Katibmisri @ yahoo. co. uk تابعت بكثير من الحزن والغضب الكظيم الأخبار المتتالية عن الجدل الدائر في دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين حول إصدار قانون يفرض علي الفلسطينيين، أبناء الأرض التي اغتصبوها، أن يقسموا بالولاء ليهودية الدولة. وكيف نجح وزير خارجيتهم العنصري أفيجدور ليبرمان المولود في مولدافيا والذي كان يعمل فيها حارسا لملهي ليلي، وهي الوظيفة التي تناط عادة بالبلطجية القادرين علي فض أي شغب يحدث بين السكاري من الرواد، في تمرير هذا القانون. وبعد هجرة أسرته إلي فلسطينالمحتلة في أواخر السبعينات، مع صفقات تهجير يهود الاتحاد السوفييتي المشبوهة، عمل بعد خدمته كجندي في سلاح المدفعية، في المهنة الوحيدة التي يجيدها، حارسا للملهي الليلي لطلاب الجامعة العبرية، أثناء دراسته بها وهو في الثلاثينات من عمره. لكن تعصبه العنصري، وتتلمذه علي يد نتانياهو الذي عمل في مكتبه بعد تخرجه من الجامعة، قاداه لتأسيس حزب جمع فيه شتات المهاجرين الروس من أمثاله، وفرض نفسه وأفكاره العنصرية الفجة علي الواقع السياسي في دولة الاستيطان الصهيوني، حتي أصبح كما نعرف وزيرا للخارجية فيها. وها هي أولي ثمار أفكاره العنصرية تتحول إلي قانون نجح في فرضه علي الحكومة التي اصدرته، وقدمته بالفعل للبرلمان للتصديق عليه. والغريب، بل المهين أن هذا كله يدور وسط صمت عربي مريب ومشبوه، يصيب المتابع العربي بالغم والكآبة. لكن العزاء الوحيد في هذا المجال لا يأتي من أي تحرك عربي، رسمي أو شعبي، وإنما من عمل ثقافي بسيط يتمثل في الترجمة العربية التي صدرت مؤخرا عن المركز الفلسطيني للدراسات "مدار" لكتاب (اختراع الشعب اليهودي The Invention of the Jewish People)، من تأليف شلومو ساند Shlomo Sand، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب. ويعتبر هذا الكتاب الذي صدر بالعبرية عم 2008 ثم بالانجليزية قبل أقل من عام، وأثار الكثير من اللغط داخل بلده وخارجها، مما أدي لاتهامه بتهمة معاداة السامية حينما توجه ليهودي، وهي أنه كاره لنفسه ولبلده، من أهم الردود العلمية الرصينة علي تخرصات ليبرمان الجاهلة، وقوانين حكومته الاستعمارية المنتشية بغطرسة قوتها، أم أقول بضعفنا وتخاذلنا المهين. ففي مواجهة واضحة مع التصور »شعب بلا وطن، لأرض بلاشعب« الذي ينهض عليه الأساس الفكري لمشروع الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين، يتجنب ساند المحاججة الفلسطينية أو العربية التقليدية بأن الأرض الفلسطينية لم تكن أبدا أرضا بلاشعب، ويقيم بحثه العلمي علي سؤال يطرحه علي النصف الأول من المغالطة الصهيونية: »شعب بلا وطن«. ويضع مجموعة من العلوم من علم الآثار وعلم التاريخ، والعلوم السياسية حول نشأة القوميات، في مواجهة الخرافة وشعوذات الأساطير الدينية كي يثبت أن هذا الشعب نفسه ليس إلا خرافة أخري اخترعها الصهاينة كي يبرروا مشروعهم الاستعماري الاستيطاني لأرض فلسطين. حيث يبدد بأسانيد تاريخية مفحمة خرافة وجود ما يسمي ب»الشعب اليهودي« الذي عاد إلي دولته، ويفرض الآن لسخرية الأقدار علي أبناء الأرض التي اغتصبها وأقام عليها مستعمرته الاستيطانية أن يقسموا قسم الولاء ليهوديتها. ويعد هذا الكتاب واحدًا من أكثر الدراسات المثيرة إن لم يكن الأكثر إثارة في تاريخ اليهود. حيث ينبش ساند الوثائق والتواريخ التي تمتد لآلاف السنوات. ويثبت بما لايدع مجالا للشك أن اليهود الذين يعيشون اليوم سواء في دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، أو في أماكن أخري من العالم ليسوا علي الإطلاق أحفاد »الشعب العتيق« الذي عاش في "مملكة يهودا والسامرة" إبان فترة "الهيكل الثاني". ويقوض الكتاب بالبراهين والأسانيد التاريخية الأساس النظري الذي تنهض عليه خرافة »شعب الله المختار« الذي أمضي آلاف السنين في الشتات ثم عاد. ليكشف لنا عن أن الذين نظموا هذا المشروع الاستيطاني الاستعماري البغيض هم حفنة ممن تعود أصولهم إلي شعوب متعددة اعتنقت اليهودية علي مرّ التاريخ في أماكن شتي من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة. وما يميز هذا الكتاب عن غيره من الكتب التي تقوض خرافة الحق الديني في »أرض الميعاد« التي لايعرف أحد بأي قدر من الدقة العلمية مكانها بالضبط، أنه لا يكتفي بتقويض مسلمات التاريخ الصهيوني فحسب، وإنما يهدم أيضا ومن خلال التمحيص العلمي الدقيق الأساس الذي تعتمد فيه الصهيونية علي يهود ما يسمي بالعالم القديم. حيث يثبت أن يهود اليمن مثلا لا علاقة لهم بيهود العهد القديم، وإنما هم بقايا مملكة حمير في شبه الجزيرة العربية التي اعتنقت اليهودية في القرن الرابع الميلادي، لذلك لا فرق بينهم، من حيث افتقارهم للنقاء اليهودي المزعوم، وبين يهود أوروبا الشرقية الإشكنازيين، وهم من بقايا مملكة الخزر البربرية التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي. لقد نجح ساند في كتابه هذا في إثبات أن ما يسمي بالشعب اليهودي ليس إلا خرافة تاريخية لاتصمد لأي تمحيص علمي دقيق، كما كشف عن أن هناك ميراثا كاملا من المؤرخين الصهاينة الذين لا تصمد دراستهم لأي تمحيص علمي دقيق وأن دراساتهم التاريخية التي يستند عليها المشروع الصهيوني برمته ليس لها أي أساس علمي، وإنما هي تخليط أيديولوجي خالص.