أواصل هنا ما انتهيت إليه في الأسبوع الماضي أثناء تناولي لكتاب (اختراع الشعب اليهودي) من أن مبررات المشروع الصهيوني قد أخذت تتآكل من الداخل. لأن الباحث الصهيوني الذي يبدأ برغبة صهيونية خالصة في تطبيق مناهج نشوء القوميات الحديثة علي هذا المشروع، سرعان ما يكتشف تهاويه. فقد انطلق شلومو زاند (وقد اكتشفت حينما بحثت عنه في الويكيبيديا أن نطق اسمه الصحيح هو زاند وليس ساند كما يشير الهجاء الانجليزي، وكما كتبت في الأسبوع الماضي) منهجيا من إعداد دراسة تتناول ما يدعوه بينيديكت أندرسن بالمتخيل الوطني، وهو أحد المكونات الأساسية لفكرة القومية. حيث تنهض القومية عنده علي المتخيل الذي يصوغ عبره شعب لنفسه صورة يقتنع بها أفراده، في أنهم شعب واحد، عاش في بقعة جغرافية ومر بتواريخ مشتركة تجعله يشعر بالانتماء لهذا الوطن دون غيره، وتجعل كل فرد فيه يشعر بالتشابه مع الباقين دون غيرهم. وينهض هذا المتخيل عادة علي عوامل تاريخية وجغرافية وثقافية وحتي أثنية أو عرقية، وينحو دوما إلي تأكيد أبدية هذا الشعب ومد جذوره في التاريخ. فأن يقتنع المصريون بأنهم شعب عريق متجانس عاش في هذا المكان منذ آلاف السنين، برغم غزوات الغزاة، أو تغير التواريخ والديانات، أمر ضروري لتكوين متخيله الوطني أو ما يدعي في العلوم السياسية بالقومية المصرية. هذه هي فكرة أندرسن المنهجية باختصار مخل، ومنها انطلق زاند لتمحيص المتخيل الصهيوني ليجد أنه في صورته الحالية لا أساس له، وأنه ينهض علي فكر أسطوري لا يصمد لأن بحث أو تمحيص، وعلي خرافة «الشعب اليهودي» أو «شعب الله المختار» التي لايوجد لها أي سند تاريخي. لكن زاند لا يسعي بدراسته تلك إلي نقض الأساس الذي ينهض عليه المشروع الصهيوني بغية التخلص منه كما نريد نحن العرب. ولا يخطر بباله أن ينصف أصحاب الأرض التي أقام عليها الإشكناز الصهاينة مشروعهم الاستيطاني علي أساس مغلوط، وإنما لمرارة المفارقة إلي بلورة متخيل يتيح لهذا المشروع أن يستمر، ويحفظه من التآكل من الداخل. لذلك طرح أساسا بديلا يتغيا أساس الحفاظ علي المشروع الصهيوني بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها في رأيه اسنتقاذه من براثن تلك الأسس الخرافية العنصرية الواهية، وهو أن يكرس الدولة الليبرالية باعتبارها دولة ذات أغلبية يهودية راهنة، ولكنها تحترم حقوق من بها من الأقليات (يقصدالعرب)، كأي دولة ديموقراطية. وأن تتخلي عن هذا الأساس الأسطوري بما في ذلك التخلي عن قانون العودة الذي يتيح لكل يهودي أن يكتسب جنسية دولة الاستيطان الصهيوني، ما أن تطأ قدمه أرض فلسطين، لأنه وبدون التخلي عنه لايمكن لها بأي قدر من الإقناع أن تتخلص من حق اللاجئين الفلسطينين في العودة هم الآخرون، وهو الأمر الذي سيجهز علي يهودية الدولة إجهازا ديموجرافيا مبرما. ولأنه يبني اطروحته علي الأساس العلمي الوحيد الذي يضمن يهودية تلك الدولة، مستفيدا من الأمر الواقع الآن، حيث تسكنها أغلبية يهودية، فلم يخطر له علي بال، عندما كتب كتابه قبل عامين، أن عنصرية ليبرمان ستحيل الأساس العنصري الواهي الذي خصص كتابه لنقضه، لأنه يهدد المشروع الصهيوني برمته، إلي قانون يعرض تلك الدولة للمزيد من التآكل من الداخل. فحسابات حارس الملهي الليلي السابق في مولدافيا هي مجرد حسابات ضيقة الأفق. لاتأخذ في اعتبارها المدي الاستراتيجي البعيد الذي انطلق منه زاند في كتابه. فليبرمان، وجل أنصاره وناخبيه من المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق، يعانون من شك المؤسسة اليهودية المتشددة في يهوديتهم، ويتملصون من تلك المعاناة بتبني المزيد من الأفكار العنصرية التي يظهرون فيها أنهم ملكيون أكثر من الملك، دون وعي بأن تلك العنصرية تدق مساميرها في نعش المشروع الصهيوني. فهم متهمون بأنهم هاجروا لدولة الاستيطان الصهيوني واكتسبوا جنسيتها زورا، وما هم في حقيقة الأمر إلا مهاجرين اقتصاديين من فئران السفن الذين قفزوا من السفينة السوفييتية الموشكة علي الغرق، في هوجة الهجرة الجماعية التي مولها في الثمانينات الانجليزي الصهيوني ماكسويل بسخاء، يريدون تحسين وضعهم الاقتصادي، وأكبر دليل علي ذلك ليبرمان نفسه الذي تحسن وضعه من حارس ملهي ليلي، إلي وزير للخارجية وهو أمر مستحيل لو بقي في مولدافيا. وبدلا من التعرض لتلك العمليات المعقدة لإثبات يهوديتهم المكذوبة لجأ ليبرمان إلي ضرب عصفورين بحجر واحد بهذا القانون العنصري البغيض. فحتي يكتسب المهاجر السوفيتي المشكوك في يهوديته حق الجنسية عن جدارة ليس عليه إلا أن يقسم هذا القسم الجديد بيهودية الدولة، ويريح نفسه ويرتاح من إثبات أمر بالغ التعقيد هو يهوديته التي تنهض عليها جدارته بالجنسية.