ليس من السهل أن تكتب عن صديق كبير طوي أوراقه ورحل دون استئذان. نكث علي غير عادته وعدًا بالحضور إلي بيروت نهاية العام الفائت للمشاركة في توقيع كتابنا المشترك "باريس كما يراها العرب" في معرض الكتاب الدولي. كان وعده قاطعًا إلي حد أنه اتصل بي مرتين للتأكيد عليه وذلك قبل وفاته بأسابيع قليلة. كنت في نهاية العام 2014 قد عرضت علي جمال الغيطاني المشاركة في كتاب أشرف علي إعداده منذ سنوات عن باريس، وشرط المشاركة فيه أن يكون الكاتب قد عاش في المدينة لكي يتمكن من الحديث عن تجربته أو تجاربه فيها ومعها، واستثنيت جمال من هذا الشرط لمعرفتي أنه زار باريس عشرات المرات، وترجمت أهم كتبه إلي لغتها وقد رأيته مرارًا يذرع شوارعها ونواحيها ملاحظًا ومدونًا وقارئًا تفاصيلها وكان يفاجئني أحيانًا بإرشادي إلي نواحٍ ما كنت أعرفها أنا الذي أمضي عمرًا في عاصمة الفرنسيين. وصلني نص الغيطاني عبر الصديق محمد الشرقاوي في غرة العام الفائت بخط يده وبعنوان "قناعي"، فأضفت إليه "قناعي في متحف اللوفر". وفيه يروي كيف أنه لا يطرق أبوابًا ولا يذرع شوارعها ولا يأنس بمطاعمها قبل أن يذهب إلي متحف اللوفر ويتقمص قناعه الفرعوني الماثل في ركن بارز من مصريات المتحف ثم ينتشر في المدينة التي أخبرني يومًا أن بعض حاراتها صارت حميمة عنده كحارات القاهرة القديمة وبخاصة الحي اللاتيني. في زيارته الأخيرة إلي العاصمة الفرنسية في شهر أيار مايو الماضي، اتصل بي كعادته عندما يزور المدينة منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وقال بلهجة حاسمة: "المرة دي أنا عازمك علي الغداء في نفس المطعم ما فيش نقاش". قلت: "مش بيناتنا يا رجل". فقال: "أنا مُصرٌ" قلت مستسلمًا: "لا بأس. فليكن". "مطعم لو ماشون" يقع في الحي اللاتيني علي مقربة من كنيسة سان سولبيس التي صارت شهيرة عالميًّا بعد أن دخلت في رواية دان راذر "شيفرة دافنتشي" وقد زرناها جمال وأنا معًا أكثر من مرة وتأملنا في المعبد الذي احتل حيزًا مهمًّا في الرواية، ويخيل إليَّ أنه زارها منفردًا أكثر من مرة أيضًا، فهو لا يهمل بعض الأماكن الرمزية كهذه الكنيسة. اكتشفت مطعم "لوماشون" صدفة عبر صديق مغربي ودرجت علي اصطحاب أصدقائي الذواقين إليه، وهو يضم ست طاولات فقط لكن أطباقه فريدة من جنوبفرنسا، ورواده من أبناء الحي الراقي المحيط به أو من الغرباء الذين يعرفون أعماق المدينة ويحملهم فضولهم إلي نواحيها الغنية. خلال الغداء بدا الغيطاني كعادته فرحًا وودودًا، تحدثنا في كل شيء تقريبًا، لكنه كان ملحًّا بأسئلته حول مصر وحول الموقف الفرنسي والأوروبي من التطورات المصرية، وكعادته كان حريصًا علي لفت انتباهي إلي أن وجهة نظري مسموعة في القاهرة وأنه لمس هذا بنفسه وأنه لا يجاملني في هذا إطلاقًا. فقلت مازحًا: "لو أن ما أقوله حاسم لربما تغيرت أشياء كثيرة ولما بقي حالنا حزينًا كما هو الآن". فضحك وضحكنا معًا وعلق: "الكلام يترك تأثيرًا قويًّا إن كان صادقًا ومنهجيًّا ومسنودًا بعلم ومعرفة". بخلاف غداءاتنا السابقة، كان هذا الغداء طويلًا إلي حد أننا كنَّا آخر من غادر المطعم، وفي لحظة المغادرة جاءني النادل الفرنسي من أصل مغربي سائلًا: "من هذا الرجل الوقور؟ يأتينا يوميًّا علي العشاء منذ 3 أيام". ومن ثم ألقي التحية علي جمال بالمغربية فوعده بأن يوقع له كتابًا في المرة القادمة. وغادرنا المطعم إلي فندق جمال القريب والواقع في الجهة الثانية من بولفار سان جرمان. وفي قاعة الانتظار في الفندق استمهلني لدقائق وصعد إلي غرفته ليحمل لي نسخة من المجلد الأول من أعماله الكاملة. ومن ثم ابتسامة محببة وجملة وداع أنيقة: حنتقابل في بيروت إن شاء الله. عرفت جمال الغيطاني في أواسط ثمانينيات القرن الماضي. التقينا في صنعاء علي هامش ندوة الفن والأدب لدعم الانتفاضة الفلسطينية. وشاءت الصدف أن نصبح أصدقاء في لقائنا للعام التالي في مراكش حيث كنا مدعوين من ولي العهد في حينه والملك محمد السادس اليوم للمشاركة في احتفال جائزة المملكة السنوية لأفضل الكتب الصادرة في العام الفائت ثم تكررت اللقاءات في باريسوبيروت والبحرين والإمارات العربية المتحدةوالقاهرة وتخللتها معارك مشتركة دفاعًا عن الوحدة اليمنية والقضية الفلسطينية وضد الغزو الأمريكي للعراق ولكن ظلت باريس هي المكان الأكثر رحابة في لقاءاتنا... إلخ. وكان من الطبيعي أن تتسع هذه اللقاءات لتشمل عائلتينا فيهدي بناتي نسخًا من كتبه بالفرنسية وأن نتداول هموم بلدينا والأمة العربية عمومًا وأن نتبادل إنتاجنا، كلٌّ في اختصاصه إلي أن اجتمعنا خارج "أخبار الأدب" في كتاب "باريس كما يراها العرب" الصادر أواخر العام الماضي عن دار الفارابي في بيروت. خسارتي في الغيطاني الصديق لا تعوض، فأنا أفتقده في نواحي باريس الجميلة التي جمعتنا وفي النواحي التي أقلب في ذاكرتي تفاصيلها وملامحها في مراكشوصنعاء والشارقة والبحرين وعمان وبيروت وغيرها من عواصم العرب والعالم التي اجتمعنا فيها بمناسبة ثقافية أو للتضامن مع فلسطين أو بمحض الصدفة. بيد أنني أعيش مع الغيطاني الأديب ما حييت فأثره الأدبي لا يموت ولا يتوقف وقد وشمني كما وشم جيلًا من العرب عمومًا والمصريين خصوصًا. من يستطيع اليوم أن يمر مرور الكرام علي "الزيني بركات" أو "أوراق شاب عاش قبل ألف عام" أو "حكايات الخبيئة"، وغيرها فهو أضاف إلي الأدب العربي الحديث حيوية مذهلة تجمع بين القديم والجديد وبين التاريخ والحاضر، وأحيا بطريقة شديدة الخصوصية صفحات كانت مغلقة إلي الأبد في التاريخ الاجتماعي لمصر المملوكية، بل كانت له قاهرته الخاصة التي حاكها بخيوط زاهية وجذابة، طبعت قراءه ووسمت توقيعه علي صفحات الأدب المصري مرة واحدة وإلي الأبد. أما جمال الصحافي فكان فخورًا بمهنته التي جمعت بين الرسالة الحربية من جبهات القتال وصناعة الأدب والثقافة في أسبوعية "أخبار الأدب" التي أسسها وحولها إلي منبر لا يمكن تجاوزه في عوالم الثقافة العربية، وبينهما جمال المعلق السياسي الذي برع في الثقافة السياسية وفي السجال الراقي في مناسبات عديدة. توفي الصحافة البصرية السمعية تمكن الغيطاني خلال فترة زمنية قصيرة من تطويع التليفزيون وتحويله إلي وسيلة مفيدة في صناعة راقية للرأي العام مخاطبًا ذوقه وعقله ومشاعره في الآن معًا. لا يمكن لأي منا نحن أصدقاء الغيطاني أن نحيط بأثره الأدبي الواسع، وبالتالي أن نقوم بعمل ضروري هو من اختصاص النقاد الجديين الذين لن يفوتهم تصنيفه في مقام عالٍ من مقامات الأدب العربي والعالمي.