كم مرة أعدت فيها كتابة هذا المقال؟ لا أعرف بالتحديد ، فالأحداث تتسارع بصورة لم نعهدها في مصرمنذ زمن طويل. يا إلهي.. أفي أيام يحدث كل هذا!، وإذا ادعي أحد من المثقفين أو السياسيين أو المتنبئين بأن شيئاً من هذا موشك علي الحدوث لكذبه الناس، فقد كانت صورة المجتمع المنطبعة في الأذهان أنه: هادئ.. مستقر.. راض. ولكنها اللحظة الفارقة التي تزلزل الأرض فيها زلزالها فتسقط البديهيات، ليظهر، ولأول مرة، بعد إنجلاء الصورة الواقع الجديد. بدأت الزلزلة بالدعوة إلي التظاهر، عندما قررت مجموعة من شباب الوطن أن تقول لا.. وكان هذا كل ما في الأمر. خرجت متئدة تتقدمها الورود.. تحيطها سيارات الشرطة لتحميها _ هكذا كان الوضع في البداية _ وفجأة انقلب المشهد، وتوقف العقل عن الفهم، وتحول ميدان التحرير إلي ساحة حرب وضرب وإهانة. قيل إنها "جمعة الغضب" التي اسقطت من عنفها الأقنعة، واحترقت بديهيات.. عربات للشرطة.. ومبان للحزب.. خلّفت فوضي لا راشد لها. وهكذا تحولت التظاهرة إلي ثورة وامتدت يوماً ويوماً ويوماً.. وأصبحت ككرة الثلج كلما تدحرجت كبر حجمها حتي صارت روحاً جديدة تجذب فكراً وتصوراً ورؤي أنضج للمستقبل. حل الليل، وانسحبت الشرطة، وانتشرت الفوضي، لتبدأ عمليات سلب ونهب وترويع وتحطيم قضبان وأسوار وإشعال أقسام للشرطة وتدمير محاكم!.. هل مصر تنهار؟!، أم أنها روح جديدة لاحت في الأفق.. لجان شعبية تكونت من أبناء الأحياء للدفاع عما تخلي عنه رجال الشرطة، ليصبح الشعب كله شرطياً يحمي أرضه وعرضه، ويلقي القبض علي الخارجين علي المجتمع.. ووسط كل هذا الظلام والخراب والدمار يشرق أمل مفرح.. هذا الشباب الذي حمّل نفسه بنفسه مسئولية الذود عن وطنه، وصد جحافل البلطجة التي استهدفت النيل من أمن أبناء مصر، وترويعهم، والسطو علي ممتلكاتهم، والتصدي للمخربين، فقد انصهر في أتون هذه الأحداث الملتهبة معدن هؤلاء الشباب، وزالت عنه كثير من الشوائب التي كانت تجعلنا نسيئ فهمه ونتصور أنه لا علاقة له بالإنتماء إلي هذا الوطن، فقد أثبت أنه قادر علي حماية أهله ووطنه من هجمات مروعة في ظل ما أسفرت عنه الأيام الماضية من فوضي وسلب ونهب.. وأتصور أن هذا الدرس الذي لقنه لنا شبابنا خلال هذه الأزمة يجعلنا نعيد التفكير في كيفية الإستفادة من طاقاته الكامنة، وهو الذي سيتحمل مسئولية قيادة هذا الوطن. هل يمكن لأحد أن يصدق هذه الدقة في التوقيت؟ في وقت واحد تتحطم أسوار سجون أبي زعبل والمرج ووادي النطرون و.. و.. مع اختلاف الأماكن وتباعدها.. في وقت واحد يتبخر رجال الشرطة وتنهب أسلحتهم وذخائرهم ولتصبح، في غمضة عين، في حوزة حفنة من اللصوص. وأسأل نفسي مرة أخري.. هل مصر تنهار؟!، وأنتظر من يجيبني ولكن ما من مجيب. إنها لحظات خاطفة بارقة تحرك فيها كل شئ وراح كل شخص يدافع عن وجوده أو عن وجود مصر. وفجأة استقالت الوزارة ونقلت لنا الأخبار أن مصر صار لها نائب للرئيس، ورئيس جديد للوزراء، وبدأت الأقنعة في التساقط، وأزدحمت النيابات بحركة التحقيق والاستجواب لرجال كانوا حتي أيام قليلة أصحاب صولات وجولات يشار إليهم من بعيد كنجوم تري ولا تٌري، وبصرف النظر عن هوياتهم وحجم ما أقترفوه من آثام وتجاوزات في حق هذا الوطن، الذي منحهم كل شئ: الحياة والبريق والنجاح والشهرة والنجومية والثراء، بلا حدود، بصرف النظر عن كل هذا السلب والنهب في حق أبنائه.. وعن تعطيل مستقبل الآلآف، وحرمان أجيال من القيام بأدوارها، فإنني أقول: خسرت مصر علي أيديهم بقدر ما كنزوا واكتسبوا.. وخسرت أجيال ابتسامتها وفرحتها وبهجتها وآمالها. لكنها إرادة الله.. فقد نفخ من روحه في هذا الشباب، الذي لم يكن أحد يتصور أنه مهموم بوطنه إلي هذه الدرجة.. كشفت ساعة الحقيقة المعدن النفيس الذي صقل جيلاً جديداً جاءنا بالمعجزة التي لم نكن ننتظرها، لأننا وبكل صدق، لم نكن نقدر بأس هذا الشباب. أصابني هلع وأنا أستقبل خبر سطو مدرس للبنات في المرحلة الإعدادية علي المتحف المصري، محاولاً سرقة كنوزه من آثار ومومياوات!.. قلت لنفسي: كم خّرب هذا المجرم من عقول بناتنا طوال سنوات وهن تتلقين علي يديه دروسهن!، وأخذت أتساءل: ما جدوي التعليم، وما الأثر الذي يمكن أن يتركه الأدب في سلوك الإنسان؟. وهل طوفان ما أسماه الناقد الكبير الدكتور، جابر عصفور، بأدب العشوائيات هو السبب في انحراف سلوك مثل هذا الإنسان الذي من المفترض أن نعتبره "رسولاً"! هل كان محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، وهو ينصح المهندس ياسر قطامش بأن يحول ثروته من الصور التذكارية إلي هذا الكتاب الفريد الذي صدر بعنوان "مصر.. صور لها تاريخ"، يعي أنه ينشر سفراً بالغ الأهمية في ظل الأزمة التي تشهدها مصر الآن؟، فهذا الكتاب يسجل كيف أن مصر المحروسة كانت السباقة في مجالات كثيرة، حيث كانت أول بلد في الشرق يعرف القطار في عام 1861 ، وتنشئ أول برلمان في عام 1866، وأول دار للأوبرا في عام 1869، وأول حديقة حيوان في عام 1891، في نفس الوقت الذي كانت فيه رائدة للتعليم والنهضة النسائية وفنون المسرح والسينما والتشكيل والإبداع الأدبي...والثورة توقفت طويلاً أمام الرواية الأخيرة لمحمد سلماوي التي أعطاها عنواناً بالغ الدلالة هو "أجنحة الفراشة"، باعتبارها رمزاً للتحول والتحرر والانطلاق، وجعله معادلاً موضوعياً لما يحدث في مصر الآن من ثورة غضب. ولكن المحير أن هذه الرواية، التي انتهي سلماوي من كتابتها قبل شهور، جاءت متنبئة بما حدث لمصر إلي أبعد حد. فهي تروي ماذا يمكن أن يحدث حين يسقط الحزب الذي دام حكمه المستبد أكثر من ثلاثين عاما إثر سلسلة من المظاهرات والاعتصامات وصلت إلي حد العصيان المدني، إنها رواية ترسم مستقبل مجتمع بأسره، فموضوعها هو الحراك السياسي الذي تشهده البلاد في الوقت الحالي، وهو يصور مصر وكأنها يرقة رخوة لا حول لها ولا قوة وقد تحولت إلي فراشة جميلة نمي لها جناحان فصارت قادرة، هي والوطن، علي التحليق في السماء. إنها رحلة خلاص مجتمع بأكمله من القيود التي تكبله والتي تحول دون تحقيق أبنائه لذواتهم. إلي روح من استشهدن من شابات مصر في ثورة "اللوتس"، أهدي هذه الأبيات لشاعر النيل، التي أبدعها عن مشاركة النساء لأول مرة في ثورة 1919. يقول حافظ إبراهيم: خَرَجَ الغواني يَحتَجِجنَ وَرُحتُ أَرقُبُ جَمعَهُنَّه فإذا بهنَّ تَخِذنَ مِن سُودِ الثياب شِعَارَهُنَّه فَطَلَعنَ مِثلَ كَوَاكبٍ يَسطَعنَ فيِ وَسَطِ الدُّجنَّه وأخذن يجتزن الطريق ودار "سعد" قصدهنَّه يمشِين في كَنَفِ الوقا ر وقد أبَنَّ شُعُورَهُنّه وَإذا بجيشٍ مُقبِلٍ والخيلُ مُطلَقَةُ الأعِنَّه وإذا الجنودُ سيوفُها قد صُوِّبت لنحورِهِنّه وإذا المدافع والبنا دق والصوارم والأسنَّه والخيلُ والفرسانُ قد ضَرَبَت نطاقاَ حولهنَّه والوردُ والرَّيحانُ في في ذاك النهار سلاحُهُنَّه فتطاحن الجيشان سا عاتٍ تشيب لها الأجِنَّه فتضعضع النسوان والنسوَان ليس لهنَّ مُنَّه ثم انهَزَمن مشتَّتات الشَّمل نحو قصورِهِنَّه فليهنأ الجيش الفخو رُ بنصره وبكسرِهنَّه! فكأنما "الألمان" قد لَبِسوا البراقع بينهّنَه فلذاك خافوا بأسَهُنَّ وأشفقوا من كيدِهنَّه