يجدر بنا الإشارة إلى تعمدنا فى الجزء السابق من هذا المقال عدم التطرق إلى مناقشة كثير من المواقف الرافضة والمعارضة لمبادرة البديل، التى طرحها الأسبوع الماضى عدد من القيادات السياسية والحزبية، بينهم المرشح الرئاسى السابق حمدين صباحى، وهذا التعمد لا يرجع فى الحقيقة إلى موقف هؤلاء فى ذاته، بل لأنها تأتى طبيعية ومتوقعة بل ومنطقية وتعبر عن اتساق أصحابها مع أنفسهم ومع مصالحهم ومع انحيازاتهم. وإن كان يبدو غريبًا ومذهلاً أننا قد وصلنا إلى مرحلة مجرد الدفاع عن الحق فى المعارضة، والحق فى التعبير عن الأفكار، والحق فى السعى لتجسيدها فى تنظيمات، فإن المذهل أكثر هو أن يأتى بعض هذه المواقف ممن يزعمون أنهم قيادات أو مسئولون أو كوادر أو نواب، يعبرون عن أحزاب وقوى سياسية لا ترى فى نفسها (بديلًا) ولا حتى مشروعًا لذلك، بينما يملؤون الدنيا ضجيجًا عن الديمقراطية والمشاركة فى الانتخابات التى تفرز الأوزان والتأثير فى الشارع، بينما هم ونحن وغيرنا نعلم كيف صنعت أحزابهم وبرلمانهم، ومع ذلك فهم حتى لا يستطيعون الحفاظ على مجرد (الشكل) الديمقراطى بمنح غيرهم، بل وأنفسهم، الحق فى طرح البدائل، بما فى ذلك أن تكون بدائل للسلطة القائمة بل وأى سلطة قادمة.. أما هؤلاء الذين يواصلون الخلط المتعمد بين الدولة والسلطة، فلم يعد هناك ما يمكن قوله لهم سوى أنهم ومن هم على شاكلتهم فى تلك الطريقة من التفكير من قادوا بلادًا مجاورة لما وصلت إليه، ومن يقودون مصر الآن إلى هذا المنحدر الخطير باستماعهم لأصواتهم فقط وإنكار أى أصوات أخرى. وعلى طريقة مبارك نقول لهم (خليهم يسمعوا نفسهم بس).. لكن فيما يتعلق بالقوى المختلفة المنتمية لثورة يناير فلا تزال بحاجة إلى مزيد من النقاش والتفاعل معها ومع انتقاداتها أو مخاوفها إزاء طرح مبادرة (لنصنع البديل). (4) القضايا الشائكة والخلافية بين أطراف تيار ثورة يناير تبدو كبيرة ومتعددة، لكن ربما تمثل النقاط السبع المطروحة فى مبادرة (لنصنع البديل)، أساسًا ومدخلاً يمكن التوافق عليه، وبما يمثل أصلاً التوافق الطبيعى والضمنى عليه سببًا من أسباب عدم الحوار حول مضمون المبادرة، بقدر ما كان حول من يطرحونها.. وهنا تأتى مشكلة أخرى.. اختزلت مبادرة لنصنع البديل عمدًا من جانب البعض فى اسم حمدين صباحى، انطلاقًا من استسهال الحكم على المبادرة حسب الموقف من توجهات ومواقف صباحى، أو اعتمادًا على أن استهداف صباحى بكل ما جرى له من تشويه على مدار العامين الأخيرين يسهل من القضاء مبكرًا على هذه المبادرة.. والحقيقة أن القضية كانت وستبقى أكبر من صباحى ومن أى اسم شخصية مع كل الاحترام والتقدير لكل الأسماء، كما أن الحقيقة أن هذه المبادرة طرحت من جانب عدد كبير من الأسماء والشخصيات، ولا يزال يجرى توسيعها، وإذا كان البعض يرى أنه حتى الجماعة التى أطلقت هذه المبادرة محسوبة على صباحى، فإن هذا أمر قابل للتطوير والتوسيع بقدر ما تتفاعل معه الأطراف الأخرى. هنا يبدو الاتفاق والخلاف مع ما يمثله صباحى من مواقف وما يثار حولها من جدل نقطة رئيسية، وفى الحقيقة لا ينبغى لها أن تكون كذلك، خصوصًا إذا نجحنا فى الانطلاق مما أشرنا إليه سابقًا من أهمية المراجعات والمكاشفات من جانب كل الأطراف، لكن سيبقى هنا التساؤل الذى يطرح أيضًا بوضوح حول الأدوار المستقبلية.. طبعًا الخصوم التقليديون والمتوقعون لهذه المبادرة انطلقوا من فكرة أن تصدر صباحى لمثل هذا الطرح يعنى أنه يقدم نفسه وشخصه بديلًا عن الرئيس الحالى، لكن شيئًا من هذا أيضًا جاء فى ردود فعل بعض الأطراف، أو حتى الأفراد الذين يفترض أن يكونوا مستهدفين فى مستوى ما من مستويات أطر هذه المبادرة.. وهنا جاءت التباينات والتفاوتات لدى هؤلاء، فالبعض يرى انطلاقًا من موقفه أن تصدر اسم صباحى يعنى أن ذلك يتم كنوع من المعارضة المستأنسة والمتفق عليها مع السلطة أو بعض أجهزة فيها، فى ظل انطلاقهم من كون الانتخابات الماضية كانت مسرحية مرسومة ومتفقًا عليها.. وبالتالى خشيتهم من أن تكون هذه المبادرة كلها تتم باتفاق مع الدولة أو النظام أو مدفوعة منهما، وطبعًا هذا المنطق رغم كل الاحترام لأصحابه من المخلصين والمنتمين للثورة، وكل الاختلاف معهم كذلك، هو دليل على قدر من الاختلال فى إدراك حقائق الأمور، وفى قراءة الوقائع الراهنة والسابقة، بما فيها مشهد الانتخابات الرئاسية السابقة نفسه ودوافعه ونتائجه وما بعده.. وهؤلاء بقدر ما يستحقون من نقاش جاد معهم لتجاوز الفكرة المشكلة لديهم، لا عن شخص صباحى تحديدًا، وإنما لطريقة تقييمهم وحكمهم على غيرهم، ممن يفترض أنهم شركاء فى تيار ديمقراطى مدنى ثورى واسع، مهما كان حجم الاختلافات فى تقدير المواقف والآراء فى مراحل مختلفة.. لكن البعض الآخر الذى يبدو متحفظًا أيضًا، لا بسبب المبادرة فى ذاتها وإنما بسبب من طرحوها أو تصدروا مشهدها، ينطلقون من زاوية أخرى، هى زاوية عدم الاستعداد للثقة والرهان مجددًا على النخب القائدة منذ ثورة يناير، أحيانًا لأسباب جيلية ترى أن هناك شبابًا صاروا أحق بالمبادرة والقيادة، وأحيانًا لأسباب تتعلق بما يعتبرونه مسئولية هذه النخب عن فشل وخذلان فى العديد من المواقف.. وهذه وجهة نظر ربما تكون غالبة وسائدة لدى كثير من القطاعات الشابة المسيسة المنتمية ليناير، ولها ما يفسرها ويبررها.. وهؤلاء أيضًا يستحقون من الجهد فى التفاعل والحوار والنقاش معهم الكثير، لكن السؤال هنا سيبقى حول كيف تستطيع هذه الأجيال الجديدة تولى زمام المبادرة فى إطار السعى لبناء التنظيمى لا مجرد الاحتجاج؟ وكيف يمكن حدوث ذلك فى ظل تباينات عديدة بينهم سياسيًّا وفكريًّا وفى مواقف متعددة؟ ثم هل يعنى أن تتصدر الأجيال الجديدة المشهد وتتصدى لمسئولياتها أن تنكر أدوار وجهود نخب سبقتها، وأدت ما تستطيع قدر إمكانها حتى لو اختلفنا معهم؟ ولماذا إذن إن كان كل هذا ممكنًا غابت المبادرات الجامعة والقادرة على جذب التفاعل معها على مدار العامين الماضيين إلا فيما ندر؟ القضية هنا بالتأكيد تحمل الكثير والكثير من النقاط التفصيلية، وربما جوهرها هو الصراع الجيلى، لكنها أيضًا تتعلق بطريقة تفكير وحكم الأجيال الجديدة المنتمية ليناير ومدى قدرتها، بل ورغبتها، فى التوجه نحو إقامة بناء تنظيمى بأى صيغ وأطر له، وأن تنجح فى إيجاد مساحة اتفاق مشترك على ما تنحاز له بشكل محدد، لا فى إطار الشعارات الأساسية فحسب، ولا فى إطار ما هى ضده فحسب. طبعًا هناك فريق آخر أيضًا لا يمكن تجاهله، وهو الذى قد يعتبر هذه المبادرة مجرد إعادة طرح لما سبق تقديمه مرارًا، وبالتالى فهى تفتقد الجدية الكافية فى التعامل معها من هذا المنطلق، فضلاً عما أصابهم وغيرهم من إحباط ويأس وتوجه للبحث عن نجاحات على المستوى الشخصى والعملى، وإن لم ينجحوا فى إدراكها أيضًا فى أغلب الأحوال.. أيضًا فهناك فريق رابع، ممن قد يتبنى نفس الأفكار، لكنه فى الحقيقة ينتجها فى سياق مختلف ومع نخب خفية بعضها ممن لم يحسب يومًا على ثورة يناير، بل وفى الحقيقة ربما يعد معاديًا لها، وفى الحقيقة فإن هؤلاء ممن يمكن اعتبارهم فعلاً يتحدثون عن تغيير للأشخاص لا السياسات ولا المشروع! (5) هناك الكثير من المسكوت عنه فى مصر، وحجم الأزمة المتزايد على أصعدة متعددة يثير القلق، والارتباك السائد سواء فى معرفة الحقائق أو قراءة المشهد يطول الجميع.. ومن هنا تأتى أهمية توقيت طرح مبادرة لنصنع البديل، التى لا ينبغى التوقف كثيرًا أمام من طرحوها والموقف منهم، بقدر ما ينبغى الاستفادة منها فى استعادة قدر من الزخم حول الفكرة الجوهرية، وهى بناء تيار سياسى جماهيرى واسع بأطر متعددة يمتلك من التنظيم والأدوات ما يمكنه من الانتصار لثورة يناير وأهدافها.. وهى فرصة ملائمة لإعادة الجدل السياسى لمصر التى ماتت فيها السياسة، وهى كذلك فرصة لمراجعة ومعالجة كثير من المفاهيم، وتصحيح الكثير من الأخطاء، وإعادة وصل ما انقطع من حوار مباشر بين أطراف متعددة حتى لو تصل إلى اتفاق وظل بينها قدر من الخلاف.. وهى كذلك فرصة أيضًا لمزيد من المبادرات، سواء لتجسيد نفس الأفكار فى أطر أخرى أو للتناغم مع هذه المبادرة.. والأهم من كل ذلك ألا تتوقف هذه المبادرة عند حدود طرح وثيقة وبيان وما أحدثه من جدل حوله اتفاقًا وخلافًا، بل أن تمتد إلى خطوات عملية جادة ومنظمة وفاعلة.. صحيح أن المشهد كله فى مصر يبدو فى حالة سيولة وفوضى، وحجم ما هو مختلف عليه من تقييم وتقدير، مَن مع مَن ومَن ضد مَن، وطبيعة الصراع الجارى الآن، وربما هذا واحد من أهم الأسباب التى تجعلنا نهتم بهذه المبادرة وما تثيره من تفاعلات، خصوصًا أنها تطرح بوضوح (بديلاً مدنيًّا ديمقراطيًّا) بمعنى السياسات وبمعنى التنظيم وبمعنى الأهداف، وتبقى مسألة الأشخاص لاحقة وتالية لهذا كله، وهو ما يختلف جوهريًّا مع أطراف أخرى تتحدث عن بدائل أيضًا، لكنها تقف عند حدود الأشخاص، سواء الآن أو بعد حين، وهو ما سيجعلنا مجددًا ندور فى نفس الدائرة التى لم تنتج جديدًا، بل وربما تصل بنا إلى ما هو أسوأ، ولعل بعض الأسماء والأدوار التى تتردد فى بعض الدوائر وإن كانت محدودة تشير إلى قدر مما هو مسكوت عنه، ومن هنا يصبح واجبًا بل وضرورة أن يستفاد قدر الإمكان من طرح مثل هذه المبادرة والتفاعل معها، ليس بالضرورة بالاتفاق معها وإنما بالجدل والسعى للتطوير أو حتى فرز ما هو أفضل منها، لكن المهم أن تمثل بداية جادة ومدخلا صحيحًا لمصالحة واسعة يحتاج إليها ما يسمى تيار يناير نفسه، فيما بين أطرافه الحقيقية وجمهوره المتعطش لتحقيق أهدافها، ودون أن نخطئ مجددًا فى توسيعه بما يخل بمضمونه وانحيازاته، لكن دون أن نقع أيضًا فى خطيئة اختزاله فى من يرون فى أنفسهم فقط أصحاب صكوك الثورية.