهفة عارمة لأن تكون ثورة بحق وأن تؤتي أكلها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بل "إنسانيا" في المقدمة حين يصبح شعارها الذي صعّدته الحناجر كافة آنذاك "ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستعباد " حقيقة لا تقبل الشك وواقعا لا يحتمل مظنة التأويل. والتي من أجل ذلك الشوق وتلك اللهفة شفعت الأحلام لما ارتكبته في الواقع من تجاوزات فيما لا يقبل التجاوز وهو الديمقراطية . وتسامحت في تعطيل ما لا يجوز تعطيله وهو حرية ممارسة الفكر وانطلاق التعبير عن الآراء . كنا وكان الكتاب والمفكرون والسياسيون التقدميون بأغلبيتهم يبررون ذلك ملتمسين للسلطة العذر حتي يتم لها البناء . ومقدمين لها الأعذار إلي أن تتحرر فلسطين . لكن لحظة أن وقعت الواقعة .. لحظة التأكد من الهزيمة .. لحظة الاحتراق بنار الخيبة والتمرغ في مذلة الانكسار ؛ لم يكن هناك بدُّ من المراجعة ولا بديل عن إعادة الرؤية كي يكتشف الجميع _ سواء من الذين تحملوا العسف والقهر والتكميم والمصادرة والتمسوا لمقترفيها وبطلها الأعذار ؛ أو من الذين أعلنوا تمردهم عليها ورفضهم لها منذ البداية فتحملوا بالطبع أكثر مما يكرهون _ أنهم خذلوا وأن أعواما عزيزة من أعمارهم قد أهدرت مثلما خدعتهم الأحلام فتهشمت صورة " الأخ الأكبر big brother ومعها نظرية " الطاغية العادل " كي تبدو تحتها عبارة واحدة مؤكدة هي " أنه لا صلاح إلا بالديمقراطية ولا انصلاح بغير حرية التعبير .. هذه العبارة التي تأخر تحققها كثيرا ودفعت مصر بسببها أثمانا وأرواحا غالية خائضة في بركة من الطغيان ظل يتفاقم حتي كانت الثورة الحقيقية ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م تلك التي يسطّر دفتر أحوالها الآن وقد رفع شعلتها شباب " الفيس بوك " ليس كفعل معزول مٌنبتِّ مفاجئ بل نتيجة لكمّ هائل من تراكم الغضب وتراكم التمرد وتراكم محاولات التحريض ودعوات الرفض والتثوير طيلة العقود الماضية التي سبقتها حتي وصلت الحرارة إلي درجة الاشتعال فاشتعلت وأشعلها الثوار في ميدان التحرير !
لماذا أكتب كل ذلك ويوشك أن يستغرقني ويجرفني بعيدا عن مقصدي الأصلي وهو الكتابة شهادة عن شخص نعمان عاشور وفنه؟ .. أظن بل أرجو أن أكون قد بررت ذلك بمفتتحي عن كونه كاتبا مصريا ثوريا تقدميا لم يمنحه القدر العيش حتي يفرح برؤية التحقق هو وزملاؤه الكثر من أصحاب الأقلام المناضلة التي تشوقت للفعل التاريخي العظيم وحلمت وبشرت به كل علي طريقته وحسب نوع إبداعه ونهج أسلوبه الذي هو في حالة نعمان عاشور المسرح في " واقعية اشتراكية " ظل مخلصا لها ولدوره الذي آمن بقدرته علي التحريض والإعداد للتغيير منذ بداياته " البسيطة " في المغماطيس وسينما أونطه. وباللهجة العامية التي اعتقد جازما ليس في ضرورتها بل أيضا في قدرتها علي التعبير عن أفكاره وحمل عالم المعني الذي يهدف إليه والقدرة علي التأثير الجمالي في جمهور المشاهدين من مواطنيه المصريين الذين يعرفهم جيدا ويعرف كيف يمرر مخلوقه الفني - إبداعه إليهم ويجعله قادرا علي التأثير فيهم بتحقيق المتعة ومعها إعمال التفكير !
هنا لا بد أن أعترف أو علي الأقل لا أنكر " تاريخية " هذه الأعمال الأولي لنعمان عاشور . وأعني بهذه التاريخية قيمتها الفنية في زمنها " المختلفة عن قيمتها الآن " وقد كانت بالفعل تساوي الكثير في وطن تحرر ونهضة يبشر بقدومها وعدالة اجتماعية في طريقها إلي التحقيق حتي لو تأخر تيار الديمقراطية أو أعيق " مؤقتا " كأولوية قيل إنه ينبغي تأجيلها من أجل مشروع التحرر الكبير ! بل - إنصافا للكاتب _ فقد كان لا بد لقيمة الأعمال البادئة الأولي أن تتراجع مع حراك نضجه المطرد الذي توج بصيحته المسرحية المدوية في " الناس اللي تحت " متأثرا برواية مكسيم جوركي الشهيرة " الحضيض " : تأثرا شرعيا وليس سرقة ولا نقلا . ثم تماما مثلما تأثرت " الأرض " تحفة معاصره الكبير عبد الرحمن الشرقاوي برواية "فونتامارا _ إينازيو سيلوني" الإيطالية. ومثل ما تأثر صلاح عبد الصبور _ في الحلاج _ بجريمة قتل في الكاتدرائية ت.س.إليوت!
وهكذا تدافعت انطلاقة مسرح نعمان عاشور الواقعي الاشتراكي مجسدة صراعاته وهمومه باختيار أشخاصه من واقع المجتمع المصري خروجا من القاع بمشاكله إلي الطبقة المتوسطة المبشرة بأحلامها والطبقة الأعلي المخلوعة بتفاهتها وتأخرها وتقادم ملامحها وانتهاء دورها في أعمال قدر لها أن تري النور علي أهم خشبات المسارح المصرية سواء مع فرقة المسرح الحر أو مع مسارح الدولة المدعومة بكامل طاقاتها واحتياجاتها وتألقها بالمشاهير بفنانين مشاهير _ أو أصبحوا بفضلها من المشاهير حيث تجلت مواهبهم وقدراتهم مثل عيلة الدوغري وبلاد بره والجيل الطالع وبشير التقدم رفاعة رافع الطهطاوي وإثر حادث أليم . وقد انتظمت جميعها في سياق نابض فعال يمثل " حركة مسرحية " مهما قيل في تقييمها مبالغة أو انتقاصا . حركة حقيقية وليست مجرد " هوجة " أو زخم في الإنتاج عشوائي لا يعرف خطة ولا يسير حسب منهج مثلما هو ضال للطريق لكونه لا يعرف له جمهورا ولا يريد أن يتعرف إليه أو هو عاجز عن ذلك بالفعل . ولأن الحركة تعني وجود اتجاه غالب واتجاهات متفرعة تسير في ظله وتوازيه وتجد جمهورها معه مثلما تحمل طموحا فنيا وسمات تجديدية فنية علاوة علي »هموم عامة « وأحلام مشتركة للبشر الذين يشاهدونها معبرة عنهم وممثلة لنماذجهم وأنماطهم حاملة لاتفاقاتهم وأمينة علي تجسيد اختلافاتهم كذلك . وهكذا كان مسرح الستينيات مسرحا " ذا توجه عام " يمثل قاسما مشتركا مهما كانت اختلافات المناهج وتباينات الأساليب . بل هو خصب بسبب ما حمله من تنوع وما جسده من تباين . علاوة علي اقترانه
بحركة نقدية نشطة وإثماره لإصدارات ورقية من مجلات ومطبوعات ونصوص . إضافة إلي تعدد الفرق المسرحية مع وضوح توجهاتها ودقة خياراتها الممثلة لتلك التوجهات . فمثلما كان المسرح القومي يعرف دوره ونوعية نماذجه وكذلك بقية الدور المسرحية : الحديث والجيب والحكيم . كان جمهور المسرحيين المتخصصين ومعهم عشاق المسرح - من عامة المشاهدين أو من رواد المسرح الجامعي والمدرسي والجيوب المسرحية الطليعية المهمة مثل : مسرح العلبة والورشة ونادي المسرح .. إلخ - يتابعون الحركة النقدية ويعرفون أسماء نقادها مثل لويس عوض ومحمد مندور ورشاد رشدي وأنور المعداوي ولطيفة الزيات وشكري عياد من جيل الأساتذة، وعبد القادر القط وفاروق عبد القادر وسمير سرحان ومحمد عناني وفاروق عبد الوهاب وغيرهم من الجيل الأصغر سنا . بل أكثر من ذلك يعون اختلاف مناهجهم وفروق أفكارهم وينتصرون لآرائهم أو يضادونها . وبما كان يمكن له أن يمثل حركة مسرحية حقيقية وناضجة لولا اعتراضه بهزيمة 1967 ثم الانشغال العام عنه بمحو آثاره وإزالتها، إلي أن تم التحول التدريجي ثم الانصراف شبه الكامل مع الاتجاه العشوائي المعروف إلي سياسة الانفتاح وما أدي إليه عداء الدولة الشهير في السبعينيات للمثقفين !
وكي لا تجرفني الرغبة في التحليل العلمي وتتبع النظر المتعمق في خارطة المسرح المصري - منذ الستينيات والتي كان لا بد من وضع ما يشبه رسما تخطيطيا لها كي نتوقف عند نعمان عاشور _ أعود لصورة الرجل كاتبا وإنسانا مسجلا ما ظننت في البداية أنه كان لا بد أن أبدأ به حينما رأيته للمرة الأولي أواخر عام 1967م حينما قدم إلينا أستاذا زائرا بقسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية فتدفقنا علي مكان محاضرته ننتظره قبل موعدها. كنا قد استبقنا رؤيته بالقراءة له وربما بمشاهدة بعضنا لإحدي مسرحياته . بينما البعض الآخر وأنا منهم كنا قد شاركنا في تمثيل مسرحيته " الناس اللي تحت " مع فرق المسرح الجامعي المزدهرة . وجاء : رأيناه بملامحه الخاصة جدا والمميزة.. الأنف الغريب المضغوط بشدة والوجه المسحوب بتفرد . لم يكن شابا وسيما يسحرنا مثلما كان نجيب سرور الشاعر والثوري المتمرد والمناضل والعاشق . كما أنه لم يكن لينافس أيا من النجوم الذين فتنا بهم في ذلك الوقت . هكذا قلنا لأنفسنا متهامسين : زميلنا لينين الرملي وصديقي الكاتب المسرحي الراحل محمد زهدي وأنا : " ليس في كتابنا أو شعرائنا من هو في وسامة نزار قباني أو محمود درويش وسميح القاسم ؟! لا صلاح عبد الصبور حزين الوجه ولا محمد عفيفي مطر بسحنة الفلاح المصري الذي أضنته المعاناة وناهيك عن وجه أمل دنقل ضمن فصيلة الشعراء الكبار . أما الآخرون أصحاب الوجوه الحالمة والسحن الرومانسية فضعفاء أو محدودو الموهبة. لم يخرج نعمان عاشور إذن عن " باليتة " الوجوه المسرحية : ألفريد فرج وميخائيل رومان. لكن ما إن بدا صاحب ذلك الوجه المميز في الحديث حتي خيم السحر علي الجميع . إنه يعرف كيف يتحدث !!! كيف يخرج منه الكلام دافئا وإن كان عصبيا .. فهو يتدفق طيبة _ في سمة هي أكثر سمات شخصه تميزا _ وحنونا فيتملكنا جميعا ونحبه إلي درجة دفعتنا " نحن ديوك المسرح الفتية المغرورين العصبيين " أن نؤجل هجومنا أو نقدنا " المعد سلفا " عليه . ونظرنا إلي أكثرنا دوجماطيقية وتوترا : زميلنا المرحوم عادل العليمي الماركسي المتعصب في عجرفة وغير القابل للمناقشة نرجوه أن يهدأ لأن الرجل رقيق وينضح طيبة . لكن العليمي لم يعجبه ترفقنا ولا ميوعة موقفنا حسب تعبيراته المؤدلجة فاصطدم بالأستاذ نعمان ناقدا أعماله دون أن يسمح سياق الدرس بذلك فقد كنا في محاضرة من محاضرات مادة فن الكتابة المسرحية !
ولأن الرجل _ مرة أخري _ كان رقيقا ولينا ودمثا _ مع صغاره الواعدين في قاعة الدرس _ فقد أخجلت رقته وصبره وهدوؤه زميلنا فانقلبنا جميعا عليه وصرنا كلنا نحب نعمان عاشور حتي لو اختلفنا مع ما يكتبه أو تعالينا بقراءاتنا العالمية عليه. ( للعلم كان الرجل يعرف المسرح العالمي جيدا.. يتحدث عن شكسبير كعالم ويتعرض لإبسن وتشيكوف وجورج برنارد شو كمتخصص ويعلمنا فن الكتابة بحرفية متقنة لم نندهش حينما أخبرنا أستاذنا الحنون الجليل أحمد عباس صالح أن نعمان عاشور متخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ) ..! لكن هذه الرقة كانت تفور دائما وتشتعل بعد كل عرض لعمل مسرحي جديد يكتبه . ثورة يجابه بها المخرج " الذي لم يفهمه ولم تعثر فطنته علي عالم المعني الذي قصده أو الذي انحرف بكلماته عنه وأخرجها عن مقاصدها أو الذي لم يقم بواجبه في تعريف الممثلين بأدوارهم كما كتبها مثلما أخطأ في فهم ما يتضمنه المعني الذي قصده وخبأه مضمرا بين السطور" !
نعم كان نعمان عاشور المؤلف المسرحي يتحدث عن منهج نقدي لما يكتشف آنذاك بعد . يتحدث عن " الهرمنيوتيكا " التي لم نكن نعرفها .. عن التأويل الضال أو المضلل في فهم النص وتناوله دون أن يعرف هو نفسه ذلك المصطلح ؛ وقبل أن يصل إلينا مفهوم الدراماتورج والدراماتورجي أو يعرف طريقه إلي قاموس مصطلحاته حتي لو كان قد سمع به آنذاك!
ولم نكن بالطبع نولي قدرا من العناية المناسبة لتلك الإشكاليات المهمة "إشكالية المؤلف في مواجهة المخرج ... التجسيد في مواجهة التأويل .. معرفتنا وقدرتنا علي استنطاق العمل الفني المسرحي وسبر أغواره واستخراج كنوزه .. تعدد الرؤي بتعدد زويا التناول .. الأوجه المتعددة للنص .. المخرج المنفذ والمخرج المفسر والمخرج المبدع المضيف" التي تقدم البحث فيها مؤخرا أو بالأصح وصلتنا متأخرة علي يد المبعوثين أو المترجمين الذين طالما وضعت معرفتنا وثقافتنا تحت صدفة خياراتهم لما ينقولونه إلي لغتنا!.. وهكذا كنا ننقسم ونتشيع في مواقفنا من أطراف معركة نعمان عاشور مع المخرج ..وياله من انقسام رائع وتشيع رفيع ! .. ترتفع فيه حرارة الندوات وتشتعل المناقشات وتتصدر الآراء الموالية والمعارضة صفحات الصحف _ وليس مجلة المسرح المتخصصة وحدها فحسب _ فقد كان لكل صحيفة ناقدها الأدبي والمسرحي المتخصص : لويس عوض يكتب في الأهرام وأحمد عباس صالح في الجمهورية ونعمان عاشور وأحمد رشدي صالح في الأخبار ورشاد رشدي في المسرح ... إلخ . وقبلهم جميعا كان يكتب شيخ النقاد محمد مندور وكذلك كان يكتب عبد القادر القط وكانت تكتب لطيفة الزيات وخلفهما كتيبة الواعدين .
لكن المثير بالفعل والمعجب الرائع هو شكل الاختلافات وتجسدات الاختلاف . كان محمد مندور ورشاد رشدي علي طرفي النقيض : محورين متنافرين في الرؤية وفي الرأي . ولكل منهما جبهته وأنصاره ومريدوه . مندور التقدمي الذي يؤمن بأن الفن للمجتمع ويمسك بدفة هذا الاتجاه . ورشاد رشدي في الطرف المقابل يبشر بالفن للفن ويروج له . وبينهما يتحزب الباقون ويقف نعمان عاشور ضمن جبهة مندور والتقدميين الاشتراكيين مدافعا عن غائية الفن والوظيفة الاجتماعية الثورية ومطلب التغيير بالمسرح . لكن كل ذلك _ وهو الأروع _ يدور في احترام رفيع وضمن إطار أخلاقي محتشم كما يليق ب " أولاد الأصول " كما كان يحب المصريون أن يعلقوا . يتشاجرون علي صفحات الجرائد والمجلات وفي الندوات ثم يأخذون بعضهم بعضا بأحضان حقيقية ويذهبون معا إلي »نايت آند دي« في فندق سميراميس القديم أو إلي مقهي إيزافيتش بميدان التحرير أو ريش بشارع طلعت حرب . فيتسامرون ويضحكون وقد يقضي أحدهم بقية الليلة أو ليالي وأياما أخر في صحبة مباحث أمن الدولة أو يلتقون معا في سجن القلعة أو سجن طرة. ففي عهد مصر "الاشتراكية" لم يكن أحد بمنجي من المعتقلات سوي القليل حيث لا بد وأن يكون واردها أو ساعيا إلي ورودها كي يدمغ بخاتم المعتقل ويكتب عنه أنه "مناضل"! ولهذا حديث آخر فكه ولكنه أيضا ذو شجون.
ما الذي يتبقي من نعمان عاشور الكاتب المسرحي الآن؟ هل يمكن إعادة عرض أعماله ورؤيتها مرة أخري ؟.. هل يعاود الاستمتاع بها ثانية ؟؟.. أي نقد سوف يوجه إليها أو كيف تبدو في عين الناقد الآن بعد كل ما أصاب العالم من تغير وحدث للوطن من تغيير ؟ كيف سيتم تلقيها، وأي جمهور سوف يتحمس لها أو يعرض عنها ؟؟... هل تحتمل إحداث تعديلات أو تغييرات فيها، وما هي إذن؟.. هل يمكن أن تلعب طرائق الإخراج المسرحي وتقنياته العصرية المنجزة دورا في إعادة عرضها الآن ؟
أسئلة لا بد من طرحها أولا في قاعات الدرس المتخصصة وضمن ورش العمل الخاصة وعلي جمهور تجريبي ذي عينات عشوائية وعينات منتقاة. وقد طرح مثلها مسبقا ولا يزال يطرح حول أعمال كتاب كبار مثل برتولت بريخت ومكسيم جوركي وجورج برنارد شو وآخرين لهم أهميتهم من الكتاب الأيديولوجيين وغيرهم . بل هي أسئلة أزعم أنه لا بد من إثارتها بين الحين والآخر وبخاصة في ظل التغيرات المطردة في الذوق والتوجهات والتفضيلات فناَّ وفكرا علي مستوي العالم كافة. إنهم يعيدون تقييم ثقافتهم ومخرجات إبداعهم فلم لا نفعل ذلك نحن أيضا ؟.. إن إعادة الرؤية مطلوبة وإعادة التقييم لازمة وفق منهج علمي مدروس ليس لنعمان عاشور وحده أو لكتاب جيله معه بل لعصورنا الأدبية والفنية كافة بمبدعيها وصنوف إبداعها. ومن مثل ذلك التقييم يحدث التجدد .. تخرج الأرض ثمارها كنتيجة للتفاعل بين الموروث والمستحدث . بين التقاليد والمواهب الفردية. وبفضله أيضا نكتشف أن أجدادنا الراحلين لا يزالون أحياء مؤثرين فينا يضيفون إلي إبداعنا برغم حداثته. مثلما نضيف إلي إبداعهم بتجديد اكتشافنا له . إنها دعوة إذن لتعريض مسرح نعمان عاشور لضوء نقدي أحدث وتقديمه وفق إبداع جديد. ولكي يرد غيابه إلي أسبابه الحقيقية فنعرف إن كان هو غياب الكاتب أم غياب المسرح : غياب المؤسسة أم غياب المفكرين لها؟.. غياب المسرحيين الحقيقيين أم تغييبهم المتعمد وتغييب حركة النقد الباعث المحرك الذي بإمكانه أن ينقذ الساحة من الأدعياء والمرتزقة وأرباع الموهوبين حتي لو علقوا علي جباههم الشهادات وجأروا بأصواتهم في زفة الثورة وسبحوا في اتجاه أمواجها مدعين المطالبة بالتغيير؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة