أعوام من المحبة والوئام بين المسيحيين والمسلمين بل بين المصريين، الذين تعايشوا سويًا عصور الاحتلال والنضال، والنكبة والحروب والفرحة بالنصر، وكذا تعايشوا الأعياد وتبادلوا التهاني والمشاركة فكان كلاهما للآخر نبعا للحب وغصن " زيتون"، وكان الآخر حمامة سلام، ورغم ما حدث بالوطن من محاولات كثيرة لإثارة الفتنة والفرقة إلا أن كلا منهما للآخر حبل مفتول لا يُفك، وكما وصف الكثيرون من القساوسة والأئمة بأن "العمامة البيضاء، هي بياض العين والعمامة السوادء هي قرة العين فلا يبصر الإنسان دون أحدهما "، وكان وما زال الشيخ والقس "اثنين تحت لواء واحد هو الله خالق الكل". كما اجتمع السواد والبياض، الكاهن والشيخ للنضال ضد الاحتلال الإنجليزي، وعاشوا معًا مرارة النكسة، وحاربوا معًا في أكتوبر المجيدة، وثاروا معًا ضد الاستبداد، إذا بهم يجتمعوا معًا في شهر "رمضان الكريم" بمائدة أغابي كما يسميها الأقباط، والمحبة المصرية، والعيش والملح، والوحدة الوطنية، فهي مائدة الرحمن، التي كانت بمثابة فكرة عبقرية بادر بها أحد الكهنة الأرثوذكس وهو "القمص صليب متى ساويرس" راعي كنيسة الجيوشي بشبرا، حيث نصب مائدة في فناء جمعية السلام القبطية، في عام 1969، في عهد البابا كيرلس السادس، والتف حولها الشيخ والقس والفقير والمسئول والمسيحي والمسلم، فكانت مائدة تحت اسم "المحبة المصرية".. وجمعت المصريين حولها، وظلت كثيرًا حتى أصبحت عادة لمشاركة الفطور الجماعي بعد صيام أيام الشهر الكريم. ومرورًا بالوقت وبعد نياحة البابا كيرلس السادس، في عام 71، وتنصيب البابا المتنيح "الراحل شنودة الثالث " وبعد إنهائه فترة التحفظ الذي أقامها عليه الرئيس الراحل أنور السادات بالقوة الجبرية بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، جاء "شنودة" لينمي الفكرة وليبدأ بها من جديد بل وتعمم في كل الكنائس القبطية الأرثوذكسية كافة. وأطلق على مائدة رمضان التي تقام سنويًا داخل الكنيسة آنذاك "الوحدة الوطنية "، ومع مرور الوقت أصبحت تلك المائدة مثل الطابع الرسمي، إذ أنها اقتصرت على كبار الشيوخ والأساقفة ورجال الفكر، والإعلام والمسئولين، وبدأت تخلو من العامة، في الكنيسة الأم "الكاتدرائية" أما في الأماكن الأخرى فكانت للعامة والشعب مسلمين وأقباط. وجاءت كلمة البابا شنودة حيال إحدى الموائد الرمضانية التي كانت بالمقر البابوي، فكان يصف شهر رمضان بالتلاقي بين المسلمين والمسيحيين، وكان دائما ما يؤدي شيخ الأزهر والحضور صلاة المغرب بالمقر البابوي بالمرقسية، ودائما ما كانت تختتم كل مائدة بأبيات شعر في حب مصر ففى إحدى المرات قال البابا الراحل "مصر التي في مهجتي أحببتها بفطرتي تشغلني في خلوتي أذكرها في صلواتي هي أمي وأمتي". ولم تقتصر مائدة الوحدة الوطنية على الكنيسة فحسب وإنما هناك العديد من الأقباط كانوا يقيمونها كمشاركة لإخوانهم المسلمين فى شهر رمضان، صومًا وإفطارًا، وكانت تحت مسمى "المحبة والعيش والملح". وحال إعياء البابا الراحل شنودة الثالث، توقفت المائدة عن بعض الكنائس خلال عام 2011، ولكن لم يتوقف نهر المحبة والإخاء بين المسيحيين والمسلمين، فإذا برعاة الكنائس من الكهنة يستبدلون المائدة بإمداد المحتاجين والكادحين من إخوانهم المسلمين، عوضًا عن "مائدة المحبة، والوحدة الوطنية" فإن الطاولة لم تكن هي الوحدة وإنما الوحدة الحقيقية هي بالقلوب بها أو بدونها "المسيحي والمسلم متآخين ومتحابين ومجتمعين". وفي حلول الشهر الكريم هذا العام وبالرغم من الأحداث التي تمر بها البلاد إلا أن البابا تواضروس بادر بالتهنئة قائلًا: " أهنئ أخوتي الأحباء المسلمين بصوم رمضان المبارك، وليقبل الله الصلوات والأصوام، وتوبة القلوب، والنفوس، داعيًا أن يحفظ الله جميع المصريين من كل شر وخطر". كما انطلق عدد من الكنائس الأخرى في إقامة مائدة الرحمن وكان من بينها الكنيسة الإنجيلية والتي بدأت فيها منذ عام 1990، ليؤكد كل ذلك أن المسلم والمسيحى بمصر يجمعهما غرس المحبة الدينية، ولواء الوطن العظيم الذي يخدمه أبناؤه وتحيا تحت ظلاله، فعلى مر العصور ورغم كل الأزمات فالوئام والمحبة رمزًا كان ولا يزال هلالا يحتضن صليبا.