الفيلم الإسرائيلي يحصل علي «الأسد» والمصري يخرج بلا «زئير» · لا يمكن أن نتخلص من الإحساس بالهزيمة أمام إسرائيل.. خاصة أن مصر كانت لها سابقة في «المسافر» وخرجنا مثخنين بالجراح لا تخلو المهرجانات من توجه سياسي بل إن أهم ثلاثة مهرجانات في الدنيا "فينسيا"، "برلين"، "كان" كل منها يعبر انطلاقه عن موقف سياسي سبق اندلاع الحرب العالمية الثانية أو كان نتيجة لهذه الحرب.. "موسوليني" الفاشستي الإيطالي كان هو صاحب مبادرة إطلاق مهرجان البندقية "فينسيا" 1932 وتبعه "برلين" وكان ينبغي أن ترد فرنسا من خلال مهرجان "كان" الذي يمثل الجانب الآخر من المعادلة في الصراع باعتبارها عنوانا لدول الحلفاء كانت ترد بمهرجان "كان" علي دولتي المحور إيطاليا وألمانيا!! السياسة لا تنعزل عن المهرجانات ويكذب من يقول لك عكس ذلك.. ولكن يظل أن الفارق بين مهرجان وآخر هو في انحيازه للفن.. لجان الاختيار في مختلف المهرجانات قد تضع البعد السياسي كمؤشر للاختيار إلا أنها في نفس الوقت لا تعتبره هو الفيصل فقد يتوافق الفيلم سياسياً مع توجه المهرجان إلا أنه ليس بالضرورة أن يحظي بالمكانة التي تتيح له العرض في فعالياته إذا لم يستند إلي قوة إبداعية تتيح له التواجد.. وإذا كانت المهرجانات في لجان اختيارها للأفلام المشاركة في فعالياتها تضع هذا الاعتبار ضمن بنودها إلا أن هذا لا يعني سوي أنها قد صعدت بتلك الأفلام إلي مرتبة التسابق أو مجرد المشاركة بالمهرجان وعلي لجان التحكيم أن تتحلي بالقدرة علي الحياد في الاختيار.. لا تتدخل عوامل سياسية في تحديد اسم الفيلم الفائز.. ورغم ذلك فهل يخبو صوت السياسة تماماً؟ الحقيقة هي أننا لا نستطيع أن ننفصل عن مشاعرنا سواء كنا لجنة تحكيم أو نقاداً أو جمهوراً يتابع العمل الفني.. الإنسان ينحاز لا شعورياً إلي ما يتوافق معه.. مثلاً في مهرجان "فينسيا" الأخير كنا جميعاً ننتظر جائزة بعيداً عن مستوي فيلم "المسافر" وجدارته، كان لدينا هذا الطموح لجائزة، خاصة لو كانت "الأسد الذهبي" طموح أي فريق أن يحصل علي كأس العالم وطموح أي فيلم أن يتوج بالجائزة الأكبر وجاءت الجائزة لصالح الفيلم الإسرائيلي "لبنان" للمخرج "صمويل ماعوز".. لم أكن قد شاهدت الفيلم عند إعلان الجوائز ولكن بعد ذلك عرض الفيلم - ملحوظة كان مهرجان القاهرة يحرص علي ذلك وتوقف بضعة سنوات ثم عاد مؤخراً والعود أحمد!! كان الفيلم يبدأ في التاسعة ووقفت في طابور الدخول قبلها بساعة حتي أضمن مقعدي واكتشفت أن دار العرض تحملت كل جمهور الحاضرين.. الفيلم الإسرائيلي "لبنان" يتناول أحداث غزو إسرائيل للبنان عام 1982 وكان قد سبق في مهرجان "كان" قبل الأخير أن عرض أيضاً الفيلم الإسرائيلي الذي يمزج بين فن الكرتون والرؤية التسجيلية "فالس مع بشير" الفيلمان يقدمان تلك الحرب من واقع معايشة كل منهما وكلا الفيلمين يدين القتل والمؤسسة العسكرية التي تصدر قرارات الحروب.. وفي فيلم "لبنان" نري الجنود الإسرائيليين وهم في حالة تسامح وحب حتي لمن يطلقون عليهم الرصاص.. إنهم حريصون علي حياة المدنيين بقدر المستطاع ولا ينسي المخرج أن يقدم امرأة لبنانية قتلت عائلتها بسبب أحد الملثمين عندما وضع هذه العائلة كحائط صد للنجاة بحياته ولم يكن أمام الإسرائيليين سوي أن يطلقوا النيران ليحصدوا العائلة ولا يتبقي غير الأم التي نراها وهي تبحث بين الأنقاض عن طفلتها ذات الخمسة أعوام وفي عز صراخها ولهفتها علي ابنتها تفقد ملابسها ويحرص الجندي الإسرائيلي علي تغطيتها.. أيضاً الأسير السوري الذي ألقي طاقم الدبابة الإسرائيلية القبض عليه نجده وقد حقق له الحماية ورفض تسليمه لجندي لبناني من الكتائب الرافضين لتواجد سوريا في لبنان وشاهدنا الحوار بين الجندي العميل اللبناني والعسكري السوري ويهدده متحدثاً باللغة العربية ويؤكد له أنهم سوف يقطعونه ويقتلونه ويفقد الأسير السوري أعصابه ويصل إلي حالة انهيار عصبي ويهدئ من روعه الجنود الإسرائيليون.. يبدأ الفيلم والجندي الإسرائيلي خارج الدبابة مع زهور عباد الشمس وينتهي أيضاً والجندي يسير داخل حدائق عباد الشمس!! نعم الفيلم يدين الحرب ويدين اللجوء إليها ولكنه في نفس الوقت يدافع عن الجندي الإسرائيلي يقدمه كإنسان يحافظ علي حياة الآخرين ويتمتع بإحساس إنساني عال حيث نري جنديا يطلب من قائده إبلاغ عائلته أنه علي قيد الحياة فليس لولديه أحد سواه.. قدم المخرج الفيلم بألق سينمائي عال لا نستطيع سوي أن نتابعه في هذا المكان الضيق داخل الدبابة حيث أنه قد نقل لنا هذه المشاعر الدفينة والخاصة جداً لكل أفراد طاقم الدبابة.. كانت العلاقة داخل الدبابة وخارجها مصنوعة بذكاء فأنت تري من خلال الكاميرا المثبتة في الدبابة وعن طريق تحريكها ما يجري بالخارج فتصبح أعيننا وكأنها هي عيون أبطال الفيلم. هل حصل الفيلم علي الجائزة لأنه يستحقها أم لأسباب سياسية؟ تحليلي الشخصي هو أن المخرج التايواني الشهير "انج لي" رئيس لجنة التحكيم مع أعضائها انحازوا إلي السينما ولكننا لا يمكن أن نتخلص من الإحساس بالهزيمة أمام إسرائيل خاصة أن مصر كانت لها سابقة في "المسافر" وخرجنا مثخنين بالجراح ليس فقط بسبب عدم الحصول علي جوائز ولكن لأن أغلب الكتابات والمتابعات النقدية للفيلم جاءت مخيبة للآمال.. بينما الفيلمان المصريان الآخران "احكي يا شهرزاد" و "واحد صفر" حظيا بتقدير خاص وإعجاب من العديد من النقاد الأول عرض رسمياً ولكن خارج المسابقة والثاني عرض في مسابقة "آفاق" ولكننا لم نهزم في "فينسيا" لأسباب سياسية إننا فقط لم نقدم الفيلم الأفضل بينما إسرائيل بفيلمها "لبنان" قدمت هي الأفضل واستحقت "أسد" فينسيا!! ******* غضب «عمر الشريف»! قبل أن ينتهي عرض فيلم "المسافر" كان "عمر الشريف" قد فاض به الكيل وهاجم الجميع، مخرج الفيلم "أحمد ماهر" والبطل الذي يشاركه البطولة "خالد النبوي"!! بدأت كاميرات التليفزيون خاصة القنوات العربية في التقاط أحاديث "عمر" بنهم منقطع النظير حيث كانت لدينا قنوات قطاع الأخبار ونايل سينما وA.R.T ودريم تشارك في تغطية أحداث المهرجان.. من بين ما قال "عمر الشريف" عن "المسافر" هذا الفيلم ينقصه الكثير حتي يصبح فيلماً.. الفيلم بحاجة إلي مونتاج.. اعترض "الشريف" علي أداء "خالد النبوي" ورأي أنه شكل نقطة ضعف رئيسية في الفيلم حيث كان يقلد أداءه في أفلام الستينيات.. كانت كلمات "الشريف" الغاضبة تتجاوز أحياناً حدود اللياقة.. ربما بعد ذلك في حوار "عمر الشريف" مع "مني الشاذلي" كما ذكرت لي خفف نبرة الغضب وبدأ يؤكد أنه يعتز بالعمل مع الشباب وأن الفيلم تجربة مختلفة.. وأنه لم يقرأ السيناريو كاملاً فقط قرأ دوره لأن السيناريو لم يكن مكتملاً وأنه شاهد الفيلم لأول مرة في "فينسيا" وهو لا يدري شيئاً عما سبق ظهوره في الفيلم أنا لا أستطيع بالطبع تكذيب آراء "عمر الشريف" ولكن معلوماتي أن السيناريو كتب كاملاً وأن الدولة تحمست للإنتاج بناء علي أن لديها أوراقا ولا يوجد مبرر لكي تنتج فيلما مكتملا فقط ثلثه الأخير؟! في كل الأحوال علينا أن نسأل عن أسلوب التعبير عن الغضب، ما هو التوقيت وما هو الحجم هل علي الفنان أن يحتفظ برأيه خاصة أن الفيلم لم يكن قد عرض بعد أم أن عليه أن يعلن رأيه مباشرة؟ من حق الفنان أن يقول رأيه ولكن بعد أن يصبح الفيلم في متناول الجمهور.. الفيلم كان لا يزال في إطار السرية عرض المهرجان يظل في إطار ضيق ومحدود.. الناقد دوره أن يعلن رأيه طالما شاهد الفيلم في المهرجان فهو ليس عرضاً سرياً ولكن المشاركين في العمل الفني لديهم وسائل عديدة في التعبير عن آرائهم منها الامتناع عن الإدلاء بالرأي والحفاظ علي حدود اللياقة حتي عند إعلان الغضب والغريب أن عدداً من الفنانين أيضاً شاركوا "عمر الشريف" في رفضهم للفيلم.. لم يحدث هذا الأمر لأول مرة كثيراً ما تنصل فنانون من أعمال فنية قبل أن تري النور مثل ما شاهدناه مؤخراً في فيلم "المشتبه" مثلاً تبرأ "عمرو واكد" من الفيلم بمجرد عرضه لأن المخرج تجاهل وضع اسمه سابقاً لبشري علي التترات رغم الاتفاق المسبق بينهما.. "مني زكي" تبرأت من "أحلام عمرنا".. "جومانة مراد" من "لحظات أنوثة" كل هذا حدث ولكن لأول مرة نري ذلك خارج الحدود وفي مهرجان دولي بحجم "فينسيا" ومن نجم عالمي في وزن "عمر الشريف"؟! صحيح أن الصحافة الأجنبية كانت لها ملاحظات سلبية كثيرة ضد "المسافر" وحصل علي أدني الدرجات في أرقام التقييم في المجلات المتخصصة التي تتناول أفلام المسابقة الرسمية إلا أن إعلان غضب المشاركين في الفيلم وعلي رأسهم "عمر الشريف" أراه سابقاً لأوانه ومكانه؟! ******* «المسافر» وأفلام النخبة! هل يوجد مصطلح اسمه "سينما النخبة" أم أن السينما لكل الناس؟! إجابتي هي أن الأفلام تصنع للجمهور أولاً وثانياً وثالثاً حتي وعاشراً.. السينما فن جماهيري ورغم ذلك فإن الجانب الآخر من الصورة قد يبدو وكأنه يشكل قيداً علي السينمائي يمنعه من حق التجريب والحقيقة هي أن كل قاعدة مستقرة سبقها تجريب، أي أن السينما التقليدية في كل قواعدها المتعارف عليها قبل الاستقرار عليها مرت بمرحلة الاكتشاف مثلاً اللقطة المقربة، المونتاج المتوازي، العدسات المقعرة.. كلها كانت تبدو قبل نحو قرن من الزمان نوعا من تجريب تحاول السينما أن تتعرف عليها.. ومن حق السينمائي أن يخرج عن السياق التقليدي وعليه أن يتحمل ردود الفعل الغاضبة من الجمهور.. حكي لي المخرج الكبير "صلاح أبو سيف" أنه كان حاضراً في دار العرض مع فيلمه "بين السما والأرض" والذي كانت أحداثه تجري في أسانسير، هذا الفيلم عرض قبل نحو 50 عاماً كتب قصته السينمائية "نجيب محفوظ" وسيناريو وحوار "السيد بدير".. أي أننا بصدد فيلم أعمدته الثلاثة من أساطين الفن السابع في مصر لم يكتف الجمهور بالرفض بل إن أحد المتفرجين عندما شاهد "صلاح أبو سيف" في نهاية صالة العرض أمسك به من الكرافت قائلاً خنقتنا فأراد أن يخنقه؟! كانت هذه هي مشاعر الجمهور ولكن مر زمن وأصبح "بين السما والأرض" منذ السبعينيات واحداً من الأفلام التي يتابعها الجمهور بكل حب وشغف واهتمام كلما وجد طريقه للعرض عبر القنوات الفضائية؟! إلا أن هذا يظل هو الاستثناء لأن القاعدة هي أن ينجح الفيلم مع الجمهور الآني ثم القادم.. السينما صناعة تنتعش من خلال مردود شباك التذاكر.. وفرت وزارة الثقافة من خلال إنتاجها للمسافر الفرصة للمخرج "أحمد ماهر" أن يقدم مشروعه السينمائي كما يراه.. لأن هذا السيناريو سبق وأن عرض علي أكثر من شركة إنتاج وكان مثلاً هو مشروع "أحمد زكي" واتفق مبدئياً علي تقديمه لحساب "جوود نيوز" وقبلها كان "محمود حميدة" لديه نفس المشروع يقدمه لحساب شركته إلا أنني لا أتصور أن التجربة كانت ستخرج للحياة كما رأيناها في "فينسيا".. هناك ولا شك اعتبارات أخري لدي النجوم طالما دخل للمعادلة شركة إنتاج خاصة.. "رأفت الميهي" نموذج للكاتب المخرج الذي يقدم أفلامه كما يريدها هو لأنه أيضاً المنتج فهو أدبياً ومادياً صاحب المشروع وما أتاح ليوسف شاهين الاستمرار هو أن لديه شركة إنتاج الدولة هي التي لعبت هذا الدور لصالح "أحمد ماهر"!! ورغم ذلك فأنا أري بالفعل أن "المسافر" يحمل رؤية خاصة لمخرجه وأنه نجح إلي حد بعيد في تقديمها في الجزأين الأول والثالث بينما الجزء الثاني والذي احتل نحو 50% من زمن الفيلم كان يعاني من حالة من التشتت علي مستوي أداء بطل هذا الجزء "خالد النبوي" وأدي إلي انفصال المشاهد عن التماهي مع الفيلم برغم الخصوصية التي يملكها المخرج وإحساسه الصادق والجو العام الذي رسم فيه أجواء فيلمه!! لا أتصور أن الفيلم سيحقق مردودا في شباك التذاكر إلا أنه ومع الزمن ستتسع قليلاً دائرة الفيلم لكنها لن تصل أبداً إلي حدود الجماهيرية.. إلا أنه في كل الأحوال فيلم!!