«لا يشترط الخبرة».. الشباب والرياضة تعلن وظائف خالية جديدة لجميع المؤهلات (تفاصيل)    من غير مشاوير.. كيفية تحويل الأموال في بنك مصر «أون لاين»    تعرف على إجراءات التسجيل الضريبي.. خطوات بسيطة    خبير اقتصادي: «حياة كريمة» مشروع متكامل لتطوير معيشة الإنسان المصري    إسرائيل تعلن قائمة قادة اغتالتهم في حزب الله و«إغاثة لبنان» يرفع راية الصمود والتحدي| عاجل    أكاديمية الشرطة تستقبل وفدا من أعضاء الهيئات الدبلوماسية بمجلس السلم والأمن    غارات جوية وتوغل عسكرى بري.. الاحتلال الإسرائيلي يواصل تصعيده في لبنان    يقود مرانه الأول السبت.. حمد إبراهيم مديراً فنياً للإسماعيلي رسمياً    ضبط 3 متهمين بغسل 60 مليون جنيه حصيلة القرصنة على القنوات الفضائية    حالة الطقس الفترة المقبلة.. تراجع درجات الحرارة وشبورة مائية في عدة مناطق    الرئيس السيسي يضع إكليلا من الزهور على قبر الزعيم الراحل محمد أنور السادات    «منظومة الشكاوى» تكشف عن الوزارات والمحافظات صاحبة النصيب الأكبر من الشكاوى    باحث سياسي: إسرائيل تحاول إعادة صياغة شكل المنطقة بالتصعيد المستمر    وزير التعليم العالي: لدينا 20 جامعة أهلية تتضمن 200 كلية و410 من البرامج البينية    محافظ الغربية ووزير الرياضة يفتتحان ملعب الأكريليك وحمام السباحة بمركز شباب كفر الزيات    إطلاق حملة لصيانة وتركيب كشافات الإنارة ب«الطاحونة» في أسيوط    موشيه ديان يروى شهادته على حرب 73: مواقعنا الحصينة تحولت إلى فخاخ لجنودنا.. خسرنا كثيرا من الرجال ومواقع غالية    إخماد حريق بشقة سكنية في شارع التحرير بالإسكندرية    «الداخلية»: تحرير 534 مخالفة عدم ارتداء الخوذة وسحب 1229 رخصة بسبب الملصق الإلكتروني    عامل يطعن شقيق زوجته ب«مطواة» بسبب خلافات النسب في سوهاج    غدا.. مسرح الهناجر يحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر    انطلاق فعاليات مهرجان الموسيقى العربية ال32 بأوبرا الإسكندرية 11 أكتوبر (تفاصيل)    ابنة علاء مرسي تحتفل بحنتها على طريقة فيفي عبده في «حزمني يا» (صور)    في حوار من القلب.. الكاتب الصحفي عادل حمودة: "أسرار جديدة عن أحمد زكي"    3 دعامات في القلب.. تفاصيل الأزمة الصحية المفاجئة لنشوى مصطفى    ترشيدًا لاستهلاك الكهرباء.. تحرير 159 مخالفة للمحال التجارية خلال 24 ساعة    الكنيسة القبطية مهنئة السيسي والشعب بذكرى نصر أكتوبر: صفحة مضيئة في تاريخ الأمة    تدشين مشروع رأس الحكمة انطلاقة قوية للاقتصاد المصري    فرد الأمن بواقعة أمام عاشور: ذهبت للأهلي لعقد الصلح.. واللاعب تكبر ولم يحضر (فيديو)    كلاتنبرج: لم يُطلب مني محاباة الأهلي والزمالك تحكيميا .. وحدوث هذا الأمر كارثي    فانتازي يلا كورة.. زيادة جديدة في سعر هالاند.. وانخفاض قيمة 23 لاعباً    صبحي يصل محافظة الغربية لافتتاح مشروعات رياضية وشبابية    تخفيضات 10%.. بشرى سارة من التموين بشأن أسعار السلع بمناسبة ذكرى أكتوبر    تعرضت لذبحة صدرية.. الحالة الصحية ل نشوى مصطفى بعد دخولها المستشفى    رئيس جامعة الأزهر: الله أعطى سيدنا النبي اسمين من أسمائه الحسنى    فضل الصلاة على النبي محمد وأهميتها    وزير البترول يناقش مع رئيس شركة توتال توسع أنشطتها الاستكشافية بمصر    الولايات المتحدة تضرب 15 هدفًا للحوثيين في اليمن    للتغلب على التحديات.. «الصحة» تبحث وضع حلول سريعة لتوافر الأدوية    بعد إصابة نشوى مصطفى- هكذا يمكنك الوقاية من الذبحة صدرية    إحالة المتهمين بسرقة وقتل سائق توك توك في المطرية للجنايات    تقرير أمريكي: السنوار اتخذ مواقف أكثر تشددا.. وحماس لا ترغب في المفاوضات    إنتر ميلان يواجه تورينو اليوم في الدوري الإيطالي    شاهندة المغربي: استمتعت بأول قمة للسيدات.. وأتمنى قيادة مباراة الأهلي والزمالك للرجال    «تنمية المشروعات» يضخ 2.5 مليار جنيه تمويلات لسيناء ومدن القناة خلال 10 سنوات    طريقة عمل الكرواسون بالشيكولاتة، الوصفة الأصلية    "ثقافة مطروح " تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر    تعديل تركيب قطارات الوجه البحري: تحسينات جديدة لخدمة الركاب    وزير التربية والتعليم يهنئ معلمي مصر بمناسبة اليوم العالمي للمعلم    قوات الاحتلال تعتقل 4 فلسطينيين من الخليل بالضفة الغربية    إشراقة شمس يوم جديد بكفر الشيخ.. اللهم عافنا واعف عنا وأحسن خاتمتنا.. فيديو    برج القوس.. حظك اليوم السبت 5 أكتوبر: اكتشف نفسك    ميدو: أكبر غلطة عملها الأهلي هي دي.. والجمهور حقه يقلق (فيديو)    "إسلام وسيف وميشيل" أفضل 3 مواهب فى الأسبوع الخامس من كاستنج.. فيديو    "حزب الله" يكشف قصة صور طلبها نتنياهو كلفت إسرائيل عشرات من نخبة جنودها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 5-10-2024 في محافظة البحيرة    ندى أمين: هدفنا في قمة المستقبل تسليط الضوء على دور الشباب    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من دمشق إلي لايبزغ:
معانقة خطوط الحياة
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 03 - 2010

حين جئت إلي مدينة لايبزغ كنت في الخامسة والعشرين من العمر. في هذه السنة أدخل عامي السبعين. المدن التي يعيش المرء فيها كل هذه السنوات شبيهة بالسيرة الذاتية. الإثنتان، السيرة الذاتية والمدينة، تتداخلان وتتمازجان إلي حد التماهي. ولن يستطع المرء عندئذ أن يعفي نفسه من الانتماء لا لهذه ولا لتلك. سيرتي الذاتية كونت سماتها مدينتان تمازجتا معها كذلك إلي حد التماهي: دمشق ولايبزغ. هذه العلاقة الحميمة كان لابد أن تجد تعبيراً لها في القصيدة والمقال والحوار.
بعد الوحدة الألمانية علي وجه الخصوص كنت أًسأل باستمرار في الأمسيات التي أقمتها في مختلف مدن العالم، سواء في ميونخ أو هامبورغ، نيويورك أو تورونتو، هلسنكي أو لشبونة، القاهرة أو دمشق، لماذا ذهبت إلي لايبزغ ولماذا بقيت فيها. حتي أن سيدة قالت لزوجتي ذات مرة بعد أمسية لي في مدينة شتوتغارد بنبرة تطفح بالشفقة: "يالك من مسكينة. لقد اضطررت للعيش أربعين عاماً في ألمانيا الشرقية بلا جدوي". بلا جدوي؟ كيف؟ أليست الحياة بحد ذاتها، كل حياة، ثمينة بما فيه الكفاية، بحيث لايعيش أحد، مهما كان شأنه، بلا جدوي، سواء أكان يتربع علي قمة جبل الحضارة أو يصطاد بنفسه ما يأكله في أكثر الغابات بدائية. كل ما في الأمر أنه يتم الخلط لدي التحولات الكبيرة في التاريخ بين الإنسان كفرد وبين أنظمة السلطات البائدة، وفتح الأبواب علي مصاريعها للتعميمات المجحفة. كان علي الناس في غرب ألمانيا وفي شرقها علي حد سواء أن يسرد أحدهم للآخر سيرته الذاتية دون تشنج وبلا أحكام مسبقة. لعل مسيرة تحقيق الوحدة الألمانية وصياغة معالمها كانت ستتم بشكل أفضل مما تمت عليه.

في مقدمته لمجموعتي الشعرية "لو لم تكن دمشق" كتب هاينس تشيخوفسكي.."إن السير الذاتية للشعراء تختبئ بين أبيات قصائدهم. صفحات كتبهم شبيهة بتلك الجلود التي كانت تستخدم في القرون الوسطي للكتابة عليها عدة مرات: قصائد جديدة تكتب فوق القصائد القديمة". تحت أحرف نصوصي الجديدة تظهر كذلك مع مرور الزمن ومن حين لحين الحروف القديمة. هذه النصوص المكتوبة فوق بعضها البعض، والتي سأحاول اليوم أن أتأمل من خلالها في علاقتي بمدينة لايبزغ، تختلط وتتمازج وتتكامل. ولعلها تصبح بذلك صالحة للقراءة مجدداً بشكل مغاير.
من القصائد الأولي التي كتبتها عام 1965 باللغة الألمانية قصيدة "لو لم تكن دمشق":
أمام نافذتي/ شجرة تسكنها عصافير/ تعرفني جيداً وتحييني بألفة في الصباح/ حين أجلس خلف طاولتي/ متمتعاً بنصاعة الثلج الأبيض الهش/ ومتدثراً بالدفء/... وجوه كثيرة تطل بود علي يومي/ أليفة كتحية العصافير/ ولو لم تكوني يادمشق/ يامدينتي الوحشية الرقيقة/ ياملحاً علي الجبين/وياوردة في القلب/ أواه/ لو لم تكوني.
بعد عشرين سنة من كتابة هذه القصيدة منحتني مدينة لايبزغ عام 1985 جائزتها الأدبية. بدأت كلمة الشكر التي ألقيتها آنذاك في قاعة الإحتفالات العريقة لمبني البلدية الأثري بالقول: "قبل فترة وجيزة عرض علي رئيس تحرير مجلة تصدر بالعربية في مدينة درسدن عملاً مغرياً في المجلة. غير أنني رفضت العرض قائلاً إنه لم يعد في مقدوري أن أهاجر ثانية. وإن كان لابد لي أن أهاجر مرة أخري، فلن يكون ذلك إلا إلي دمشق". في الختام قرأت قصيدة تحمل عنوان مجموعتي "وطن في الغربة" التي كانت قد صدرت قبل تلقي الجائزة بعام واحد. تنتهي القصيدة بالأبيات التالية:
"بلداي وأنا/ قرننا لا ينفصما/ حتي يفرقنا الموت/ والآن أنا هنا/ بينكم/ معكم/ولن أدع نفسي وشأنها/ ولن أدعكم/ في هذا البلد/ هنا/ إلي حيث أتيت/ توشح جبيني أحلام خضراء".
أكان ذلك إقرار واعترافاً بانتماء ما؟ نعم كان كذلك، رغم احتواء تلك القصيدة كذلك علي أبيات كهذه:
لست هنا كي أصارع كل يوم/ وأنا منقطع الأنفاس/ درع هذا الهواء الذي لايخترقه رصاص/ في هذه المدينة/ دون أن أستطيع مد جذوري/ لأبعد من المسافة بين قريتين/ .. ولست هنا كي أحتسي كل حساء يقدم إليّ/ بسحنة غاضبة وأنا ألعن وأشتم/ بالسر في أفضل الأحوال/..أأنا ميشائيل كولهاز من أعلن ثورة من أجل حصانين/ أأجرح حنجرتي هذه صارخاً/ في وجه طواحين هواء/ وأعينٍ صماء خرساء".
نعم إنه اعتراف بانتماء انطلق من التطلع ومن الحلم، تماماً كما هو اليوم، لا مما كان متحققاً (أو هو متحقق اليوم) علي أرض الواقع. اعتراف بالإنتماء إلي مكان، إلي مدينة، إلي مرحلة من سيرة ذاتية فيها ما في كل سيرة أخري من تناقضات ومتغيرات وتحولات. وأنا أعترف بكل أخطائي، كما قال بريشت مرة، وأعد نفسي لارتكاب الخطأ التالي.
رغم أن بعضاً من أحلامي الخضراء التي كانت توشح جبيني حين جئت إلي هنا تحول في الثمانينات أحياناً إلي كوابيس، ورغم أن القصائد التي كنت أكتبتها آنذاك دون أن أنشرها تحولت إلي نوع من المناجاة مع الذات، إذ لم أعد أعطي الكتابة سوي وظيفة واحدة هي "المعالجة النفسية للذات"، فأنا لا أستطيع أن أتجاهل أن كلمة التضامن كان كثيرون وكثيرون جداً ممن كنت أعيش بينهم يأخذونها علي محمل الجد. وأنا لا أستطيع حتي يومنا هذا أن أنكر بضمير مرتاح اعتزازي بمنحي جائزة مدينة لايبزغ تلك. وكيف لي أن أفعل ذلك وأنا أعرف أن شاعراً مثل جورج ماورر كان قد حصل عليها قبلي. ماورر، ذلك الإنساني العظيم، أستاذي في معهد الأدب، الذي تعلمت منه الكثير، والذي فتح لي ولزملائي من الشعراء الشبان في تلك الفترة أبواب الحداثة.

بعد أربع سنوات من ذلك، وحين ألقي كورت مازور (قائد الأوركسترا العظيم)، الذي كان يجلس لدي تسلمي للجائزة في الصف الأول، وكان من أوائل من شدوا علي يدي مهنئين، نداءه الشهير في ساحة كارل ماركس داعياً عشرات الآلاف من المتظاهرين لتجنب العنف، كنت أقف علي درج الأوبرا وأراقب ذاك البحر الصامت من البشر والمتوتر إلي أبعد حدود التوتر. ثم سمعت من كانوا يهتفون: "نحن الشعب، ونريد أن نخرج من هذا البلد". ولم ألبث أن رفعت صوتي بعد ذلك مع من ردوا علي أولئك هاتفين: " نحن الشعب، وسنبقي هنا".
كتب الروائي فيرنر هايدوشيك في دراسته البالغة الحساسية والعمق والتي لم ينشرها إلا بعد الوحدة الألمانية: "هكذا تكلم عبدالله أو الآلام الآنية للسيد ق. الجديد": "أعترف أنني متأثر بالغ التأثر بهذه الرغبة العارمة في هذا التأقلم هنا. وإن كنت قد نفيت فيما سبق فكرة إمكانية القران ببلدين بشكل قاطع، فأنا اليوم لم أعد متأكداً من صحة هذا النفي. فلربما تمكنت روح إنسان من الإتساع بحيث تستطيع أن تعانق خطوط الطول دون أن تمزق نفسها بنفسها. ولعل الأمر يتعلق هنا بمدي عمق المحبة". هايدوشيك لايستخدم هنا بحكمته المعهودة كلمة المعايشة، بل المحبة. ولكن هل يتعلق الأمر حقاً بعمق المحبة فقط؟ ألا يكون الأمر أحياناً كذلك موقفاً يختلط فيه العناد، بنوع من حماية الذات، ومن الطموح يلجأ إليه الغريب، أو علي الأحري يضطر للجوء إليه، حين يكون راغباً في عناق خطوط الطول، بينما يُذكّره الآخرون باستمرار علي أنه سيبقي غريباً مهما فعل. ألا تصبح هذه المحبة، إذا لم تقابل بمحبة مماثلة، أكثر فتكاً بالروح كلما كانت أكثر عمقاً. ونحن نعرف أننا لسنا غرباء إلا بمقدار ما يرينا الآخرون أننا كذلك. "ماذا يجدي أن أقول للفتي، الذي يصرخ في وجه روحي "أخرجوا من هنا أيها الأجانب"، إنني عشت في هذه المدينة أكثر مما عاش هو فيها، بل ولعلني أعرف بعض من يدعي ملكيته لهم أمثال غوتيه وهاينه، وهيجل وباخ، وغيرهم أكثر منه بقليل. مع ذلك يواصل صراخه في الوقت الذي أختلق أنا له المبررات كي لا أصاب بالجنون: إنه لايعرف ماينبغي له أن يعرف، أقول. ولعله ضيق الأفق، أقول. أو لعله عاطل عن العمل، أو متأثر بما يراه من برامج تلفزيونية لاتتوخي سوي الإثارة لرفع منسوب جمهورها ونشر الأحكام المسبقة وإذكاء نيرانها".
هذا ما كتبته عام 1991 في "الرابسوديا الرمادية".
واليوم؟ ماذا أقول للموظف الشاب المهذب في المطار، الذي يختارني من بين كل الركاب ليفتش جسدي، ويريني بذلك أن لون بشرتي وربما اسمي وحدهما كافيان لأن يشتبه المرء بهما وبي؟ وماذا أقول لأولئك الذين يستغلون حرية تعبيرهم الثمينة بشكل انتقائي وغير مسؤؤل لنشر صور كاريكاتورية مسيئة لحضارة برمتها كي يستفزوا ردات فعل مماثلة مسيئة. يخيل لي أن كل طرف من علي الجانبين في خنادق التطرف يرمي الكرة للطرف الآخر.
أعترف أنه صعب علي في باديء الأمر أن أتحدث في هذا الجو المتوتر عن الأمل وأن أدفع بهذا النص إلي النشر. غير أنني قلت لنفسي: بل لابد أن أفعل هذا الآن بالذات ولأن الجو علي هذا التوتر. كلا، لست علي استعداد لأن أتخلي عن الحلم في عناق خطوط الطول. علي أقل تقدير داخل الذات. "الأزمنة المظلمة"، التي تحدث عنها بريشت، وُجدت دائماً في كل الأمكنة وكل الأزمنة وستبقي كذلك علي الدوام. كل ما في الأمر أن شدة هذه الظلمة أو تلك وزاوية النظر التي يعيشها الفرد من خلالها هي التي تختلف. ولسوف "يتم الحديث عن الأشجار" باستمرار في كل الأمكنة وكل الأزمنة، دون أن يعتبر هذا "شبه جريمة".

قلت ذات مرة "إنني لم أعد أتصور الحياة دون لايبزغ رغم رائحة هوائها الكريهه ورغم بيوتها المتآكلة، فالمرأة الساكسونية التي اصطادتني بشعرها الأشقر ذات دهر، لم تزل تأسرني في هذه المدينة. وكذلك الإبتسامة اليانعة علي شفتي حفيدتنا لينا، التي تتقن الرقص الشرقي وهي لم تتجاوز الثماني سنوات من عمرها كما لو كان جسدها يتحرك في أعرق حارة شامية، دون أن تتمكن من إخفاء لهجتها الساكسونية(...) وثمة أصدقاء، وأمكنة، وذكريات(...) إن مدينة تربط المرء إليها وشائج كهذه ليست قطاراً يمكننا أن نقفز منه بكل بساطة في محطة ما وينتهي الأمر. هذه المدينة ستبقي ماثلة في نسيج الذات، حتي ولو عدت إلي موطني.
موطني؟ ماهو؟ طالما أنا هنا، فإن هذه المدينة هي موطني، حتي ولو كان هذا الموطن في غربة. أنا أستخدم دائماً لفظة "موطن" حتي لا أقول "الوطن"، رغم أنني لم أعد أعرف تماماً ماهو الوطن وما هو الموطن. البيوت. الشوارع. الجبال. المروج. الغابات. رائحة الهواء. كلها ليست الوطن ولا الموطن، وهي كلاهما في الوقت نفسه. ولكن الناس، والذكريات، ولحظات الهدوء والراحة والفرح، وقبل كل هذا وذاك أن يتملكك إحساس ما بأن ثمة حاجة إليك وصدراً يشدك إليه، هذا هو الشيء الذي نطلق عليه اسم الوطن أو الموطن أو أي اسم آخر.."
كان هذا ما قلته في كلمة الشكر التي ألقيتها عام 1992 في الأكاديمية البافارية لدي تسلمي جائزة شاميسو. أما اليوم فإن الثلج أصبح أكثر نصاعة بقليل أمام بيتنا. وأصبح عمر حفيدتي التي كانت في الثامنة من عمرها إحدي وعشرين سنة، وهي تدرس اليوم القانون في فرنسا. أمها سلمي تعمل في البرلمان الألماني ببرلين. جد والدي هاجر من قرية كردية في جنوب تركيا إلي دمشق وكون فيها سلالة كبيرة. ابننا، الذي أهدانا ثلاثة أحفاد يحمل اسم جده سليمان، وهو كردي الأصل، ولكنه ولد ونشأ في دمشق وكان دمشقياً أصيلاً. ابن ابني يحمل اسماً مزدوجاً: هو عادل- فالك، وهما اسما جديه العربي والألماني. ماهو الاسم الذي سيسمي هو ياتري ابنته به أو الاسم الذي ستطلقه حفيدتنا يوماً علي ولدها! علم هذا لم يزل في السماء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.