أى محاولة لتتبع سيرة الرواية العمانية والكتابة الإبداعية بشكل عام فى عمان دون التطرق إلى تجربة الكاتب الراحل على المعمرى والوقوف عندها تأملاً وتحليلاً لا يعول عليها. فالتجربة مجدولة الضفائر، ومتشابكة كخيوط عنكبوت، ومتعالقة كتعالق قشرة البصل. إنّها علاقة محبة ينسال كلامها شعراً، وأى شعر بلا حبّ لا يعول عليه. وقليلون هم المبدعون الذين يكون لكتابتهم معنى، ولمرورهم تأمل. ونادراً ما يجتمع رأى على مبدع إجماع الكل بالاعتراف والقبول أو النبذ والرفض والنفور، ولكنهم فى ذلك الكل الكبير يتفقون على الاستثناء. وفى تقديرى الشخصى أن الكاتب على المعمرى كان أحد الاستثناءات الإبداعية القليلة جدا. والذين عرفوا «علي» إنساناً وأحبوه وتعاملوا معه على ذلك النحو، يتجنبون عدم الخوض فى تجربته الإبداعية. والذين قرأوا نتاجه السردى يصبحون أكثر قدرة من غيرهم للاقتراب إلى إنسانيته. وأمّا الذين لم يشاهدوه من الشرفتين فلم يطلوا على إنسانيته ولا ألموا إبداعه، فلا تثريب عليهم. وأظننى قد عرفت على المعمرى مبدعاً قبل أن أتعامل معه فى حدود إنسانيته، وضحكه، وهزله، وجده، ومخيلته الخصبة التى تزخر بالواقعية السحرية إلى حد التجاذب والتعارض، وهذا الأثر الوحيد الذى يبقى ويُخلّد ويتناقل عبر الأجيال، وهو ما أعول عليه. تاريخياً شهدت الأعوام الواقعة ما بين 1990 إلى 2000م فى عمان وفرة كبيرة فى السرد الروائى والقصصي. وكانت مجموعة على المعمرى "أيام الرعود عش رجباً، ومفاجأة الأحبة" تشق طريقها إلى الحياة الثقافية العمانية كمشاريع متحررة من تقاليد الكتابة التقليدية ومنعتقة من الأخلاق المتفق عليها. ثم أتبعهما بمجموعته القصصية "سفينة الخريف الخلاسية"، ومجموعة أخرى هى "أسفار دملج الوهم"، ورواية "فضاءات الرغبة الأخيرة". وفى هذه الرواية التى صدرت سنة 1999م يصعب فك النسيج الموضوعى للحكاية التى أراد السارد إيصالها إلينا. حيث يختلط فيها العام بالخاص، الواقعى المألوف باللاواقعى واللامألوف، التناغم بالتناقض، البناء بالهدم، التجديد بالمحافظة، ومن العبث هنا محاولة تبسيطها أو تلخيصها. لما اقتربت من كتابة على المعمرى الإبداعية راهنت بحذر على اكتشاف البعد الإنسانى فيه. فتساءلت: كيف كان يتعامل؟ وكيف كان يُعلق على الأحداث بلغة ساخرة؟ وكيف كان يكتب؟ وكيف كان يُحب الحياة ويُقبل عليها؟ كان ذلك قبل أن أنتقل للإقامة فى مسقط. وكنتُ ما زلت جديدة العهد على هذه المدينة الهادئة، وجديدة العهد على النادى الثقافي. وفى ذلك الزمن البعيد العائد إلى عقد الثمانينيات حينما كنت أزور مسقط لأحظى بحضور ندوة، أو الاستماع إلى قصيدة، كان يَنتصبُ أمامى أسماء الكتّاب العمانيين والمبدعين المتحققين، وكان اسم الروائى على المعمرى بصخبه وجدله أحد هذه الأسماء. وفى ندوة بالنادى الثقافى لا أتذكر تاريخها بالضبط، كان لقائى الأول به عندما سمعته يلفظُ مصطلحات نقدية، ويُخبرنا عن اتجاهات فكرية لم أكن على اطلاع واسع بها فى ذلك الوقت، فرنت جملته "جيل الغضب" فى أذنى اليمنى، واستقرت فى اليسرى جملته الثانية التى تجيز سرقة الكتب فهى حلال كما كان يقول بالعشرة"! فى فضاءات الرغبة الأخيرة السارد وعلى وجهان لراو واحد هو (على الزمان). وكأن اللحظة العائدة إلى زمن العتاقة التى قرر فيها على الزمان مواجهة زمانه بوجهه الحقيقى وبكشفه لأناه المسكونة بالفوضى والترحال، والروح المتنقلة من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن، كأنه فى لحظته يتوازى مع لحظة الروائى على المعمرى المعاصرة والغادية إلى الذبول والصمت، اللحظة الفاصلة ما بين قرارين حاسمين إمّا الترحال والتحرك فى الضجر، أو العودة والاستسلام للمكان العمانى الأول والأخير، مدينة وقرية وبيتا وسيحا ومفازة وصحراءً وخيمة وغافة. ولما تلقيتُ رسالة وصلت إلى هاتفى من الكاتب محمد الحضرمى هذه كلماتها: " قال على المعمرى فى أيامه الأخيرة وهو فى فراش المرض بالمستشفى السلطانى إذا مُت، فادفنونى فى قريتى التى ولدت فيها، حتى تسقى دمائى وعظامى وعروقى أرضها، كما هى سقتنى من مائها وعشبها الأخضر، أريد أن أنبت فيها شجرة غاف وارفة، سيستظل تحتها غريب عابر، أو صديق عاثر... لا أريد أن أترك قريتى ثانية، يكفينى الرحيل، تعبت من الترحال والتشرد"، أيقنتُ استقرار السارد فى منفاه وتخلصه من نظرية "القلق الفندقي". كانت مدينة القاهرة فى تلك اللحظة تقتات على التاريخ القريب لجمال عبد الناصر، وكان المثقفون قلقين ويستبشرون عهداً جديداً قادماً لا محالة. فالشوارع تضج بالانتفاضات الطلابية والنقابات تعج بالوقفات الاحتجاجية، والمقاهى تتغنى بمصر يمه يا بهية... يمو طرحة وجلابية.. الزمان شاب وانتى شابة... هو رايح وانتى جاية... وعلى خاصرة مقهى جروبى فى ميدان طلعت حرب عام 2010م التقيت بعلى المعمرى وبعد أن تبادلنا التحيات المباركات أطلقنا ساقينا لريح القاهرة وبردها الحميم. تجولنا فى نزهة طويلة، وسافرنا إلى مسقط، وإلى خيام الشعر، ومملكة سيام، وإمبراطورية أوراساء، ورابية الخطار، وهمسنا عن جسور الذاكرة، وعن مقهى مسقط البحري، والنادى الثقافي، وحراك الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، ونبشنا قبور الأولياء والأصدقاء والشعراء والمبدعين فى مصر وفى العالم. وحيث كان الحنين إلى عمان هو العشق القاسى والقصي، توقفنا وأنخنا سفينتنا الخلاسية لتكن محطتنا الأخيرة عند روايته المخطوطة (بن سولع) إذ كان تجنب الحديث عنها غير ممكن أبداً. تجاذبنا أطراف الحديث كله عن هذه الرواية، عاليها وأسفلها، باطنها وخارجها، شخصياتها وزمنها، حدودها الجغرافية والتاريخية، لغتها، ومصادرها، ودار النشر المقترح طباعة الرواية معها، وصفحاتها، ونوع الورق، وحجم القطع، وأبعادها ورهانها الإبداعى قبل كل شيء وبعده. وبعد أن انتهينا قلت له إننا فى لجنة الأدب والإبداع بالنادى الثقافى بصدد عقد مؤتمر عن الخطاب النقدى فى الرواية العمانية، فأرسل لنا الرواية حتى تكون متيسرة للباحثين والباحثات، أو للقراء والقارئات، وكان ما كان من سطور ذلك الإهداء الذى سطره بكلماته ومنها هذه الكلمات... استمراراً لحوارنا ها أنا أفى بما وعدت... مع خالص الود... ومع خالص الود يا علي.. مع خالص الود...