تثير (أدبياتُ الطفلِ المغربي) إشكاليةً في غاية التعقيد، فبينما نلْحَظ كُتابا يبحثون في هذه الموضوعة الشائكة، ويستدلُّون بنصوص من التاريخ، علي عناية المبدعين المغاربة بأدب الطفولة، يُلغي آخرون كلَّ النتاجات السابقة، بِحُجّة أن ما تراكم في مكتباتنا لا يعْكِس النشاطَ الإبداعي الحرَّ، الذي يُراعي مُيول الطفل ومَداركَه، ويُلبِّي آماله وحاجاتِه الذاتية، وطموحاتِه في مجالات متنوعة، وأن ما يُعتبر أدبا طفليا، يَخْلو من خصائص الطفولة، ومكوناتِها النفسية الفكرية، ليس إلا (أدبا للكبار) أُرْغم (الصغارُ) علي تَلَقيه.كمثال، يستشهدون بالأدب الشعبي (الخرافات، الأحاجي، الألغاز، الأمثال...) التي تَحْكيها الأمهات لأولادهن، والْجَدات لأحفادهن. ثانيا، بالْمَواسم والْمُناسبات والحفلات التي تشهد ألوانا من من الغناء والتمثيل، كذكري عاشوراء، وسلطان الطلبة...ثالثا، بالأدب الفصيح، إذ لا يَخْفي أن الكتاتيب والمدارس والمعاهد، تنتقي لصغارها من (أدب الكبار) مقطوعاتٍ شعريةً...! ويلاحظ أن الفن الشعري يستحوذ علي ما يُمْكن أن يعتبر أدبا فصيحا للطفل المغربي، كما يُلْغي آخرون، (عبثا) الْمُحاولاتِ الشعريةَ الأولي للشاعر علال الفاسي، لكَونِها نتاجاتٍ تعليميةً، ترتبط أساسا، بالمنهج الدراسي، وأن الحاجة التعليمية إلي أناشيدَ ومقطوعاتٍ شعريةٍ، هي العامل الرئيسي من نظمها. وعلي الرغم مِمّا تطرحه هذه المسألة من إشكاليات، فإن علال الفاسي، يُعدُّ الرائدَ في عالم الكتابة الشعرية للطفل، سواء في فن المقطوعة أوالنشيد أو الحكاية الشعرية، أوالترّجمة. وهذا الغِني الفني يدل علي شخصية الشاعر وعبقريته. ومِمّا لا شك فيه أن الطفل المغربي، كسائر أطفال العالمين العربي والغربي، أدرك لونين من الأدب، تفاعلا معا في تكوينه: الشعبي والفصيح. ونستطيع أن نعثر علي جذورهما في الكتب التي خلّفها الرومان "المزدهرات" و"المسخيات" في "أنباء نجباء الأبناء" لابن ظفر الصقلي. وفي عصر الموحدين، نقرأ علي الخليفة عبد المؤمن، أنه كان ينشر كتب (الفروسية) و(المغامرات والمخاطرات) ل"الأزلية" و"العنترية" ويدعو إلي تلقينها للصغار، كما نقرأ أن المربين كانوا يلقنون صغارهم قصصا فلسفية تجذر الشعور الديني، كقصة "حي بن يقظان" لابن طفيل. ونجد قصصا مقامية، تتخذ لها بطلا، يحكي أحداثا خيالية، لا تتقمصها شخصية حقيقية، منها "الإكليل في تفضيل النخيل" لأبي الحسن علي، "العيد" لان المرابع الأزدي، "وادي فاس" لابن إدريس، "العبقري" لحمدون بن الحاج، "السميرة" لابن محمد عبد المهيمن، "في الحجاز" لمحمد الكلاتي، "المحب والحجام" لابن الطيب العلمي، "المقامة التقريعية" للطيب عواد.. فضلا عن قصص دينية، تُعني بالمعجزات، وما حصل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين، منها "حياة الرسل" و"يوم الحساب" لمحمد بن زيدان. وقصص اجتماعية، تباشر العادات والتقاليد المغربية والعربية، كقصة أبي الحكم السبتي، التي أوردها ابن الخطيب في "الإحاطة". وتعتبر القصص الشعبية، اللون الحكائي الذي نال حظا أكثر، لأنه كان يُلقي ويشخص في الحلقات. ونذكر علي سبيل المثال : نوادر جحا الفاسي وجحا المراكشي، وقصص الهلالين، الذين كتب عنهم عبد الرحمان بن خلدون في "المقدمة". إن القيمة التربوية لهذه النتاجات الحكائية، هي (تهذيب وتأديب) الطفل، وتخويفه بحضور (الأشباح، الجن، الغيلان) أي (القوي الغيبية)!..ونخلص إلي أن هذه الآثار الشعبية، بتوظيفها الغيبيات، تنفي سلطة العقل والفكر والقانون، سلطة الواقع والحقيقة والمجتمع، وتؤسطر الأحداث والأفعال..! يمكننا أن نعزز هذا اللون القصصي، بأنماط من الألعاب، التي لم تكن تنحصر في الترفيه والتسلية وملء الفراغات فقط، كما يخال البعض، أو أن هذه الألعاب مجال يسنح لتفجير الطاقات الكامنة في الطفل، بل إن لها دورا هاما أكبر مما نتصور؛ يتجلي في عملية التقليد، المحاكاة، التقمص.. فكأن هذا الطفل بمحاكاته للآخر، يهيئ نفسه لتحمل أعباء الحياة. وإذا كانت أدبيات الطفل، تتميز عن أدبيات الكبير، بخصائصها السيكولوجية والفكرية والاجتماعية، فإن النتاجات الأدبية والثقافية العامة تشكل أرضية خصبة، وتُغني الكتابة للطفل. وأية دراسة تحليلية لهذه المسألة تؤيد هذا الرأي؛ فالعديد من الآثار الإبداعية التي لم تنجز أصلا- للطفل، أقبل عليها لما تزخر به من جاذبية، سواء في قضاياها الفكرية أو في أشكالها التعبيرية الفنية، نذكر منها كليلة ودمنة، ألف ليلة وليلة، قصص العرب، المقامات، رحلة ابن بطوطة، الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية. وهذا الحقل الأخير يثير جدالا بين الكتاب والمربين. وفي نظري الشخصي، ينبغي أن نغربل ونعدل هذا النمط القصصي بإسقاط العناصر المرعبة، المرهبة، المغرقة في الخرافة والتهويل! لقد باشرنا ألوانا من الأدب الشعبي المغربي، الذي كان يعتبر الرافد الأساسي لشخصية الطفل. وهنا يتبادر السؤال التالي: هل كان لهذا الأدب الشعبي دور في تشييد الأسس الأولي لأدب الطفولة الفصيح ؟ إن السؤال يعني ضمنيا أن هناك تأثيرا بينا؛ فعلي شاكلة (الخرافات) التي نظمها (لافونتين) وترجمها أحمد شوقي، كتب علال الفاسي في فبراير 1939 عشرين نصار شعريا بعنوان "أساطير مغربية ومعربة" حلل فيها أمثالا مغربية، منها "الرجل وولده وحمارهما"، ولا ينبغي أن نغفل الدراسات المقارنة، التي أثبتت أن لافونتين ودانتي من قبل، تأثرا بالأدب العربي، وظهر هذا جليا في كتابتهما الشعرية والنثرية. وهكذا يظهر أن بدايات أدب الطفولة المغربي، كانت شعرية، تستغل الجنس الشعري، سواء في (الأمثال) أو (الأساطير). وسيبرز هذا التوجه في (المقطوعات) و(الأناشيد الوطنية) و(أناشيد الكشافة). ف (المدرسة الناصرية) التي أنشأها الوطنيون الغيورون عن لغتهم العربية، والثقافة الوطنية، والقيم الإنسانية العليا..كانت الحافز القوي علي الكتابة الشعرية والقصصية والمسرحية، الخاصة بالطفولة، باثة من خلالها النضال الوطني، والتحرر الفكري من القيود الخرافية التي كان المستعمر يشجعها بين المواطنين، ويكرسها بوسائله الإغرائية المختلفة ليخنق أنفاسهم، وبالتالي، يسهل عليه القضاء علي هويتهم العربية!..فالتراثيات ذ في وضوء هذا التحليل- تعتبر المنهل الثر لفكر وخيال الطفل المغربي آنذاك. وسيختفي هذا الرافد، حينما تنفتح ساحتنا الثقافية والسياسية علي الشرق العربي، فتفد علينا نماذج من مجلات الأطفال، كمجلة "سندباد مجلة الأولاد في جميع البلاد" لمحمد سعيد العريان، وإن كنا عرفنا هذا اللون من الصحافة الطفلية، ففي سنة 1941 أصدر عبد الغني التازي مجلة (متواضعة) سواء من ناحية الكيف أوالكم، عنوانها "كشكول الصغير" بينما مجلة "سندباد" لم تظهر إلا في الخميس 3 يناير 1952، غير أن ظهور الصحافة في شكلها الجديد، والإذاعة المسموعة ببرامجها الثقافية المتنوعة، ودور الخيالة..خلخل كل ذلك الفكر المغربي، وأطلعه علي ألوان من النتاجات الإبداعية تتخطي الشعر، المقامة، الرحلة، إلي القصة، والرواية، المسرحية.. كانت هذه الوسائل الإعلامية الحديثة، التي لم تكن للمغاربة صلة بها من قبل، جسرا إلي التجديد الثقافي، لا بالنسبة للكبير فقط، بل حتي بالنسبة للصغير أيضا. لكن لا ينبغي أن نغفل الدور، الذي لعبه (الوعي الوطني) في تطوير وتأجيج الفكر المغربي.. فالأناشيد الوطنية، المحاضرات في المساجد، الأحاديث، الحوارات الساخنة في القرويين، الجمعيات والمعاهد التي تقود الحملات النضالية ضد المحتل.. هذه العوامل، أدمجت الطفل المغربي في أجواء ثقافية، صقلت ذهنيته الفتية وإن كانت هدفيتها السياسية، تحرير الوعي (الكبير) أكثر من (الصغير)..وبعد الاستقلال، شهد المغرب صدور عدد كبير من كتب الأطفال خصوصا. إذ نلحظ أن القلم المغربي في هذا الحقل الثقافي، أفرز خلال أربع وستين سنة، ألفا وخمسمائة وستة وخمسين نتاجا، ما بين قصة ورواية ومسرحية وشعر ومعرفة ومجلة وجريدة. فالقصة تحتل الدرجة الأولي بنسبة 72.94 تتلوها المعارف بنسبة 13.75، ثم المسرحية ب4.49 فالرواية ب3.98، والصحافة ب2.57، وفي الأخير، يحضر الشعر بنسبة 2.24. علما بأن بداية (أدب الطفل الفصيح) كما قلنا في السطور الأولي، كانت (شعرا)!..وإذا أحببنا أن نستقرئ (القيم) الكامنة في هذا الرصيد الأدبي والثقافي فسنجد في أعلي السلم القيم التربوية بنسبة 42.79، والقيم الدينية بنسبة 15.27 الاجتماعية ب8.86، المعرفية ب8.64، التاريخية ب7.92، العلمية ب6.26، الفنية ب3.02، الوطنية ب1.81 . ويتضح من هذه النسب المئوية أن القصة هي الجنس الأدبي الأثير لدي الطفل بل الفن الساحر الذي يشحذ عقله ويسليه ويرفه عنه، وينمي فيه القيم الإنسانية ويثري حصيلته اللغوية، مما لا يلفيه في غيرها من أشكال التعبير!..ومن خلال التقييم لأدب وثقافة الطفل، لاحظنا أن نسبة القيم المعرفية والعلمية والفنية ضعيفة، في حقبة يشهد العالم تطورا كبيرا في حقول العلوم والفنون والمعارف المتدفقة، وحضور العولمة. ولا يخفي أن المعرفة في عصرنا الحاضر هي القوة. ولكي ننفلت من شرنقة هذه المرحلة الموبوءة، لابد من قص يحبل بالخيال العلمي.