في زمن تغيّرت فيه كل الموازين، وأصبح فيه الكتاب أحد السلع الإلكترونية التي يتسوقها الناس افتراضياً، لازلتُ أبحث عن كُتب من ورق، كُتب حقيقية.. لا افتراضية، كتب تحاكي زمنٍ مضي، مصنوع من ورقْ وحبْر وشيء من الحبْ. من المفترض، أنني أنتمي إلي هذا الجيل الذي يعتقد في أهمية الرابط الافتراضي مع الكتاب، إلا أن إيماني منعني من ذلك. إيماناً قطعياً بأن علاقة القارئ مع الكتاب مبنية بشكل أساسي علي عنصر "الورق"، ومن ثم يأتي النص ومعانيه. هل تساءلتم يوماً عن أهمية الورق؟ ملمس الورق، رائحته ولونه المايل إلي الصفار، تجعل من القراءة مُتعة فريدة. هذه العناصر تبني علاقة مع القارئ لا تشبهها علاقة أخري، شيء من التعلّق الفطري. لرائحة الورق قصة ترويها لنا الكتب المبعثرة في أرجاء مكتبة الحلبي البيروتيّة، مكتبة تحكي قصة مكتبات بيروت القديمة التي هزمها التطور التكنولوجي، والتراجع الفكري الجاري في المدينة. علي مقربة من مسجد الخاشقجي، وفي شارع سكني مقتظ بالمارة، قد تلمح بين خبايا شجر الڤيكوس، واجهة مكتبة مكدسة بالكتب القديمة، والمجلات الملونة. كنت قد زرت مكتبة الحلبي السنة الماضية، وأطلقت علي واجهتها، واجهة بيروت البحرية، ظناً مني أنها أجدر من تلك الواجهة البلاستيكية الصُنع للمدينة. كنت قد ذهبت في الأساس للسؤال عن كتاب "يوميات مدينة كان اسمها بيروت" للشاعر نزار قباني، وهو كتاب قديم ونادر الوجود، لكن في مكتبة الحلبي كل الكتب موجودة. رائحة الكتاب تعبق بسنين عمره، وأوراقه لوّنها الزمن من صفار أوراق الڤيكوس. كتاب يحاكي بيروت الحاضر، كما لو أنها لم تتغيّر، أم أن نزار هو الذي سبق عصره، وتنبأ بحال مدينتنا. لم يكن هذا الكتاب إلا شعلة أثارت في داخلي حماس البحث عن قصة هذا الكتاب وغيره من الكتب المعلقة علي واجهة مكتبة الحلبي، وما قد تخبئه تلك الواجهة من خبايا خلفها، وكنوز أدبية قل وجودها. أثناء نقاشي مع عبد الله الحلبي، ذكر أن المكتبة كانت دكان بقالة بها مستلزمات الحي من مأكولات ومشروبات، وكان مصدر رزق عائلته، إلي أن بدأ المحل بالتحوّل التدريجي إلي مكتبة، وذلك في تسعينيات القرن الماضي، يتذكر: "كيف صار هيك فييّ ربّك أعلم! مثلما يهوي البعض جمع الطوابع البريدية، كنت أهوي شراء الكتب و تجميعها، هكذا بدأ الأمر، إلي أن تكدّس المحل بالكتب". بمرور الوقت، كان يجد عبد الله الحلبي صعوبة في الدخول إلي مكتبته من كثرة الكتب فيه، وفي يوم فوجئ بابنته لانا، تطلب منه أن يعكفوا علي تصنيف الكتب القديمة وترتيبها كي تجذب المارة إليها. "اليوم يللي خبرتني فيه لانا إنو تركت شغلها للعمل علي إحياء المكتبة كان يوم فرح إلي، كنت خايف إنو يضيع هيدا الإرث العظيم". يستكمل عبد الله وهو يبتسم. إنه التعلق الفطري، الإيمان بشيء ما إلي حد الجنون، الرغبة في تحقيق ما قد يبدو مستحيلاً، بل مغامرة في مدينة فقدت مغامريها. إعادة احياء المكتبة بعد 15 عام تصفُه لانا الحلبي ب "المفاجأة السارة" لوالدها وللعائلة. تقول: "كان صرلي فترة عم فكر، لحين اقتنعت إنو هيدي المكتبة لازم ترجع مصدر رزق مثلما كانت أيام الدكانة". لانا التي ترعرعت في بيت لم تخلو حيطانه من الكتب، تعرف قيمة الكتب وورثت عن أبيها حب العناية بها، والحفاظ عليها، لذلك فهي تحرص علي تشجيع أبناء مجتمعها من جميع الفئات علي القراءة، من خلال طرح كتب ذي قيمة بأسعار زهيدة. "بعدنا بأول الطريق، المكتبة رح ترجع تزهّر ببيروت ونحن بنفس الوقت نشاطنا مستمر بمعارض الكتاب، علي أمل أن يرجع قيمة الكتاب". تختم لانا الحلبي حديثها بكل أمل.