في مخيلة العامة البار مكان للسكر؛ لا يخطو المرء عتبته إلا ليغيب عن الوعي. لكن الواقع مغاير تماماً، فمن البار خرج أهم كُتًّاب القرن العشرين وقامت ثورات.. كل الثورات تقريباً. لذلك لم يكن غريباً أن يُهدي الشاعر محمود خير الله كتابه (بارات مصر) إلي الحالمين بالثورات الكاملة، الذي تناول فيه الأدوار التي لعبتها البارات خلال اللحظات الحرجة التي مر بها الوطن، إذ يري أن القيم التي حفظتها البارات للثقافة ربما تكون أعظم انجازاً مما فعلته بعض أجهزة الدولة الثقافية الرسمية، وأفضل بكثير مما فعلته بعض الأحزاب. من أهم هذه البارات، كافيه ريش الموجود في شارع طلعت حرب. يعتبره الكاتب دليلاً علي استمرار الثورة وتألقها، فقد لعب "ريش" إلي جوار بعض المساجد والكنائس أدواراً عظيمة ومُلهمة في تاريخ هذا البلد، عبر انحيازه الدائم إلي الثوار طوال القرن الماضي، حيث كان الملاذ الآمن لهم، بل وأسهم في صناعة شيء من نجاح هذه الثورات. فقد اختبأ سعد زغلول مع الثوار في قبو الكافيه، الذي يقع مباشرة تحت المكان الذي كان يجلس فيه الروائي نجيب محفوظ، وفيه طُبعت منشورات ثورة 1919 المناهضة للاحتلال الانجليزي، ولا يزال الكافيه يحتفظ بالمطبعة حتي الآن كشاهد علي هذه المرحلة. وفي أحداث 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، تلقي الثوار الغذاء والدواء علي نفقة "ريش"، واستعملوا الأبواب السرية للقبو. ظل "ريش" مكاناً أرستقراطياً، يجذب إليه الساسة والمثقفين، فقد جلس فيه توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ويحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل ونجيب سرور وفاطمة اليوسف ومحمود المليجي ورشدي أباظة وعادل إمام. فقد أطلق عليه عبد الرحمن الرافعي اسم "ملتقي الأفندية" الذي يجتمع فيه الداعون إلي الثورة، ففي أواخر السبعينيات خرجت من الكافيه مظاهرة بقيادة يوسف إدريس وإبراهيم منصور احتجاجاً علي معاهدة كامب ديفيد. يقول محمود خير الله، ومنه صُدر بيان المثقفين العام 1981 الرافض لقرارات السجن والاعتقال، وشهد ولادة مجلات الثورة مثل (الكاتب المصري) التي رأس تحريرها الأديب طه حسين و(الثقافة الجديدة) و(جاليري 68). يقول محمود خير الله: سوف يربكَك وجود المثقفين الذين عبروا هذا المكان. ستفقد القدرة علي التركيز لأن الزمن سوف يمر مختلطاً بأحداث ومشاهد سينمائية وأغنيات ومسرحيات. ستكتشف أنه ليس من المبالغة القول إن كل الثورات مرت من هنا، ثورات السياسة وحركات الفن الثوري وجماعاته. ريش باستعارة لغة المؤرخ جمال حمدان هي "نافورة" الحِراك في وسط البلد و"بالوعته" في الوقت نفسه. وكان الأكثر جدلاً حتي هجاه أحمد فؤاد نجم في واحد من أشهر قصائده: (يعيش المثقف علي مقهي ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلظ مزفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة.. عدو الزحام). "ستللا" أيضا كان من أكثر البارات ارتباطاً بالوسط الثقافي، له باب ضيق يفيض إلي عالم من الضوء الخافت والشخوص والحكايات. يقع في الدور الأرضي من عقار يطل علي ناصيتين مهمتين، تقاطع شارعي هدي شعراوي وطلعت حرب. احتضن "ستللا" أفكار القصائد وعناوين القصص والأعمال الدرامية. فهو بار الخارجين عن الدولة والمثقفين الذين يسهرون فيه غالباً. عُرف "ستللا" باسم المخزن، إذ نوي صاحبه حين أنشأه أن يكون مخزناً للبيرة، لكنه سرعان ما حوَّله إلي بار، ومازال الكثيرون يشيرون إليه حتي الآن باسم المخزن. يظن الكاتب أن اسم المخزن له دلالات كثيرة، فقد يكون تعبيراً مجازياً عن كمية الأسرار والنميمة الثقافية التي يشهدها هذا المكان، أو هو مخزن دموع المثقفين، فعلي كثير من مقاعده ومناضده، جلس المثقفون وبكوا، مثل أمل دنقل ويحيي الطاهر عبد الله، إلي أن شاهد بنفسه صديقهما الناقد الأدبي فاروق عبد القادر يبكي في هذا المكان. نجيب سرور جاء إلي هنا أيضاً، وألقي قصائده الملتاعة عن مصر. كذلك الروائي محمد مستجاب كان يجلس ويشرب ويكتب. أما مقهي وبار الحرية الكائن في باب اللوق، فله أجواء مختلفة، إذ يتمتع بالحس الشعبي، ويعتبر المكان الأكثر احتشادا بالمتناقضات في الوسط الثقافي، حيث يقصده الأجانب والمثقفون والمدعون والباحثات عن الحقيقة والباحثات عن العملة. المقهي موجود علي الأرض التي كانت تضم بيت الزعيم أحمد عرابي مُلهم الثوار في المائة عام الأخيرة، ومن هذا البيت خرج عرابي مع مؤيديه إلي قصر عابدين ضد الخديو توفيق، وبعد فشل الثورة ألقي القبض علي عرابي، حيث تم نفيه إلي سيلان، وهُدم بيته، وتم بناء عمارة جديدة علي الطراز الانجليزي، وفي طابقها الأرض تأسس المقهي الذي تم افتتاحه عام 1936. احتضن "الحرية" من ثاروا ضد فساد الملك فاروق الأول، ووفقا لمذكرات ملك القطن محمد أحمد فرغلي باشا (عشتُ حياتي بين هؤلاء) فإن الضباط الأحرار اجتمعوا كثيراً فيه، ومن هناك قرروا القيام بثورة 1952، لإسقاط الملكية. لم يحظ المقهي بالشهرة التي تمتع بها كافيه ريش بين الثوار، فكان الطلبة الأكثر تردداً عليه، يناضلون بالغناء، خصوصاُ في عهد حسني مبارك، ولم يكن المقصد الرئيسي لأغلب المثقفين، وحده بيرم التونسي شاعر العامية أبرز علامات هذا المقهي خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات. وعلي الرغم أنه لا توجد قصائد تتناول مقهي الحرية إلا أنه حظي باهتمام بعض الروائيين، مثل أسامة الشاذلي الذي كتب رواية تحمل اسم المقهي، والذي يحكي فيها عن أبطال المقهي المهزومين. بارات كثيرة اختفت خلال العقود الثلاثة الماضية، فكان شارع عبد الخالق ثروت يضم ستة بارات لم يبق منها سوي بارين، هما (الهاليجيان) يقع علي بعد أمتار قليلة من نقابة الصحفيين، و(الكاب دور) يقع في إحدي العمارات القديمة المتهالكة وكان رشدي أباظة دائم التردد عليه. ذكر محمود خير الله إنه التقي في هذا المكان صديقه الشاعر الراحل مجدي الجابري، وسمعه وهو يوبّخ أحد الشعراء قائلاً: "النجومية ليست بالضرورة طريق الشاعر". كان (الكاب دور) ملتقي رموز الطبقة الوسطي المكافحة الذين يعانون من الفقر والظلم. هناك فقط يمكنك أن تستمع إلي أفكار الناس وأحلامهم.