أسعار اللحوم والدواجن اليوم 21 أكتوبر بسوق العبور للجملة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» الاثنين 21 أكتوبر 2024    هبوط طائرة في مطار بيروت وسط القصف الإسرائيلي العنيف    محمود كهربا.. موهوب في الملعب وأستاذ "مشاكل وغرامات" (بروفايل)    التموين تكشف موعد عودة البطاقات المتوقفة بسبب ممارسة الكهرباء    علي جمعة يكشف حياة الرسول في البرزخ    صندوق الإسكان الاجتماعي يكشف شروط الحصول على شقة في الإعلان الجديد (فيديو)    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 21-10-2024    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 21-10-2024 في بداية التعاملات الصباحية    الصحة: تقديم الخدمة لأكثر من 2.4 مليون حالة بقوائم الانتظار    «زي النهارده».. تدمير وإغراق المدمرة إيلات 21 أكتوبر 1967    الزمالك ينتقد مستوى التحكيم في مباراة بيراميدز.. ويحذر من كارثة بنهائي السوبر.. عاجل    عاجل.. كولر «يشرح» سبب تراجع أداء الأهلي أمام سيراميكا ويكشف موقف الإصابات في نهائي السوبر    فصائل عراقية تعلن شن هجوم على موقع عسكري إسرائيلي في الجولان    مقتل سائق «توك توك» بسبب خلافات الأجرة بعين شمس    حظك اليوم برج القوس الاثنين 21 أكتوبر 2024.. مشكلة بسبب ردود أفعالك    علي الحجار يستعد لتقديم موهبة جديدة في حفله بمهرجان الموسيقى العربية    أبرزهم هشام ماجد ودينا الشربيني.. القائمة الكاملة للمكرمين في حفل جوائز رمضان للإبداع 2024    عمرو مصطفى يكشف ذكرياته مع الراحل أحمد علي موسى    المتحف المصري الكبير يفتح أبواب العالم على تاريخ مصر القديمة    اللواء وائل ربيع: بيان الخارجية بشأن فلسطين قوي وجاء في توقيت مناسب    هل النوم قبل الفجر بنصف ساعة حرام؟.. يحرمك من 20 رزقا    مشعل يرثي زعيم حماس يحيى السنوار.. ماذا قال؟    طريقة عمل الكريم كراميل، لتحلية مغذية من صنع يديك    وجيه أحمد: التكنولوجيا أنقذت الزمالك أمام بيراميدز    إصابة 10 أشخاص.. ماذا حدث في طريق صلاح سالم؟    ناهد رشدي وأشرف عبدالغفور يتصدران بوسترات «نقطة سوده» (صور)    حادث سير ينهي حياة طالب في سوهاج    حسام البدري: إمام عاشور لا يستحق أكثر من 10/2 أمام سيراميكا    المندوه: السوبر الإفريقي أعاد الزمالك لمكانه الطبيعي.. وصور الجماهير مع الفريق استثناء    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم مدينة نابلس بالضفة الغربية من اتجاه حاجز الطور    6 أطعمة تزيد من خطر الإصابة ب التهاب المفاصل وتفاقم الألم.. ما هي؟    «العشاء الأخير» و«يمين في أول شمال» و«الشك» يحصدون جوائز مهرجان المهن التمثيلية    إغلاق بلدية صيدا ومقر الشرطة بعد التهديدات الإسرائيلية    هيئة الدواء تحذر من هشاشة العظام    أحمد عبدالحليم: صعود الأهلي والزمالك لنهائي السوبر "منطقي"    نقيب الصحفيين يعلن انعقاد جلسات عامة لمناقشة تطوير لائحة القيد الأسبوع المقبل    حزب الله يستهدف كريات شمونة برشقة صاروخية    مزارع الشاي في «لونج وو» الصينية مزار سياحي وتجاري.. صور    هل كثرة اللقم تدفع النقم؟.. واعظة الأوقاف توضح 9 حقائق    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل في دمياط- صور    كيف تعاملت الدولة مع جرائم سرقة خدمات الإنترنت.. القانون يجب    ملخص مباراة برشلونة ضد إشبيلية 5-1 في الدوري الإسباني    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل ثقيل بدمياط وإصابة سائق التريلا    حبس المتهمين بإلقاء جثة طفل رضيع بجوار مدرسة في حلوان    النيابة العامة تأمر بإخلاء سبيل مساعدة الفنانة هالة صدقي    النيابة تصرح بدفن جثة طفل سقط من الطابق الثالث بعقار في منشأة القناطر    رسميا بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 21 أكتوبر 2024    نجم الأهلي السابق: هدف أوباما في الزمالك تسلل    وفود السائحين تستقل القطارات من محطة صعيد مصر.. الانبهار سيد الموقف    قوى النواب تنتهي من مناقشة مواد الإصدار و"التعريفات" بمشروع قانون العمل    نائب محافظ قنا يشهد احتفالية مبادرة "شباب يُدير شباب" بمركز إبداع مصر الرقمية    عمرو أديب بعد حديث الرئيس عن برنامج الإصلاح مع صندوق النقد: «لم نسمع كلاما بهذه القوة من قبل»    «شوفلك واحدة غيرها».. أمين الفتوى ينصح شابا يشكو من معاملة خطيبته لوالدته    جاهزون للدفاع عن البلد.. قائد الوحدات الخاصة البحرية يكشف عن أسبوع الجحيم|شاهد    بالفيديو| أمين الفتوى: لهذا السبب يسمون الشذوذ "مثلية" والزنا "مساكنة"    مجلس جامعة الفيوم يوافق على 60 رسالة ماجستير ودكتوراه بالدراسات العليا    جامعة الزقازيق تعقد ورشة عمل حول كيفية التقدم لبرنامج «رواد وعلماء مصر»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»جريترود«

استحوذ شيء ما علي "جريترود"، وفقدت السيطرة علي نفسها.. شيء ظل ينمو وينمو حتي كاد يستولي علي كيانها كله.
بدأ الأمر حين علمت أن إنجمار خذلها. أصابها خوف لا حدود له من رؤية إنجمار مرة أخري، أو مُقابلته بالمُصادفة في الطريق أو في الكنيسة، أو في أي مكان آخر. لم تفهم السبب، إلا أنها شعرت أنها لن تتحمل حدوثه.
فضلت الانطواء علي نفسها والبقاء في المنزل، ليلاً ونهاراً، لتضمن أنها لن تلتقي به؛ إلا أن هذا كان مستحيلاً لفتاة فقيرة مثلها. كان عليها الخروج والعمل في الحديقة، وكان عليها أن تقطع مسافة طويلة من منزلها إلي المرعي كي تحلب الأبقار، كما كانت تذهب كثيراً إلي متجر القرية لتشتري احتياجات المنزل.
حين تخرج من المنزل، كانت تسحب غطاء الرأس حتي يغطي وجهها، وتنظر إلي الأرض، وتسرع الخطو كأن الأشباح تطاردها، وتحرص، كلما أمكنها، علي السير بعيداً عن الطريق الرئيسي، وتتخذ طُرقا جانبية، كي تتحاشي رؤيته.
لم تتحرر من الخوف لحظة واحدة.. ليس هناك مكان واحد في الأبرشية كلها، يمكن ألا تراه فيه. إذا أبحرت في مركب في النهر، قد يكون هناك ينقل أخشابه، وإن ذهبت إلي الغابة، قد تراه وهو في الطريق إلي عمله.
كانت تختلس النظر إلي الطريق وهي تقتلع حشائش الحديقة، لتري إن كان يقترب من منزلها فتهرب إلي الداخل. لقد كان وجوده مألوفاً في المنزل، ولم تكن كلابها تنبح عليه، ولا يخافه الحمام الذي تربيه، ولا يطير عند اقترابه فيُحذرها برفرفة أجنحته إن اقترب.
لم يتلاشي خوف "جريترود" الطاغي، بل تزايد يوماً بعد يوم. تحول كل حزنها إلي خوف، وتضاءلت قدرتها علي مقاومته. وفكرت: "لن أجرؤ علي مُغادرة المنزل عما قريب، لقد أصبحت أكثر غرابة وكآبة، وربما أصابني الجنون. يا إلهي! يا إلهي، ادفع عني هذا الخوف! أبي وأمي يظنان أن عقلي صار مُختلاً، لا بد أن الجميع يظنون نفس الظن. أوه، يا إلهي! ساعدني!".
ورأت "جريترود" حلماً غريباً، عندما كان خوفها في أسوأ حالته. رأت أنها خرجت وهي تحمل الدلو في يدها لتحلب الأبقار. وكانت الأبقار ترعي في المروج علي تخوم الغابة، علي مسافة بعيدة من منزلها. سارت في طرق جانبية، مليئة بالقنوات والمصارف. كانت تسير بصعوبة بالغة، حيث كانت تشعر بالإعياء، لا تستطيع رفع قدمها عن الأرض، سألت نفسها في الحلم: "لماذا أجد صعوبة في السير؟"، وأجابت: "أنتِ متعبة لأنكِ تحملين حملاً ثقيلاً من الحزن".
وعندما وصلت إلي المرعي، لم تجد الأبقار. شعرت بالقلق، وبدأت تبحث عنها في أماكنها المُعتادة.. خلف الأجمات، وناحية الوادي وتحت أشجار البتولا، دون أن تعثر لها علي أثر. وبينما هي تبحث عن الأبقار، اكتشفت وجود فتحة في السياج المواجه للغابة. انتابها القلق، وشبكت أصابع يديها معاً، وقالت: "يجب أن أجوب الغابة بحثاً عنها وأنا مُتعبة علي هذا النحو!". توجهت نحو الغابة، وتقدمت بين أجمات التنوب والعرعر الشائك، حتي وجدت نفسها تسير علي طريق ناعم ومستوٍ دون أن تعلم كيف وصلت إليه. كان الطريق ناعماً وزلقا بعض الشيء، بسبب أشواك التنوب ذات اللون البني التي تغطيه. وعلي جانبي الطريق، تقف أشجار الصنوبر الباسقة، تلمع بينها الطحالب الصفراء تحت أشعة الشمس. كان المكان جميلاً، وتلفه السكينة، لدرجة جعلتها تنسي خوفها.
لمحت، فجأة، سيدة عجوز تتحرك بين الأشجار. لقد كانت "فيني-ميريت" الساحرة الشهيرة، وفكرت "جريترود": "كم هو بشع أن تظل تلك الساحرة الشريرة علي قيد الحياة"، وحاولت الاختفاء بحذر حتي لا تراها، لكن العجوز رأتها قبل أن تختبئ.
صاحت العجوز: "هيه، أنت! انتظري قليلاً، وسوف أعرض عليكِ شيئاً"، وفي لمح البصر، كانت العجوز تجثو علي ركبتيها أمام "جريترود"، ثم رسمت بسبابتها دائرة علي أشواك التنوب التي تغطي الأرض، وفي منتصف الدائرة، وضعت وعاءً ضحلاً من النحاس.
فكرت "جريترود": "سوف تقوم بعمل شيء سحري الآن. لا بد أنها ساحرة بالفعل".
قالت "فيني-ميريت": "انظري في الوعاء فقد تشاهدين شيئاً"، فنظرت "جريترود" في الوعاء، ورأت بوضوح وجه إنجمار. وعلي الفور أمسكت الساحرة بإبرتها الطويلة، وقالت: "انظري هنا، خذي هذه واغرسيها في عينيه، افعلي هذا لأنه غدر بكِ". ترددت "جريترود" قليلاً، ولكنها شعرت بإغراء شديد. قالت لها العجوز: "لماذا يعيش في رفاهية، ويكون ثرياً وسعيداً، بينما تعانين أنتِ". وعندها، سيطرت علي "جريترود" رغبة جامحة للقيام بالأمر، وقربت الإبرة من الوعاء. قالت لها العجوز: "انتبهي! يجب أن تغرسيها في العين تماماً"، فقامت "جريترود" علي الفور بدفع الإبرة في إحدي عينيه، ثم في العين الثانية. لاحظت "جريترود"، وهي تقوم بهذا، أن الإبرة غاصت بعيداً، ولم تلمس الوعاء؛ بل كأنها اخترقت مادة طرية. وعندما سحبت الإبرة، كان عليها آثار دماء.
عندما رأت الدماء، ظنت أنها وضعت الإبرة حقاً في عيني إنجمار. انتابها شعور قوي بالندم لما فعلت، وأصابها الذعر، فاستيقظت.
ظلت راقدة فوق السرير وهي ترتجف وتنتحب، قبل أن تستوعب أنه كان مجرد حلم، وقالت وهي تنوح: "فليحمني الرب من التفكير في الانتقام"..
وبمجرد أن نامت، عاودها الحلم من جديد.
مرة أخري، كانت تسير في الطرق الجانبية، في طريقها إلي المرعي. لم تجد الأبقار هذه المرة كذلك، فدخلت إلي الغابة بحثاً عنها، ووصلت مُجددا إلي طريق جميل، ورأت أشعة الشمس تلمع فوق الطحالب الصفراء. وحينها تذكرت ما حدث في الحلم الأول، خافت من مقابلة الساحرة مرة أخري. لم تقابل الساحرة، فشعرت براحة كبيرة.
وفجأة، انشقت الأرض بين الطحالب، وظهرت رأس بشرية، ثم ظهر جسد رجل صغير يحاول الخروج من الأرض، وهو يثير الضوضاء من حين لآخر. علمت من رأت للتو. إنه "همنج بيتي"، بالطبع، الذي يقولون إنه يُعاني خللاً في عقله. أحياناً يمكث في القرية، إلا أنه يعيش في كهف طيني في الغابة أثناء الصيف.
تذكرت "جريترود" ما سمعت من حديث الناس حول "بيتي": "كل من يريد إيذاء خصم دون أن ينكشف أمره، يستعين به"، حيث يُشتبه في قيامه بإشعال الحرائق بتحريض من الآخرين.
توجهت نحو الرجل وسألته بين المزاح وبين الجد، إذا كان بمقدوره إشعال حريق في مزرعة إنجمار، وقالت إنها تتمني حدوث مثل هذا الحريق لأن إنجمار فضل المزرعة عليها.
أصابها استعداد القزم الأبله لتنفيذ ما طلبت بالفزع. أشار بالموافقة وهو مُبتهج، ثم انطلق نحو المزرعة. انطلقت خلفه، ولكنها لم تتمكن من اللحاق به. اشتبك ثوبها في أجمة، وغاصت قدمها في المُستنقع، وتعثرت فوق أرض صخرية. وعندما خرجت من الغابة، رأت وهج النار من بين الأشجار، وصرخت: "لقد فعلها، لقد أحرق المزرعة"، ثم أيقظها الرعب من النوم مرة أخري.
جلست "جريترود" علي السرير، والدموع تسيل علي وجنتيها. خافت من وضع رأسها علي الوسادة مرة أخري، حتي لا تري المزيد من الكوابيس. هتفت وهي تبكي: "إلهي، ساعدني. إلهي، ساعدني! فأنا لا أعلم مقدار الشر الكامن في قلبي، ولكن يعلم الرب أنني لم أفكر في الانتقام من إنجمار طوال هذه الفترة. يا إلهي، لا تدعني أسقط في هذه الخطيئة!". شبكت أصابع كفيها في فورة يأسها، وهتفت: "الحزن خطير، الحزن خطير، الحزن خطير".
لم يكن واضحاً لها معني تلك الكلمات؛ إلا أنها شعرت أن قلبها المسكين مثل حديقة جرداء، تم اقتلاع جميع زهورها، والحزن هو البستاني؛ يتجول فيها، ويزرع أعشاباً سامة.
ظنت "جريترود" أنها تحلم طوال الظهيرة، وبدا الحلم لها حقيقياً لدرجة أنها لا تستطيع إخراجه من عقلها. كانت ترتجف كلما تذكرت إحساسها بالرضا وهي تغرس الإبرة في عيني إنجمار، وفكرت: "يا له من شيء مُريع أن أصبح قاسية إلي هذا الحد! ماذا يجب أن أفعل حتي أتخلص من هذا؟ إنني أتحول إلي شريرة".
ذهبت "جريترود" بعد الغداء إلي المراعي لكي تحلب الأبقار. سحبت غطاء الرأس إلي الأمام ليُغطي وجهها كالعادة، وهي تنظر إلي الأرض أثناء السير. سارت في نفس الممرات التي سارت فيها من قبل في الحلم، حتي الزهور بدت كما كانت في الحلم. لم تكن واعية تماماً، لدرجة أنها خلطت بين ما تراه بالفعل، وبين ما تتخيل أنها تراه.
وعندما وصلت إلي المرعي، لم تجد الأبقار. بدأت تبحث عنها كما فعلت في الحلم، وهي تنظر في الوادي، وخلف الأجمات، وبين أشجار التنوب. لم تعثر عليها، وأيقنت أنها قريبة، وأنها كانت ستراها إن كانت في كامل يقظتها. وصلت إلي فتحة في السياج، وعلمت أن الأبقار هربت عبرها.
بدأت علي الفور في البحث عن الماشية، وتبعت آثار حوافرها علي تراب الغابة الناعم. كان من الواضح أنها انعطفت إلي طريق يؤدي إلي مرج "ساتر"، فقالت: "آها، أعرف الآن إلي أين ذهبت. لقد تذكرت أن أصحاب مزرعة "لوك" سوف يذهبون بماشيتهم إلي هناك في الصباح. ولا بد أن أبقارنا سمعت صوت الأجراس في رقاب الأبقار الأخري، فاندفعت لتتبعها.
قلق "جريترود" جعلها تستفيق، وقررت أن تذهب إلي هناك لتحضر الأبقار بنفسها. وسارت علي الطريق الصخري المنحدر.
وبعد أن صعدت إلي التل، وصلت إلي أرض مستوية وناعمة، تغطيها طبقة من أشواك الصنوبر. أدركت أنه يشبه طريق الحلم، حيث تنتصب أشجار الصنوبر الباسقة ذاتها، وبقع الشمس تومض علي الطحالب الصفراء.
حين رأت الطريق، انتابتها حالة الحلم التي سيطرت عليها طوال اليوم. تقدمت إلي الأمام، وهي تتوقع حدوث شيء غريب. نظرت بين الأشجار لتري إن كان هناك أي من المخلوقات العجيبة يتجول في عمق الغابة، ويمكن أن يباغتها ظهوره. لم يظهر لها شيء، إلا أن أفكارها استيقظت: "وماذا لو انتقمت فعلاً من إنجمار، هل ستهدأ مخاوفي حينها؟ وهل سأتخلص من هلع إصابتي بالجنون؟ هل سأرتاح إذا تعذب هو مثلما أتعذب؟".
كان الطريق الطويل جميلاً. سارت فيه ساعة كاملة، واندهشت لأن الكائنات الغريبة لم تظهر لها. انتهي الطريق عند مرج. كانت بقعة رائعة، تغطيها أعشاب خضراء ندية، وزهور برية عديدة. ويقع الجبل في ناحية من المرج، وتحيط به الأشجار من بقية النواحي. أغلبها أشجار رماد الجبل، تتدلي منها عناقيد من البراعم البيضاء، وتنمو أشجار البتولا والدردار هنا وهناك. وهناك نبع يتدفق منه الماء علي جانب الجبل، ويندفع في قلب المرج، ويسير في فجوة بين أشجار وأجمات قصيرة.
جمدت الصدمة "جريترود"، وعرفت المكان علي الفور؛ إنه "غدير المياة السوداء"، الذي تنتشر حوله الحكايات. فعندما يعبر شخص ما هذا الغدير، تتكشف له الأحداث التي تقع في أي مكان آخر. لقد عبره شاب ذات مرة، فرأي موكب زفاف يتجه إلي الكنيسة في القرية، كما عبره عامل فحم، ورأي ملكاً يضع علي رأسه التاج ويحمل في يده الصولجان، مُتجهاً إلي حفل التتويج.
قفز قلبها من صدرها رعباً، وقالت، وبداخلها رغبة في التراجع: "فليرحمني الرب، لما قد أراه هنا!". إلا أنها بكت، وقالت وهي تنوح: "يا لي من مسكينة، يجب أن أعبر حتي أعثر علي الأبقار". وقفت لتصلي وهي تشبك أصابع يديها، وترتجف من الخوف: "يا إلهي، لا تدعني أري شيئاً مُخيفاً، أو سيئاً.. ولا تجعلني أسقط في الغواية".
لم يكن لديها شك في أنها ستري شيئاً؛ كانت علي تمام الثقة في ذلك، وبالكاد تمالكت نفسها وهي تخطو فوق الأحجار التي تعبر عليها الغدير. بداخلها شيء يدفعها إلي التقدم. وعندما وصلت إلي نصف المسافة، رأت شيئاً يتحرك بين الأشجار علي الجانب الآخر من الغدير. كان موكب زفاف، إلا أنها رأت رجلاً وحيداً يتقدم ببطء نحو المرج.. شاب طويل القامة، يرتدي سترة سوداء طويلة، تصل إلي قدميه. كان رأسه مكشوفاً، وشعره عبارة عن جدائل سوداء تتدلي علي كتفيه، وله وجه نحيل وجميل. كان يتقدم نحوها، ويشع من عينيه الرائقتين نور بهي. وعندما وقع بصره عليها، شعرت أن بمقدوره قراءة كل أفكارها الحزينة، وأدركت أنه يُشفق عليها لأن الخوف من الأشياء الدنيوية التافهة يُسيطر علي عقلها، ولأن روحها صارت سوداء جراء الرغبة في الانتقام، كما صارت زهور الحزن المسمومة تنمو في قلبها.
شعرت "جريترود" بالسكينة وهو يقترب منها، وعندما مر إلي جوارها، اختفي الخوف والقلق من عقلها. اختفت كل الأفكار الشريرة، وكأنها جريحة برأت للتو من جُرحها.
فصل من رواية القدس
تصدر قريبا عن سلسلة الجوائز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.