تركت القارئ في الاسبوع الماضي مع سؤال: كيف أصبح قانون القسم بيهودية الدولة الذي مرره الكنيسيت مؤخرا النقيض الكامل لمشروع زاند في كتابه (اختراع الشعب اليهودي)؟ والجواب هو أن تحويل العنصرية إلي قانون لا يلغي عنصريتها المقيتة، بل يزيدها وضوحا وفجاجة. وأن العنصرية كفلسفة ومنطلق محكوم عليها بالموت إن آجلا أو عاجلا، حتي ولو تبنتها دولة مسلحة حتي النواجذ. وأنها هي النقيض الكامل بالطبع لكل تفكير علمي سليم. فكتاب زاند ينهض علي الأساس العلمي الذي تقوم عليه الدول، حيث أنه ممتخصص في علم القوميات، ويريد لوطنه أن ينهض علي هذا الأساس العلمي وأن يتخلص من الخرافات الدينية الممجوجة التي لاتصمد لأي تمحيص تاريخي. فعنوان كتابة بالعبرية هو (متي وكيف تم اختراع الشعب اليهودي؟) يتتبع تلك الخرافة ويفكك مضمرات خطابها الذي لاينهض علي أي سند تاريخي أو علمي. ولكنه كأي صهيوني يريد أن يتسفيد من الوضع الراهن لتكريس دولة الاستيطان الصهيوني بالطريقة التي تضمن لها الاستمرار. لكن دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وخاصة في ظل حكومتها العنصرية الراهنة، تأبي إلا معاندة مشروعه الأكثر منطقية من مشروع ليبرمان البغيض. فعمر زاند المولود في النمسا لأسرة يهودية بولندية من الناجين من المحرقة، أكبر من عمر دولة الاستيطان الصهيوني بعامين. حيث ولد عام 1946، كما أن ثقافته ومعرفته التاريخية كأستاذ جامعي للتاريخ وابن أسرة مثقفة تتيح له قدرا أكبر من الموضوعية وبعد النظر، بالمقارنة بالسياسي الحالي حارس الملهي الليلي السابق ليبرمان. خاصة وأن زاند درس في رسالته للماجستير في فرنسا أعمال المنظر الفرنسي جورج سوريل الذي اشتهر بكتابه (تأملات في العنف) ونظّر لدور الأسطورة في حياة الشعوب. لهذا كان تفكيكه لتلك الأسطورة الخاصة بالشعب اليهودي بنت رغبته في أن يعيد تأسيس بلده علي أساس غير أسطوري، أي علي أساس منطقي وعلمي في آن. لكن كتابه جاء في وقت يعاني منه مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين من أزمة تتجلي أبرز مظاهرها في هذا التعصب اليميني العنصري المقيت الذي خسرت معه وبسببه تعاطف الغرب معها. لذلك كان العناد اليميني ضد مشروعه هو الذي أفرز قانون قسم الولاء ذاك. وهذا العناد هو في الواقع لحسن حظ الشعب الفلسطيني صاحب الحق الأول والأخير في أرض فلسطين، ولصالحه. فقد أخذت المقاطعة الغربية لدولة الاستيطان الصهيوني في التنامي، وأرصد هنا وفي انجلترا وحدها اعتذار مايك لي المؤلف والمخرج اليهودي الشهير عن زيارة كان يزمع القيام بها للدولة الصهيونية بسبب تمرير قانون قسم الولاء ذاك كما أعلن في تصريحه بإلغاء الزيارة. وها هو الموضوع الرئيسي في رواية الكاتب البريطاني هاوارد جاكوبسون (قضية فينكلر) الفائزة بجائزة البوكر الانجليزية هذا العام يتناول خجل اليهود من تصرفات الدولة الصهيونية، وما يعانونه من إشكاليات بسبب اضرارهم للإشاحة بوجههم عنها. فقد جعلت تلك التصرفات اليهود _ حسب جاكبسون- يخلون من يهوديتهم ذاتها، ناهيك عن ضرورة أن ينأوا بأنفسهم عن تلك الدولة التي تزعم أنها دولتهم، وبوليصة تأمين كل منهم ضد أي اضطهاد محتمل. وقد سبق أن كتبت عن تنامي المقاطعات الأكاديمية في الجامعات البريطانية لأي تعاون علمي مع جامعات الدولة الصهيونية، والآن تمتد نفس حركة المقاطعة إلي الحركة الفنية في كل من المسرح والسينما والغناء والموسيقي. وجاء اعتذار مايك لي ليكون آخر فصول تلك المقاطعات التي تكرس عزلة المشروع الصهيوني وافتقاره للموقف الأخلاقي الذي طالما تذرع به للحصول علي تأييد الغرب لتأسيسه دولة الاستيطان تلك في أرض فلسطين. لكن مفارقات الهوان الذي نعيشه في عالمنا العربي في هذا الزمن الردئ تأتي من أنه بينما يخسر المشروع الصهيوني كل رأسماله الأخلاقي، فإن أصحاب الحق الأخلاقي الأعلي من الفلسطينيين، يتخلون عن حقهم هذا طائعين في كل أطروحاتهم السقيمة التي تدور فيما يسمي بمحادثات السلام علي أيدي أبناء عربستان، التي أصبحت أوسلو ستان، أم تراها نفاقستان، وهوانستان. كما أن بقية أنظمة المؤسسة العربية العارية من المشروعية والمصداقية تدعم تلك الممارسات المضيعة لحقوقنا. فهل يمكن أن نكف عن شد أزر هذا المشروع الصهيوني البغيض بعد أن تكشف وجهه البشع للجميع وبدأ يلجأ لاستراتيجيات انتحارية، وهي حماية النفس بسن قوانين عنصرية تلغي بعنصريتها كل المزاعم التي استند إليها المشروع الصهيوني في بداياته التي استطاع بها خداع الغرب؟ وهل نستطيع أن نحافظ علي الموقف الأخلاقي الأعلي ونكتفي بمراقبته وهو يواصل حفر الحفرة التي سيدفن نفسه فيها؟ إنها مجرد أسئلة من متفائل تاريخي يعتقد بأن هذا المشروع مآله زوال.