في البداية نلتقي بجومانا، تلك الصينية المنفتحة علي الثقافات الأخري، بوصفها رمزًا لانكسار الحواجز التي شيدها الصينيون بينهم وبين سائر العالم.. وفي النهاية يختتم الكاتب د. محمود الشنواني كتابه "أهلًا بكين" بهذا العنوان "طريق الصين"، وهو اسم كتاب حمله معه في رحلة العودة من الصين. وبين هذين العنوانين تتعدد اللقطات والمشاهد التي أخذنا إليها الكاتب في رحلته إلي بلاد الصين، تلك البلاد التي أقامت بينها وبين العالم حاجزين منيعين، أولهما سور عالٍ طوله ستةتآلاف كيلومتر، وثانيهما لغة عسيرة الإدراك عميقة الغور، فكان الحاجز الأول ماديًّا حجريًّا، وكان الثاني ثقافيًّا إنسانيًّا. مما حدا بالكاتب أن يتساءل مستغربًا: "شعب يغلب عليه التوجس من الآخرين والغرباء، الذين هم العالم المفترض أن يقودوه، هل سيكون هذا الشعب قادرًا علي القيادة في عالم واسع متنوع؟!". ولكن الكاتب لم يتركنا في الحيرة، إذ سرعان ما وجدنا الإجابة:جومانا.. فتاة صينية اتخذت لنفسها اسمًا أوروبيًّا، تركت مهنة التدريس وصارت تعمل مرشدة سياحية. وسألها الكاتب: - هل أنت مدرسة تاريخ أم مرشدة سياحية؟ - أنا لست مدرسة تاريخ ولست مرشدة سياحية. - لست مدرسة تاريخ ولست مرشدة سياحية؟فماذا تعملين إذن؟! أجابته: بعد دورة الالعاب الأوليمبية صرت أتقن اللغة الإنجليزية، وأستغلها حاليًّا لمساعدة كل من يزور الصين سواء للعمل أو السياحة..وظيفة جومانا إذن هي العمل باللغة الإنجليزية. وكان هذا هو الدليل علي انكسار الحاجزين اللذين شيدتهما الصين في مواجهة الأجانب. ولكن قصة جومانا لم تجب بعد علي التساؤل: هل ستنجح الصين في قيادة العالم في المستقبل القريب؟! وتتوالي اللقطات المعبرة التي سجلتها عين المؤلف النافذة، واستطاع من خلالها أن يلخص الشخصية الصينية، فمن تلك اللقطات زيارة إلي ميدان السلام السماوي؛ ميدان ماوتسي تونج؛ حيث هرست الدبابات في باحته يومًا ما خمسمائة من الشباب المحتجين. ماو في كل مكان، يطل عليك مع كل التفاتة في أنحاء الميدان، حتي إن جسده (مقمطًا في مومياء) مسجي وماثل للجميع. وفي الجانب الآخر تمثال له يشير بذراعه ملوحًا (كعادته) للجماهير، ولكن.. بلا رأس!!.. ويتساءل المؤلف: تُري.. هل يستهزئون بماو؟! ويجيب: ا.. أبدًا يستهزئون.. إنهم يحترمون ماو، ويبتعدون عنه في ذات الوقت. وفي لقطة أخري يأخذنا الكاتب في زيارة لمعبد السماء، حيث العجائز بكفوفهم المجعدة وظهورهم المقوسة يمسكون بأطراف خيوط تنتهي بطيارات ورقية ملونة تتمايل وتتزاحم عبر سماء معبد السماء.. وفي الجانب الآخر مجموعة أفراد من متوسطي العمر ينتظمون في صفوف منضبطة كأنها صفوف عسكرية، يؤدون حركات التاي شيTai Chi الفلسفية. قام المؤلف بعمل وصف بديع لتلك الرياضة العجيبة التناسق، وخلص إلي أن روح الفلسفة الصينية هو الانسجام المطلق بين الأضداد؛ الخير والشر؛ الخطأ والصواب؛ الكتلة والفراغ؛ الفشل والنجاح؛ الهمس والصخب. وفي لقطة ثالثة يحكي لنا الكاتب حكاية من منظور نجله الشاب "حسام محمود الشنواني"، الذي يعمل بإحدي الشركات في الصين،وأن الشركة التي يعمل فيها قررت في أحد الأيام أن تنظم حفلًا لمنسوبيها، وضربت لذلك موعدًا، وسأل حسام أحد زملائه في العمل من الصينيين إن كان سيحضر الحفل، فأجابه الصيني: دعني أسأل الBossأولًا ثم أقرر..وكان يعني بالBossرئيسه المباشر (وليس زوجته كما فهمها حسام، وكما يفهما أي منا نحن المصريين).. وخلص المؤلف من تلك الحكاية إلي أخص خصيصة ساعدت الصين علي تحقيق معجزتها الاقتصادية: "شوية إبداع.. كثير من الانضباط والآلية". ثم ينتقل بنا الكاتب إلي قلب الصين.. دخل المؤلف حديقة. الحديقة اسمها "حديقة الاهتمامات المتجانسة". كيانه يهمس داخليًّا بقصيدة "عمر الخيام" الصوفية الرخيمة: "سمعت صوتًا هاتفًا في السَّحر". المؤلف يتهادي بين أشجار حديقة الاهتمامات المتجانسة، يتشمم عبق أزهارها، ويتناهي إلي مسامعه صداح عصافيرها وتغريد طيورها.. ولكن كما يقول: "دخلت إلي حديقة الاهتمامات المتجانسة. خرجت من حديقة الاهتمامات المتجانسة!". فلو قمنا بإبدال عبارة "الاهتمامات المتجانسة" بكلمة "الصين" فلن نكون ابتعدنا عن الحقيقة، فالمؤلف دخل إلي الصين.. والمؤلف خرج من الصين. خرج ومعه كتاب اسمه "طريق الصين" كان قد جاء به من مصر، وظل في معيته طوال مشوار الرحلة، وفي المقعد المجاور له في طائرة العودة جلس مواطن أمريكي يحمل هو الآخر كتابًا بعنوان ""China Road. إن كتاب "أهلًا بكين" ليس كتابًا من كتب الرحلات التي ألِفناها، وإنما هو كتاب للتأمل في المجهول. فالتحية والشكر جزيلًا للمؤلف د. محمود الشنواني.