«وحش السرطان» يلتهم الأطفال.. 33 ألف طفل مريض بالسرطان في مصر عند مدخل الصالة الرئيسية بمستشفى الأطفال الجامعي بعين شمس، كانت تنتظر الطفلة "نورهان محسن"، ذات ال12 عشر ربيعًا، طلبت عدد من العاملات بالمستشفى منها الانتظار في الطابق الأسفل؛ للانتهاء من تنظيف وتهوية وتعقيم وحدة الأورام الوحيدة هناك، والتي تتلقى بداخلها - نورهان - جلسة العلاج بالكيماوي برفقة 8 أطفال آخرين في نفس عمرها ومن هم أصغر منها، من بين 17حالة مريضة بالسرطان بالمستشفى الجامعي، لمن هم دون الرابعة عشر، من إجمالي 33 ألف طفل مريض بالسرطان في مصر، بحسب إحصائية حديثة صادرة عن المعمل الإحصائي التابع للمعهد القومي للأورام بالقاهرة. عبر ابتسامة كبيرة تسكن صفحات وجهها الملائكي الصغير، وملامح البراءة التي تسبق كلامها الملئ بالتفاؤل والمسكون بالإرادة والأمل واليقين، وحسن الظن بالله، والتي غرسه بداخلها أقرباؤها الملازمين لها طوال رحلة العلاج التي اقتربت من الشهرين حتى الآن. ورغم الحرارة العالية الملازمة لجسدها الصغير، ولا تجدي معها الكمادات أو الاستحمام والحقن والمسكنات التي فقدت بسببها طعم الأشياء من كثرة تعاطيها، إلا أن والدها محسن شافعي، أصرّ على أن تروي بنفسها تفاصيل مرضها الحالي "اللوكيميا" أو "سرطان الدم"، دون خجل أو خوف. البداية كما تروي الطفلة نورهان كانت يوم 8 يوليو الماضي، حينما شعرت ب"سخونية" وإعياء شديد، وألم في بطنها لم تتحمله، فاتصلت والدتها بأبيها الذي حضر على الفور من عمله في مأمورية الضرائب، ليذهب بها إلى أحد أطباء الحميات بمنطقة المرج، والذي طلب منهم سرعة إجراء تحاليل "بول وبراز ودم ووراثة" في إحدي المعامل الخاصة. وأخبرهم الطبيب المختص: "البنت دي لازم تروح لدكتور أمراض دم بسرعة"، فتوجهوا بها إلى مستشفى الجنزوري التخصصي بميدان ابن سندر في مصر الجديدة، وتم تحويلها لمستشفى الأطفال الجامعي "أبو الريش"، وبعد اطلاعهم علي التقارير الطبية والتحاليل والأشعة هناك، قالوا لهم: "نورهان عندها لوكيميا في الدم". الصدمة .. "بنتك عندها سرطان" "الخبر نزل علينا كالصدمة.. إحساس بالموت والعجز متلازمين عن فعل أي شئ لابنتنا أول فرحتنا في الحياة".. هكذا استقبل الوالدين نتيجة التحاليل والأشعة، فضلاً عن النفقات والتكاليف الباهظة التي يتحملونها كل يوم، بداية من إجراء الأشعة والتحاليل في المعامل الخارجية، وحجز غرفة خاصة لها بالمستشفى لتلقي جلسة الكيماوي، مرورًا برحلة العذاب التي قطعوها بين المعامل والمستشفيات؛ لاكتشاف المرض، ورفض استقبالها في مستشفي سرطان الأطفال (57357) بحسب تعبير والدها، بدعوى عدم وجود أماكن شاغرة وأسرّة كافية، رغم توسطهم لدى أحد الأطباء المعروفين، ولكن دون جدوي. وبكلمات ممزوجة بالأسى والحزن، يقول الأب: "المستشفى دي مش لينا يا أستاذ، دي لعيال البشوات الكبار"، خاصة في ظل وجود أكثر من 20 حالة مثل ابنته تم تحويلها إلى معهد ناصر الاجتماعي والمعهد القومي للأورام، الأمر الذي لم يتقبله الوالد، فعاد بها إلى المستشفي الجامعي، وهناك بدأت "كورسات" العلاج، بداية من تلقي ثلاث جلسات كيماوي خلال الأسبوع الأول على مدار شهر كامل، ثم المرحلة الثانية الأصعب، والتي تؤثر على جهاز المناعة بشكل كبير، وتخضع خلالها المريضة لجلسة واحدة كل يوم أحد مع تناول أقراص وحبوب "الكيماوي". وتضيف والدتها في حزن واضح يظهر في حديثها، ويُخيم على إحساسها الداخلي، وهي ترى فلذة كبدها تتوجع من أثر العلاج: "بعد كل جلسة علاج بنتي بتبقى لاعاوزة تاكل ولا تشرب، ولا تكلم حد، وكل اللي بتطلبه إنها نفسها تنام والسخونية تنزل، خاصة بعد تلقي جلسة العلاج بالكيماوي، وأخذ حقنة دورية في الظهر، يطلقون عليها "بذل نخاع" لاستخراج عينة جديدة من دمها لتحليلها". رحلة عذاب في العلاج يدفع ثمنها الأطفال وذويهم معاناة وألم وعذاب.. ثلاث كلمات تلخص حال مريض السرطان الذي يبدأ منذ الساعات الأولى لتلقي جلسة العلاج عبر قطع تذكرة بالعلاج من الدور الأرضي، ثم يصعد للدور الثاني؛ لأخذ عينة من دمه قبل أن يسلمها بنفسه إلى الدور الرابع بالمستشفى، صعودًا على قدميه في ظل تعطل المصعد الكهربائي للصيانة، ثم الكشف وانتظار نتيجة التحليل لبدء جلسة العلاج الكيماوي، وفي كل مرة تتكرر تلك الرحلة الموجعة للمريض قبل الأهل. طفلة مصابة بسرطان الدم: نفسي أطلع دكتورة بس أي حاجة مفيهاش دم بكلمات مقتضبة مليئة بالأمل، ومشحونة بطاقات من النور والتحدي والإصرار على الحياة، أخبرتنا الطفلة نورهان عن أمنيتها الوحيدة في الحياة، قائلة: "نفسي أخف عشان أريح أهلي اللي عرفت قد إيه همّ بيحبوني، وكمان نفسي أطلع دكتورة عشان أعالج الناس العيانة، بس أي حاجة مفيهاش دم". تصمت صاحبة ال12 عامًا، للحظات قبل أن تسرد أسباب ذلك القرار، فتقول: "بخاف من الدم، وحينما أخذت والدتها تمهد لها الطريق عن ضرورة قص شعرها بعد أيام، لم تخف أو تبكي وترفض العلاج، بل قالت لها بقوة إرادتها الذاتية: "لما شعري يطير يا ماما أحسن ما عيني تطير". زينب مصابة بفيروس سي وفقر الدم.. والدتها: "نفسي أعالجها بره مصر" علي بعد مائة كيلو متر من المستشفى الجامعي للأطفال بالقاهرة، توجهنا إلى مركز الأورام بالمنصورة، وهناك في الدور الثالث من قسم (15) تقع الوحدة الوحيدة المتخصصة لعلاج أمراض الدم وأورام الأطفال في منطقة وسط الدلتا، وتتبع مستشفي المنصورة الجامعي، والتي تحتوي على 20 سرير، وتتسع لنحو 40 مريضًا، الذين يتم تحويلهم إليها من مختلف محافظات الدلتا. بكاء متواصل من الألم المتزايد في بطنها، وعزوف تام عن الكلام من كثرة الحقن التي خدرت جسد وعقل الطفلة زينب السعيد محمد، ابنة الثماني أعوام التي كانت تجلس في حجر أمها، تبحث عن النوم على إحدى الأسِرَّة داخل المركز، منتظرة جلسة العلاج بعد أخذ عينة دم منها. تجلس "زينب" لساعات طويلة على جهاز نقل الدم، والتي لا يتحملها جسدها النحيف، والمحاليل الموصولة بذراعها تجعلها أشبه بالوردة التي أصابها الذبول، فتمكن المرض من جسدها النحيل، فأصاب وجهها بالإصفرار، وعينيها بالإحمرار الدائم من قلة النوم، وكثرة البكاء ممن شدة الوجع، واكتشفت والدتها إصابتها بأنيميا البحر الأبيض المتوسط أو ما يعرف علميا ب"الثلاسيميا"، فضلاً عن إصابتها بالتهاب الكبد الوبائي "سي" بعد مرور ثلاثة شهور من ولادتها نتيجة نقل دم لها من بنك الدم التابع للمستشفى الجامعي. ويصيب مرض "الثلاسيميا" - الوراثي - حوالي 7 مليون مصري، وهو أخطر ما يصاب به مريض أنيميا البحر الأبيض المتوسط؛ نتيجة عمليات نقل الدم المتكررة طوال حياته، وعدم إجراء الأبوين فحوصات ما قبل الزواج التي تمثل مفتاح الوقاية من المرض، ولا بديل لذلك سوى "الدم" وأقراص" تؤخذ بشكل متواصل مدي الحياة لإنزال نسبة الحديد في الدم، وهي مكلفة للغاية، وتتخطى الخمسة آلاف جنيه شهريًا، بما لا تتحملها ميزانية غالبية الأسر المصرية. مرت ثلاثة أشهر على رحلة علاج الطفلة الصامتة زينب، ولكن دون جدوى أو بارقة أمل في الشفاء، كما تقول والدتها: "نفسي أسفرها بره.. الأدوية هنا غالية قوي، ومفيش نتيجة بعد كل ده"، وأنها تتمنى أن تعرض حالتها على كبار الأطباء بالخارج لإعادة البسمة من جديد إلى وجهها الصغير قبل أن تودع حياتها في سن مبكرة. أكثر من مليون و900 ألف طفل مصري من إجمالي 7 ملايين حالة، يعانون من ذلك المرض الذي تعاني منه زينب، بحسب ما أكدته الدكتورة آمال البشلاوي، أستاذ أمراض الدم وطب الأطفال بمستشفى أبوالريش الجامعي، ورئيس الجمعية المصرية لرعاية أطفال "الثلاسيميا"، وهو ما يمثل نحو 10 % من إجمالي عدد المصريين، مؤكدة أنه من أخطر الأمراض الوراثية، وأكثرها شيوعًا بين جموع المصريين. محمود أمين علاجه متوقف على "ورقة" في الخارج، وعلى بعد خطوات من وحدة الأورام، كان يلهو الطفل محمود أمين، الذي ما يزال في العقد الأول من عمره مع شقيقه الأصغر بمسدس لعبة، وينثر فقاعات الهواء المُحملة بالصابون في وجهه، وهو يجلس على أريكة خشبية، وفي يده الثانية معلقة إحدى المحاليل الطبية التي كتبها له الطبيب المتابع لحالته. حالة الطفل محمود محمد أمين، كانت أكثر تقدمًا من قرينته زينب، وإن طالت مدة العلاج بعض الشئ، ودخلت في عام كامل، حيث بدأت أعراض المرض بسخونية عادية مع وجع خفيف في القدم، دفع الأب لإجراء تحليل دم وأشعة بالصبغة بإحدي المعامل الخاصة بشبين القناطر بالقليوبية، وهناك اكتشفوا وجود ورم متوسط بجوار الكلى اليمنى، تم اسئصاله عبر جراحة ناجحة بمستشفى بنها الجامعي، ولكن بعد أيام فوجئوا بورم آخر صغير خلف رقبته. وبعد الكشف والتحاليل وعمل الأشعة اللازمة، طالبه الأطباء بعلاجه ب"الكيماوي"، حيث إن الجلسة الواحدة تحرق نحو 25 % من الورم الناتج من "النخاع" الذي يلزمه بعد تلك الجلسات إلى إجراء عملية زرع نخاع ذاتي، بحسب تعليمات الأطباء. "خلصنا كل جلسات العلاج الكيماوي، ومش باقي غير العملية اللي واقفة على ورقة، بعد ما الورم راح، والدكتورة المعالجة خايفة تكمل، وخايفة تمنع".. هكذا صارت كل أحلام محمود وأبيه معلقة على ورقة "الشيك الخاص بالعلاج علي نفقة التأمين الصحي"، الذي يتم تحويله بعد تأشيرة رئيس قسم الأورام بمستشفى النيل بالقليوبية إلى مستشفى الشيخ زايد التخصصي؛ لإجراء عملية زرع النخاع. ثلاثة عشر شهرًا من العلاج الكيماوي لنجله، بالإضافة إلى 4 أسابيع كاملة يتردد خلالها الأب على مستشفى النيل من أجل ختم جواب العلاج، وفي كل مرة يخبرونه أن المديرة لم تحضر، فيضطر الأب للعودة من جديد، واستكمال جلسات العلاج لفلذة كبده حتي يحصل على الموافقة لإجراء العملية على نفقة الدولة. ضعف الميزانية وتبرعات أهل الخير بعد جولة سريعة داخل المعهد القومي للأورام بشارع قصر العيني بالقاهرة، وجدنا سيدة أربعينيية تطوف على الأطفال المرضى في وحدة الأورام والصالات الخارجية وعلى سلالم المعهد، وفي الطرقات وأمام العيادات لتضع في أيديهم "ظرف" بداخله "تبرعات مادية"، تساعدهم على استكمال جلسات العلاج، ثم تمضي إلى الخارج في صمت وهدوء دون انتظار كلمة شكر من أحد. وتقول الدكتورة ريم عماد، نائب عميد المعهد القومي للأورام، إن الميزانية لا تزيد عن 50 مليون جنيه سنويًا، ولا تكف سوى 3 أشهر فقط. وتضيف "عماد" في تصريح ل"التحرير"، أنهم يعتمدون بشكل أساسي على أموال التبرعات التي تتخطى 150 مليون جنيه، مشيرة إلى أن نحو 85 % من المرضى تقدم لهم خدمات العلاج مجانًا. وتوضح نائب مدير المعهد، أنه لا يوجد سبب مباشر يؤدي للإصابة بالسرطان، فحدوث نوع معين من التغير للجينات يتسبب في تحول الخلية من سليمة إلى سرطانية مريضة، لافتة بأن هناك أكثر من 33 ألف طفل مريض بالسرطان يترددون على سنويًا على المعهد القومي للأورام من إجمالي 245 ألف زيارة عامة تتردد علي العيادات الخارجية بخلاف المتابعة المستمرة. وتستكمل حديثها: "تصل نسبة الشفاء في حالات "اللوكيميا" المتزايدة في البنات بشكل أكبر من الأولاد بنحو 80% مع تزايد نشر الوعي الصحي في المجتمع"، وتختتم كلامها: "كل عادتنا الصحية غلط، ومعظم وجباتنا مُعلبة، وبها مواد حافظة، ويوجد 64 طفلاً مصاب بالسرطان من بين ألف مريض في مصر". الصناعة كلمة السر وحول تزايد معدلات الإصابة بسرطان الدم لدى الأطفال، أرجع الدكتور علاء الحداد، أستاذ علاج أورام الأطفال بالمعهد القومي للأورام، ذلك إلى عدة عوامل، بداية من انتشار أنماط حياة غير صحيحة كتعرضهم للتدخين وشرب الكحوليات، واتباع نظم غذائية غير ملائمة، والخمول البدني، والتعرض للمواد المسرطنة في أماكن العمل أو في البيئة، فضلاً عن غياب الوعي المجتمعي والإعلامي، ونقص المشاركة المجتمعية من الأفراد والجمعيات غير الحكومية، وتأخر الكشف المبكر على الحالات التي تحمل الفيروس. "كل ما الدولة تنمو صناعيًا، كلما تزايدت الأمراض والأورام السرطانية بين مواطنيها في ظل غياب وسائل الأمن الصناعي والرقابة عليها".. هذه العلاقة الطردية التي وصفها "الحداد" ب"الكارثية"، مشيرًا إلى نسبة الإصابة بالسرطان وانتشاره بين الأطفال، وصلت إلى 64 حالة من كل ألف مريض سرطان في مصر، وهي تعد أعلى نسبة إصابة في العالم. وغالبًا ما تظهر أعراض السرطان التي يطلق عليها عميد المعهد القومي للأورام السابق ب"مرض قتل البراءة" لدى الطفل على هيئة حرارة عالية متواصلة مع شحوب وإصفرار في وجهه، ونزيف في بعض الأحيان، يصاحبها آلام في العظام، وتستلزم إجراء التحاليل والفحوصات الطبية؛ للكشف المبكر عن أعراض المرض؛ لسرعة التعامل معه بعد ذلك. بدوره، يقول الدكتور شريف أبو النجا، مدير مستشفي سرطان الأطفال (57357): "إحنا مش مستشفى طوارئ علشان نستقبل كل الأطفال المرضى بالسرطان، وطاقتنا لا تسمح بعلاجهم" ويُضيف: "اكتمال طاقة المستشفى الاستيعابية من الأطفال المرضى، السبب الأكبر وراء عدم قبولهم أي حالات أخرى إضافية، وليس نتيجة ما يدعيه البعض من أننا مستشفى تخصصي نتعامل مع حالات بعينهم، بحسب تعبيره.