شغلت العلاقة بين الدين الإسلامى والمستقبل المفكر الإسلامى محمد عمارة، وجعل من هذه الثنائية موضوعا لبحث متعدد الفصول عرضه فى كتاب «الإسلام والمستقبل» الذى صدر أول مرة عام 1984، وصدرت مؤخرا طبعته الثانية عن دار الشروق، وفيه ينطلق عمارة من نظرة خاصة للتاريخ والتراث باعتبارهما مجالين منصبين على الاهتمام بالمستقبل الإنسانى أكثر من اهتمامهما بماضى الإنسان، فالتاريخ عنده «علم من علوم المستقبل وليس مجرد قصص لتزجية الفراغ والاستمتاع»، وبالنسبة له فإنه إذا كانت اختياراتنا ومواريثنا طيبة ومُعينة على الخلق والإبداع فى الاتجاه الذى يزكى روح النهضة الحضارية كان الربط بين تراثنا ودراساتنا المستقبلية مطلبا قوميا وضرورة من ضرورات النهضة وشرطا من شروطها. اعتبر فى كتابه أن ذلك هو الضمان لنزع ما وصفه ب«سلاح التراث» من يد القوى المتخلفة، التى وظفته ولاتزال تحاول توظيفه على النحو الذى يبتعد عن دفع عجلة النهضة إلى الأمام، وبالتالى يضمن هذا الأمر لتصحيح مفاهيم «التيار المغترب» حسب تعبيره عن حقيقة التراث باعتباره بالنسبة لهم مرادفا للتخلف، فانصرف عنه متوجها بقلبه وعقله شطر الحضارة الغربية بشقيها الشمولى والليبرالى، الأمر الذى حذر منه المؤلف. طبيعة السلطة السياسية حاول الكتاب تقسيم البحث فى علاقة التراث الإسلامى برسم مسارات المستقبل من خلال عدة فصول منها الحديث عن العقلانية الإسلامية، والاجتهاد والنهضة الحضارية، والعدل الاجتماعى، والشريعة والقانون، والتدين بين الشكل والمضمون، وفصل عن طبيعة السلطة السياسية الذى استهله بقوله إنه فيما يتعلق بطبيعة هذه السلطة فى الدولة والمجتمع فإنه تختلف وتتمايز مواريث الأمم والشعوب،وضرب فى ذلك عدة أمثلة منها المعروف عن تاريخ القيصرية الرومانية حتى قبل اعتناقها للمسيحية حيث كان القيصر «ابن السماء» وبالتالى كانت لسلطته وسلطانه قداسة الحاكم باسم السماء، فيما توحدت فى التاريخ العبرانى القديم سلطة الأنبياء والقضاة والملوك ووضح ذلك فى العهد القديم كما وضح فى تطبيقات العبرانيين حينما اقتنصوا من الدهر فترات قليلة أقاموا فيها لهم دولة وكيانا سياسيا، وتطرق لأمثلة أخرى نهجت نظرية الحكم بالحق الإلهى كما فى الدولة الرومانية، وقال الكاتب فى هذا الصدد «هذا الواقع الذى أثمرته هذه الفلسفة السياسية فى أوروبا العصور الوسطى، هو الذى خلق وبلور رد الفعل الإصلاحى فيها، ذلك الذى تمثل فى العلمانية التى انحازت للطبيعى والدنيوى والواقعى ضد المقدس، ففصلت الدين عن الدولة وحصرت سلطان الكنيسة فى الشئون الفردية الخاصة المحدودة بنطاق العلاقة بين الإنسان والله!»، وتناول حديثه بعدها عدم اعتراف الحضارة العربية الإسلامية بهذه الثنائية التى تتراوح إما بين المزج والتوحيد بين السلطتين الزمنية والروحية وإما الفصل والعداء بينهما. الفهم الثورى للإسلام أثار كتاب «الإسلام والمستقبل»، الذى يقع فى 211 صفحة، قضية الغلو فى الدين وموقف الإسلام من الغلاة باعتباره من القضايا المثارة على الساحة العربية والإسلامية، وذلك فى فصل حمل عنوان «الصحوة الإسلامية» وأكد على رفض الإسلام فى مواضع عدة فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة للغلو فى الدين وهو الأمر الذى يقول محمد عمارة إنه على الرغم من أنه موضع اتفاق بين مختلف تيارات الفكر الإسلامى ومذاهبه الإ ان هناك سعيا من البعض إلى الخلط والتمويه إلى توظيف رفض الإسلام للغلو الدينى فيما هو خارج عن الإطار الذى حدده الإسلام ويقول «ذهب البعض ويذهب إلى إلقاء وصف الغلو على تيارات فكرية إسلامية قديمة أو معاصرة لا لشىء إلا لأنها ترفض الواقع البائس والظالم الذى فرض على الإسلام والمسلمين فسعت وتسعى إلى الثورة عليه، وهنا يحدث الخلط بين الدين وبين الدنيا وبين الروحانيات والشعائر والعبادات وبين سياسة المجتمع وتنظيم دنيا الناس»، ويتابع «الغلو الذى نهى عنه الله ورسوله هو الغلو فى الدين واليسر الذى حبذه الإسلام هو اليسر فى الدين، ولا يعنى شىء فى ذلك اللين أو التهاون مع الأعداء الذين يقهرون الأمة، ويمسخون ذاتيتها ويسحقون هويتها، ويفرطون فى أرضها وعرضها وثورتها داخليين كان هؤلاء الأعداء أم خارجين»، واعتبر المؤلف أن من أوجب الواجبات على المفكرين الإسلاميين، على حد تعبيره، أن يميزوا بين الغلو فى الدين فيحاربوه، وبين الفهم الثورى للإسلام الذى هو الفهم الوحيد الصحيح لدين الله، مؤكدا أن محاربة «الغلاة» واجبة شريطة أن يكونوا حقا هم «الغلاة». عروبة مصر طرح الكتاب من خلال فصل «العروبة والإسلام» مسألة الجدل حول «عروبة مصر» التى يقول الكاتب إنها تثار بين الحين والآخر على لسان «الأصدقاء» و«الأعداء» على حد سواء، ويقول المؤلف» الذين يؤمنون بعروبة مصر «قوميا» يرون فيما بينها وبين بقية الشعب العربى شيئا يختلف فى النوع عن ذلك الذى هو قائم بين الأمم والقوميات فى أوروبا، فنحن هنا بإزاء قومية وأمة واحدة، مزقها الأعداء الداخليون أو الخارجيون، أو هما معا متحالفين، وعلى هذه الأمة أن تسعى إلى وحدتها القومية، لا أن تقف دولها عند حدود حسن الجوار أو التضامن الذى يحقق الأمن لدول الطوائف والتشرذم الأقليمية»، وتطرق إلى الكتل والتيارات التى تناهض «العروبة القومية» لمصر داخل الساحة المصرية، والمهام الوحدوية المتوجبة عليها، ولفت إلى أن البعض يخطئ حينما يعمم، كالحديث عن أن أقباط مصر أو معظمهم يقفون من هذه العروبة موقفا عدائيا، واعتبر أن قضية «عروبة مصر» لا يوجد حولها استقطاب كامل بين المسلمين والأقباط فى مصر، خصوصا أن عددا من المثقفين المسلمين المصريين ضد «عروبة مصر» قوميا، وعددا من المثقفين الأقباط المصريين مع هذه العروبة القومية. واجبات لا حقوق خصص الكتاب فصلين عن وضع المرأة فى الإسلام، الأول تطرق إلى صورة المرأة فى صدر الإسلام والآخر عما يعنيه الإسلام بالنسبة لتحرر المرأة وتحريرها وهو الفصل الذى اختار له عنوان «النساء شقائق الرجال ونصف المجتمع»، كما خصص فصلا عن «حقوق الإنسان» جاء فيه: «يبدو أن الجهود الفكرية الإسلامية التى بذلت وتبذل فى دراسة وبلورة حقوق الإنسان فى الإسلام، على الرغم من تحليها بفضيلة إبراز الذاتية الإسلامية المتميزة فى هذا الميدان نراها قد تبنت ذات المصطلح الذى وضعه الأوروبيون لهذا المبحث، مصطلح «الحقوق»، على حين، وهذا ما نعتقده، ونعتقد بأهميته نجد الإسلام قد بلغ فى الإيمان بالإنسان، وفى تقديس حقوقه إلى الحد الذى تجاوز به مرتبة الحقوق فأدخلها فى إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن والحرية فى الفكر والاعتقاد.. إلخ، فى نظر الإسلام ليست فقط حقوقا للإنسان، من حقه أن يطلبها، ويسعى إلى تلبيتها، ويتمسك بالحصول عليها، ويحرم صده من طلبها، وإنما هى واجبات لهذا الإنسان بل وواجبات عليه أيضا» ويتابع: «بلغ الإسلام بالإنسان ما لم تبلغه شريعة من الشرائع ولا ثورة من الثورات ولا أيديولوجية من الأيديولوجيات،فما اعتبره الآخرون حقوقا لهذا الإنسان قررها له الإسلام كواجبات، وذلك فضلا عن فروق نوعية، جعلت وتجعل هذا المبحث فى الفكر الإسلامى أكثر تقدما وفنى وثراء، الأمر الذى يعطى البحث فيه أهمية قصوى، ويعطى النضال فى سبيل الممارسة والتطبيق لهذه الواجبات الإنسانية بواقعنا، أهمية أكثر من مجرد الوقوف عند الأفكار والأبحاث».