وصلت متأخرة لأجد مقاعد القطار مكتفية بساكنيها عدا تلك المساحات المزهود فيها علي الاطراف. رمقت الجالسين بجوار النوافذ بنظرات حاقدة ، تأخر الوقت لأترك القطار كما ان ثلاث ساعات تفصله عن الذي يليه، وها قد ذهب املي في الجلوس بجوار سيدة اوطفل صغير فجلست بجوار رجل توسمت فيه الاحترام. تتسع المقاعد لثلاثة اشخاص ومواجه لنا ثلاثة آخرون: امرأة شابة وزوجها وسيدة مسنة، تفصلنا مسافة لابأس بها عن صف آخر من المقاعد إلي اليمين تسكنه عائلة مكونة من رجل ملتح وامرأة منتقبة وأربعة اطفال، لم يرفع الملتحي عينه عن مصحفه. انطلق القطار واذا بالرجل الي جواري يزفر في ضيق ويضرب كفا بكف ثم لكز من بجواره ليوقظه وأشار إلي حق يبته قائلا ابعد حق يبتك عن قدمي (بالكاد تلامس الحقيبة اطراف ذلك الرجل اصلا!)، تعرفت المرأتان المواجهتان لنا إلي بعضهما البعض بسرعة تكاد تقترب من سرعة الضوء!! اما الزوج بجوار النافذة فقد غط في نوم عميق، هؤلاء الحمقي بجوار النوافذ يفوتون متعة النظر إلي الحقول الخضراء كان عليهم ترك اماكنهم لأمثالي الذين يقدرونها!. انطلق القطار وأخذت السيدة المسنة تثرثر الي الشابة وتسرد كل تفاصيل حياتها وحياة ابنائها، فزوجة ابنها الاكبر تثقل كاهله بمطالب تنوء بها العصبة أولو القوة! وابنتها لم تتزوج بعد والأخير لا يجد عملا، اما الزوج ابو العيال كما أسمته فكان له نصيب الاسد من تلك الحكا يات فهو مر يض بالكبد ولا يجد ثمن العلاج وتسعي هي من أجل علاجه علي نفقة الدولة قالتها ثم انخرطت في البكاء لعلهم مشتاقون لي الآن. نالت تعاطف من حولها حتي انا التي ضقت ذرعا بثرثرتها. توقف القطار في اول محطة ولم يتوقف من بجانبي عن لكز من بجواره من حين لآخر مدعيا أنه يزحزح حقيبته فوق قدمه. (كم هو غريب الأطوار؟! لقد أخطأ حدسي هذه المرة) قاطع الصبي بائع الامشاط ذلك المشهد ملقيا بأمشاطه علي كل من في العربة حتي النائمون لم يسلموا منه. تتابع وصول أفواج البائعين واستحوذ بائع ادوات المطبخ علي الانظار فلديه موهبة رائعة في استعراض ادواته ثم ألقي ببعضها علينا مثلما فعل رفاقه مع بضاعتهم. لم تمنع الحالة النفسية السئة التي انتابت السيدة المسنة من الفصال مع البائع فاشترت منه مر يلة للمطبخ وسكاكين وملاعق بنصف أثمانهم!. اختفي البائعون حين عاود القطارانطلاقه وعادت المرأة إلي ثرثرتها فأخذت تحكي عن بقية أفراد عائلتها وجيرانها، وعدت أنا الي ضيقي الذي لازمني. تذكرت الرواية في حقيبتي التي طالما أجلت قراءتها، لقد حان وقتها الآن علها تفرج عني ضيق. تحكي قصة الرواية عن شخص مناقض لي تماما عاشق للسفر والترحال! ( يا لكذب ذلك الكاتب ! كيف يكون للسفر عشاق وهو أبغض شئ بالنسبة إلي ؟! ). لم تكن ثرثرات السيدة أمامي ولا غريب الاطوار بجواري ليقاطعاني عن القراءة بل كانت تلك المشاجرة التي نشبت بين مسن مد ير عام كما قال متفاخرا وشاب في أوائل العشر ينات يرتدي ملابس ضيقة ذات ألوان بشعة تتصادم مع بعضها البعض و يقطن فوق رأسه شعر أرهقه طول الوقوف فقرر أن يتبعثر في كل اتجاه. هاج ذلك الشاب حين طالبه المسن بإطفاء سيجارته وإغلاق أغانيه الهابطة التي تزعجه هو وزوجته، التزم جميع من في العربة الصمت مكتفين بالمشاهدة (لعلهم خبيثون مثلي وجدوا في المشاجرة متعة تنسيهم ملل السفر)، حتي بدأ الاشتباك بالايدي حينئذ قرر رجل خمسيني إقناع ذلك الشاب بتبادل المقعد معه ليجلس الشاب بجوار صحبة تدخن مثله فتبادلوا الضحك والنكات، وعدت إلي روا يتي التي شدتني فطائرة البطل قد نشب بها حر يق، ويحاول الآن اخماده مع بقية الركاب) لعل هذا جزاء كل من يعشق السفر!) عطس الزوج بجوار النافذة لينشر فيروساته بعدالة علي جميع من حوله، وفي تلك اللحظة توقف القطار لينهض الزوج والزوجة ودعت زوجته السيدة الثرثارة حين مر هو بجانبي واختصني بعطسة قو ية لأحظي بفيروسات اكثر مما حظي بها الجميع سابقا! وبينما كنت أوازن بين التزام مكاني وبين الجلوس بجانب النافذة إلي جوار الثرثارة التي لن ترحم أذني لمحت غر يب الاطوار بجواري يسعي للانقضاض علي مكان الزوج سابقا فسبقته اليه. انطلق القطار للمرة الثالثة وانطلقت هي تمارس هوا يتها في جر رجل من بجوارها الي الكلام( الآن تصنعت الصمم ولم أرد عليها أجل أنا صماء ) وفي تلك اللحظة رن هاتفي برقم أمي فقد كان عليها الاطمئنان علي بعد ساعتين من السفر. ألن تجيبي؟ أمك أليس كذلك ؟ قالتها السيدة - فلم تكن تطلق لسانها فقط - ثم رمقتني باستنكار. ابتسمت في خجل. قلقت عليكي قالتها أمي. آسفة لم أسمع الهاتف ، أنا بخير لا تقلقي. أغلقت الخط وحاولت تجاهل نظرات السيدة، لم تحاول معاودة الكلام فقد وصلتها رسالتي. عدت إلي قراءة روا يتي وها قد اقترب البطل من الوصول إلي وجهته كذلك وصلت أنا. توقف القطار للمرة الأخيرة ونزل جميع ركابه وتبعتني السيدة الثرثارة، أنزلت حقيبتي إلي الرصيف لأجد شابة تعانق تلك السيدة قائلة في بهجة: الحمد لله علي سلامتك يا ست نجوي لقد اشتاق لك جميع من بالدار، وأنا لا يحلو لي العمل فيه بدونك، سقطت الآن السيدة مغشيا عليها (لا لم تمت مجرد إغماءة بسبب داء السكري الذي تعاني منه المسنة كما أكدت تلك الشابة). فانتهزت الوقت الذي حاول فيه الناس من حولنا إفاقتها لأسأل تلك الشابة عن الست نجوي وعن تلك الدار ولم لم يأت اولادها لاستقبالها. صدمتني بقولها: الست نجوي اقدم نزيلة لدينا في دار المسنين وهي لم تتزوج لتنجب!! وكل شهر تسافر إلي القاهرة لتزور قبر أختها ولا نعرف لها أهلا !!. أفاقت الست نجوي وانطلقت مع الشابة بينما تسمرت أنا في مكاني دقيقة ثم شققت طر يقي وسط الزحام بعدما تملكتني شفقة علي الست نجوي .