حينما أصدرت سحر مندور عملها الأول "سأرسم نجمة علي جبين فيينا" كانت تري نفسها في منطقة الهواية، تحتار في تسمية عملها الأول قصة أم رواية وتصدر "نجمة علي جبين فيينا" في دار نشر صغيرة بعيداً عن النشر الرسمي كأنما تشعر بالخجل، لكن الاحتفاء النقدي الذي حظي به عملها الأول، جعلها تقتنع أخيراً بأنها كاتبة "بجد عن حق وحقيقي" لتصدر بعد ذلك روايتها الثانية "حب بيروتي" والتي حققت نجاحاً جماهيرياً في معرض بيروت للكتاب. سحر مندور ذات الأصول المصرية اللبنانية والمقيمة في بيروت حيث تعمل في جريدة السفير اللبنانية منذ سنوات، أعادت دار الشروق المصرية مؤخراً إصدار روايتها الأولي "سأرسم نجمة علي جبين فيينا" في طبعة مصرية، وهو الحدث الذي تري مندور أنها مدينة له بالكثير. تقول سحر "عندما صدرت فيينا في بيروت، بالكاد لاقت اعترافاً بالوجود. كان هناك ميل إلي تصنيفها خارج سياق النشر الأدبي. أظن أن ذلك كان قادراً علي كسري، لولا الآراء الصديقة التي اهتمت بها وانعكست علي المبيعات، إذ نفذت الطبعة الأولي. عندما وصلني خبر من الأستاذ سيف سلماوي في "الشروق" أن الدار الأكبر عربياً مهتمة بفيينا، طار عقلي. وعندما تابعت النشر مع الأستاذ فادي عوض، شعرت بوجود معترف به لهذه الرواية. وعندما استقبلت الصحافة المصرية فيينا بالاهتمام، صدّقت أني روائية. أظن أن نشر فيينا في مصر كان الحدث الأساسي في دفعي إلي الانتقال من كاتبة/ هاوية إلي كاتبة تتحمل مسئولياتها. أضف إلي ذلك التوجه بشكل مباشر إلي القارئ المصري، ما يعني أني بت كاتبة عربية، علماً بأني أعتبر نفسي متأثرة بشدة بالرواية المصرية التي قرأتها منذ بدأت القراءة (من الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ إلي "لجنة" صنع الله ابراهيم، فإبراهيم أصلان، وصولاً إلي أحمد العايدي...). وعلي المستوي الشخصي، عادت عليّ طبعة "الشروق" بفرحة خاصة لأن عائلتي لجهة والدي مصرية، ومقيمة في مصر، وبات بوسعها أن تشعر بوجود حقيقي وجميل لي إلي جانبها في مصر. أنا أدين لطبعة "الشروق" بالكثير، علي المستوين الشخصي والمهني". -علي ذكر العائلة أشرت في حوار سابق إلي مجموعة من المخاوف في طريق كتابتك للرواية منها موقف العائلة مما تكتبينه، أين تقف هذه المخاوف الآن، وما هو تأثيرها علي ما تكتبينه؟ كنت أخاف بشكل أساسي من التطرق إلي ممارسة الحب وتدخين الحشيشة. وكأي ابنة لعائلة عربية، كنت متوجسة. حاولت أولاً أن أضع حدوداً لنفسي أثناء الكتابة، لكنها سقطت وحدها. فكتبت ما أريد كتابته. انتبهت، بعد النشر، وبعدما تلقيت رد فعل العائلة المشجّع، أن أسلوبي ليس استفزازياً، وإنما يسعي إلي معالجة الموضوع بلغة غير صدامية، تسعي للتسرّب إلي ذهن القارئ، ليهضمها قبل أن يستنفر دفاعاته الأخلاقية. لا أحب الاستفزاز، كوني أسعي إلي دعم الحرية الشخصية، لا إلي تأليب الناس ضدها. قلت إنك تعتبرين نفسك الآن كاتب "بجد..عن حق وحقيقي" كيف يختلف هذا عن مزاولة الكتابة كهواية أو كلعبة؟ اقتنعت أخيراً بأني كاتبة "بجد.. عن حق وحقيقي". لا أنهي قصة إلا وبالي مشغول بالتي ستليها. لا أفكر بقصة إلا من باب المشاركة في صياغة اليوم، في مجتمعي. في البدء، كنت مترددة، لأني أخشي ألا أكون علي مستوي التسمية: روائية. الخشية لم تقلّ، لكن التردد زال. إما أن أحمل مسئوليتي، ويحاسبني المجتمع علي أساسها، أو أتهرّب، وأتردد، وأقول، ولا أقول. رأيت أن ترددي لا يأتي من تواضعٍ أو خفرٍ، وإنما من جبن. ثم أن تجربة النشر، وردود الأفعال التي استحسنت الروايتين، والآراء النقدية التي تلقيتها، ساعدتني علي التحرر من هذا الجبن وتحمّل المسئولية. علماً بأني لم أتعامل مع الكتابة يوماً كلعبة عابرة، نظراً لكوني آتية إلي الرواية من الصحافة الملتزمة. أما كون الكتابة هوايتي فلم يتغيّر، هي هوايتي المفضلة ومهنتي في آن. هل قادتك هذه الحالة -الانتقال من الهواية- إلي ما يمكن تسميته بالمشروع الإبداعي؟ وكيف تنظرين إلي تلك الفكرة نفسها "كاتب ذو مشروع إبداعي"؟ الهواية هي محرّكي الأساسي، أجد متعة كبيرة جداً في السرد. وهي لا تتناقض مع وجود "مشروع إبداعي". لكني لست الجهة المخولة تقييم ما إذا كان في عملي إبداع أم لا، لكني بالتأكيد أكتب ما تروق لي قراءته، عن يومي، وعن شباب يومي، كي لا تختصر زمننا الأخبار السياسية والاجتماعية السائدة عنه. أكتب عني، وعن أشباهي في الجيل، في الزمان والمكان، بمنحيً يسعي إلي تدعيم الحرية الشخصية، والعدالة الاجتماعية. أكتب بوعي تام لهاتين القضيتين، وأسعي لأن أقدّم ما أقوي عليه في هذا الاتجاه. أما الأسلوب واللغة فلا أقررهما مسبقاً، يصدران عني من دون قرار بالتجريب. -كلا الروايتين تدوران في بيروت، لكن رغم ذلك يبدو المكان غائباً بكل تفاصيله، ألم تخش أن يؤدي هذا الأمر إلي تشوش الأحداث في ذهن القارئ الذي لا يعرف بيروت؟ لم ألحظ ذلك مسبقاً، لكني تعلّمت من التجربة. صديقي الشاعر محمد خير وجّه لي الملاحظة نفسها، وقال لي إن الشارع غائب عن القصة. في القصة الثالثة، التي تجري أحداثها أيضاً في بيروت، وستصدر في معرض كتاب بيروت في ديسمبر المقبل، انتبهت إلي ذلك، ووسّعت أسلوب تفكيري، واستمتعت بكتابة الشارع. لكن، مع ذلك، أظنّ أن المساحة في الروايتين السابقتين كانت داخلية أكثر منها خارجية. الأفكار والأحاديث والمشاعر التي يعيشها المرء مع نفسه ومع نفس آخرٍ، تصح لكل مكان. أظن أنه يمكن للقارئ أن يتواصل مع أفكار قصة، حتي وهو يجهل الشارع الذي يقطن فيه بطلها. -لماذا يتم تغييب الخلفيات السياسية والطائفية للأبطال في كلا الروايتين؟ 7 غيّبت الخلفيات الطائفية عن سبق الإصرار والترصّد. أما الخلفيات السياسية فلم تتلاءم ومجري الروايتين. في الرواية الجديدة، تلوح بوادر سياسية. إلا أن بعض الإشارات في الروايتين، كأسماء العائلات، ومواقع العيش، قادرة علي الإيحاء الطائفي لمن يعرفه، وذلك كي لا تبدو القصة آتية من عالم غير ذاك الذي يعيشه الناس في بيروت. لكني، لم أرد أن أتعامل أكثر، مع هذا الواقع الخانق، لأنه خانق. فهو يفرض نفسه عليّ في العمل الصحافي، كونه يجتاح مساحة واسعة من حياة البلد العامة. هربت منه في الرواية. أردت لشخصياتي أن تكون حرّة، يتم التعامل معها بصفتها هويات خاصة، أشخاصاً، أفراداً، أبناء آدم وحواء، لا أبناء طائفة، تفرض عليهم ملامح محددة. -أحيانا تصفين رواية "سأرسم نجمة علي جبين فيينا" بأنها قصة، وأحيانا رواية قصيرة، إلي أي مدي يشغلك التنصيف، وما الوصف الذي تفضلين استخدامه عن فيينا؟ أظن أني أتردد دائماً في التسمية، لأن التصنيف ليس واضحاً في ذهني. كقارئة، لطالما اعتبرت القصة قصة، حدوتة تدعوني إلي عيشها. أظن أني، مع "فيينا"، لم أسمها رواية لأنها تجربتي الأولي وكنت قلقة جداً من كيفية تقبل الناس لها، فكنت أخشي أن أوقع نفسي في التسميات ذات القواعد. لم أعرف إذا كان يمكن تصنيفها كرواية أم لا، فهربت إلي تسميات اعتبرتها حيادية، وآمنة. أما في أثناء كتابة "حب بيروتي"، فكان الأستاذ إلياس خوري يحكي عنها بصفتها رواية. استخدم الكلمة كثيراً، حتي بدأت أقتنع بتسميتها كذلك، إن سئلت. ومع ذلك، بقيت مترددة. كانت مخيفة كلمة "رواية"، بالنسبة إليّ حينها. اليوم، لم أعد أتوقف كثيراً عند التسمية، كأني اقتنعت بأن كلمة "رواية" لا تخفي ادعاءً ولا تستوجب تقييماً محدداً. -في حب بيروتي، ورغم أنها قصة حب مختلفة عن قصص الحب المعتادة في الروايات العربية، ومنفتحة علي التجريب واكتشاف أبعاد جديد في معني العلاقة ومعني الحب ذاته، لكن نهاية الرواية تبدو وكأنها تحاول الاحتفاظ بالاكليشيهات الرومانسية للحب، فالبرغم من سعادة الإثنين بتجربة (العلاقة المفتوحة) فجأة تتحوّل البطلة بشكل دراماتيكي غير مبرر ويقرران الانفصال.. هل لديك تفسير؟ حاولت كثيراً أن تنجح علاقتهما، لكني لم أتمكن من الخروج بنهاية سعيدة لقصتهما. فكّرت كثيراً بأن بقاءهما سوياً ينتصر للحب الحر، علي حساب الحب المكرّس. لكن، بعد كتابة أكثر من نهاية لم تقنعني، قررت ألا ألزم نفسي وألزم ماجدة وأحمد بالنهاية التقدّمية علي حساب مشاعرهما. فهي لم تكن مرتاحة لعلاقته بكارمن. لم تعشها بخفة. عاشتها بغيرة. عاشتها بانعدام في الأمان. لماذا أفرض عليها أن تتقبلها، وهي لا تشعر بذلك؟ عندما جلست بهدوء أمام كومبيوتري، وطلبت من نفسي أن تكون صادقة مع ماجدة، خرجت بهذه النهاية. لم ينفصلا، ولم يلعنا التجربة، ولم يتبادلا الكره. وأظن أن في ذلك قدراً من التقدمية.