ليس التطبيع ما يؤلم في القصة، وإنما محاولة فرضه، من قبل دولة تدعي دوما احترام الآخر ومعتقداته. علي العموم، تبدو القصة وكأنها قصة انتصار مصرية، مقاطعة سينمائيين مصريين لمهرجان يقام في المركز الثقافي الفرنسي وتشارك فيه مخرجة إسرائيلية، وإقامة مهرجان بديل للفنانين المصريين الذين قرروا المقاطعة، وانسحاب رئيسة لجنة التحكيم الفرنسية تضامنا مع الفنانين المصريين، وكلام غير مؤكد، حتي لحظة مثول الجريدة للطبع، عن قرار بإلغاء المهرجان الأصلي. بدأت القصة، والتي لعبت فيها فرنسا هذه المرة دور البطولة، لا مصر ولا إسرائيل، باكتشاف المخرج أحمد عاطف، والذي تم اختياره كعضو لجنة تحكيم بمهرجان الصورة السادس الذي يعرض في المركز الثقافي الفرنسي، أن أحد الأفلام المشاركة في المهرجان، وهو فيلم "شبه طبيعي"، هو للمخرجة إسرائيلية كارين بن رفاييل، والتي عملت من قبل مونتيرة بالجيش الإسرائيلية، كما أن أحداث الفيلم تدور في تل أبيب. أعلن عاطف اعتذاره عن عضوية لجنة التحكيم، فقامت رئيسة المهرجان، المخرجة لطيفة فهمي، بسحب الفيلم الإسرائيلي، وإحلال المخرجة كاملة أبو ذكري محل عاطف. إلي هنا بدت القصة وكأنها انتهت. ولكن المخرجين المشاركين تلقوا مكالمات وفي ليلة الأول من أبريل، من رئيسة المهرجان تبلغهم فيها بإعادة الفيلم الإسرائيلي، فما كان من المخرجين إلا أن اعتذروا في موقف جماعي، باستثناء مخرجين اثنين، وهما نيفين شلببي وأحمد رحال. موقفهم عبر عنه محسن عبد الغني، واحد من المعتذرين، وكان مشاركا بفيلميه "قرار إزالة" و"اسمي جورج". قال ل"أخبار الأدب": "قبولي بالمشاركة يعني اعترافي بهذه الدولة وأنها ند لنا. الفن شيء والسياسة شيء آخر، وحتي إذا شاركت وتفوقت سينمائيا علي هذه الدولة فهذا لا يعني أنني أقوي منها عسكريا مثلا، وإنما بالعكس، يعني ضعف موقفي الأخلاقي." وأشار محسن إلي البيان الذي وقع عليه المخرجون الثمانية الذين قاموا بسحب أفلامهم، والذي جاء فيه: " نعلن رفضنا لما قامت به الخارجية الفرنسية بتدخلها السافر وضغطها غير المقبول علي إدارة مهرجان لقاء الصورة الذي يقيمه المركز الثقافي الفرنسي باجبار المركز علي عرض فيلم "شبه طبيعي" للمخرجة الإسرائيلية كارين بن رافاييل في المهرجان الذي نعتبره مهرجانا خاصا بالأفلام المصرية المستقلة"وهو البيان الذي تضامن معه مخرجون مثل محمد خان ويسري نصر الله ونادية كامل وخالد يوسف. وللمفارقة، فهذا البيان كان نيفين شلبي واحدة من الموقعين عليه، وهي المخرجة التي رفضت الانسحاب من عرض فيلمها في المهرجان. تشرح موقفها لنا قائلة: "أنا ضد تدخل الخارجية الفرنسية بهذا الشكل وأرفضه تماماً، ولكن في نفس الوقت أري أن المقاطعة هي اعتراض سلبي وليس إيجابيا، أنا قررت المشاركة في المهرجان مع توقيعي علي البيان الذي يدين التدخل." تقول أنها ليست ضد المقاطعة بشكل عام، ولكنها مع الفكر الجديد للمواجهة: "الإسرائيليون نجحوا في كسب تعاطف العالم واستطاعوا كسب فرنسا كلها، ونحن مازلنا فاشلين في هذا لأننا قررنا الانعزال وليس المشاركة." يالإضافة لهذا، تري نيفين أن مقاطعتنا، كمصريين لن تؤثر كثيراً: "الخطوة الأولي هي أن نكون اقتصادا وسياسة قويين، ثم بعد ذلك وبشكل تلقائي سوف تكون مقاطعتنا مؤثرة." ولكن، علي المقابل، فقد رأي الكثيرون من المثقفين أهمية مقاطعة أنشطة المهرجان، حيث توالت البيانات ضد عرض الفيلم وضد تدخل الخارجية الفرنسية لعرضه، منها بيان المعهد العالي للسينما ونقابة المهن السينمائية، وآخرها كان البيان الذي وقع عليه عدد من المثقفين مثل المخرجين توفيق صالح مجدي أحمد علي وفهمي الخولي ومحمد كامل القليوبي والمفكر جلال أمين والممثلة نادية لطفي والمستشار طارق البشري والفنان التشكيلي أحمد نوار والكاتب والبرلماني حمدين صباحي والكاتب محمد أبو الغار ونقيب المهن التمثيلية أشرف زكي، والروائيين بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد ومكاوي سعيد والناقد كمال رمزي وجورج إسحاق المنسق العام السابق لحركة كفاية وأخرين. وجاء فيه: "نعلن نحن المثقفون المصريون الموقعون علي هذا البيان استياءنا الشديد من إصرار المركز الفرنسي للثقافة والتعاون علي عرض فيلم "شبه طبيعي" للمخرجة الإسرائيلية كيرين بن رفائيل التي عملت بالجيش الإسرائيلي وندعو زملائنا من المثقفين والسينمائيين إلي مقاطعة أنشطة المهرجان". وأعرب المثقفون المصريون في بيانهم عن إندهاشهم لتدخل هيئة دبلوماسية سياسية تمثل دولة فرنسا في حدث سينمائي وقيامها بالضغط علي المركز الثقافي الفرنسي بينما تعلن فرنسا دوماً أن لمفكريها وفنانيها الحق في إتخاذ المواقف التي يرونها فكيف تقدم علي إجبار المخرجين والسينمائيين المصريين علي اتخاذ مواقف فنية وسياسية متناقضة مع مواقفهم المبدئية؟ تبعات الموضوع لم تقتصر علي مصر، وإنما امتدت إلي فرنسا، حيث اتهمت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية المخرج أحمد عاطف، وهو أول المعتذرين وأول من لفت الانتباه إلي القضية، بمعاداة السامية، وكذلك صحيفة لوموند الفرنسية والتي كتب فيها الصحفي ناثانييل هيرزبرج عن هذا الموضوع. وهو ما شكل الضغط علي الخارجية الفرنسية لتقرر إعادة الفيلم، كما يذكر المخرج أحمد عاطف. ويضيف :"وبالفعل استجابت الخارجية الفرنسية في الرابعة مساءا بتوقيت فرنسا، يوم 31 مارس، وأعلن برنار فاليرو المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية في مؤتمر صحفي أن فيلم "شبه طبيعي" للمخرجة الاسرائيلية كارين بن رفاييل ستتم اعادته لبرنامج المهرجان واعترف بأن السفارة الفرنسية قد سحبته من قبل من البرنامج." هذا التدخل الفرنسي هدد بأزمة دبلوماسية بين مصر وفرنسا، إذ أعلن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير حسام زكي، عن اندهاشه من التصريحات الأخيرة الصادرة عن الخارجية الفرنسية بشأن الأزمة التي تسبب فيها المركز الثقافي الفرنسي، وقال في تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط إن "الفنانين المصريين مارسوا حقهم الكامل بالمشاركة أو الاعتذار عن أي فعالية ثقافية انطلاقا من مواقفهم ورؤاهم, وأن هذا الحق مكفول لهم وفق الدستور المصري, وبالتالي فمن غير المقبول من أي طرف أجنبي أن يعلق عليه ".وأضاف: "إننا لا نعلق من جانبنا علي مواقف السينمائيين الفرنسيين التي يتخذونها وفقا لقناعاتهم ". المخرجة الإسرائيلية نفسها، والتي سبق لها العمل بالجيش الإسرائيلي، أشارت في يديعوت أحرونوت إلي رد فعلها عندما سمعت بقرار إلغاء المهرجان. قالت أن هذا الموضوع هو عبثي ومجنون! "كنت في إسرائيل بينما القصة كلها تدور في فرنسا. لم أعرف ما حدث أبدا. في البداية قالوا أن الفيلم لن يتم عرضه، ثم تحدثوا عن إلغاء المهرجان. الأمور خرجت من السيطرة. عرفت تطور الأمور من خلال الفيسبوك. هذا أمر شبه جنوني.... في البداية بدا لي هذا أمرا فرنسيا داخليا. المصريون عارضوا وقرروا إلغاء مشاركة الفيلم. يجب عليّ القول أنني أحسد مصر علي قدرتها علي اتخاذ قرار سياسي حاسم كهذا. لا أستطيع فعل هذا." في النهاية، كما أشار أحمد عاطف، فإن رئيسة لجنة التحكيم الفرنسية، سولانج بوليه، اعتذرت عن حضور المهرجان، تضامنا مع الفنانين المصريين، كما استطاع عاطف إقناع وزير الثقافة فاروق حسني بإقامة مهرجان بديل للأفلام التي انسحبت من المهرجان الفرنسي، علي أن ينظمه قصر السينما بعنوان "المهرجان الأول للصورة الحرة" ويقام من 11- 15 أبريل.