الآن وقد تتبعنا على مدى حلقتين، تاريخ توليد الصراع مابين اللغة العربية ولهجاتها المحلية من جانب، واللغات الأجنبية المطروحة لكتابة الاثنتين من جانب آخر، بالإضافة إلى رصد تجليات هذا الصراع فى مجال الصحافة وبعض أشكال الكتابة والتواصل الإلكترونى عبر الوسائل الحديثة، من خلال المدونات ومواقع الدردشة والحوار؛ فيبقى رصد وتقييم تجليات هذه التجربة فى مجال الإبداع الأدبى (السردي). ولما كانت هذه المسألة محل خلاف قديم منذ الكاتبين: «نجيب محفوظ» «أبو الرواية العربية الحديثة»، الذى لم يكتب فى سرده كلمة واحدة بالعامية، كما لم ينطق أيا من شخوص رواياته على اختلاف مستوياتهم الثقافيةوالاجتماعية باللهجة العامية، وملك القصة القصيرة «يوسف إدريس»، الذى انحاز بشدة لهذه اللهجة وأكثرَ من استخدامها فى كتاباته. ورغم مرور وقتٍ طويل على هذا الخلاف، وصدور العديد من الأعمال التى تؤيد وتناهض كلا الاتجاهين؛ فإن قضية الفصحى والعامية فى الأدب مازالت محل جدل ونقاش، أثرناه مع نخبة من الأدباء والكتاب من خلال التحقيق التالى: موسيقى اللغة الكاتب الكبير «إبراهيم أصلان» تعامل مع هذه القضية بوعي موسيقى تماما، فشبه مسألة اختيار الكاتب لمفرداته، سواء كانت عامية أو فصحى، بعازف العود الذى يضبط أوتاره ليؤدى من طبقة صوتية معينة. يقول «أصلان»: « الأهم عندى هو نبرة الصوت التى تمنحها الكلمة للحكى، فعند الكتابة يكون استلهام النغمة الصحيحة أو المناسبة للموضوع أوالتجربة المحكية هو الأساس، وعندما أعثر على هذه النغمة تتيسر الأمور تماما». ويضيف: «هذه النغمة أو بصمة الصوت هى وحدها الأقدر على تجسيد التجربة، وهى التى تحمل الكاتب على اختيار مفردات معينة دون غيرها، ووقتها لا أفكر فيما إذا كانت هذه المفردات عامية أو فصحى، ولايعنينى سوى منطق الحكى الشفاهى». ويفرق الكاتب بين الأنواع المختلفة للسرد، مشيرا إلى وجود أنواع متعددة منه، فبالإضافة إلى السرد الأدبى، يوجد سرد اجتماعى وآخر دينى، وسرد ثالث سياسى، وهذه السرودات يقوم بها تاريخيا وفقا لأصلان مجموعة من المؤسسات كوسائل الإعلام والمؤسسات الدينية ومناطق صنع القرار والخطاب العام، ويكون منطقها دائما الحديث بدلا من الناس والحلم والتخيل نيابة عنهم، ويتجسد منطق هؤلاء عبر صيغ لغوية عامة، ثم يأتى المواطن العادى فيستلهم هذه الصيغ الجاهزة المصكوكة، معتقدا أنه يتخيل ويفكر لنفسه. ويوضح «أصلان» أن النجاة من هذه المصكوكات اللغوية عند الكتابة تكون باستلهام روح الحكى الشفاهى، عبر لغة منطلقة غير محبوسة بقواعد أو أيديولجيات معينة. لبن العصفور أما الكاتب «يوسف القعيد» ،الذى كانت له تجربة خاصة فى هذا السياق، تمثلت فى رواية «لبن العصفور»، التى كتبها بلهجةٍ عاميةٍ خالصة، فقال إنه شديد الإعجاب بالعامية المصرية، مشيرا إلى أنها إحدى لهجات اللغة الفصحى وليست دخيلة عليها. ورغم أن الكاتب، الذى حاكى بروايته كتابُ قلائل فى مسألة الكتابة بالعامية من أمثال «لويس عوض» فى مذكرات طالب بعثة»، و«بيرم التونسى» فى روايته «السيد ومراته فى باريس» و«عثمان صبرى» فى «بيت سرى».. وغيرها من الأعمال- شديدة الجمال والإمتاع فى رأيه- رغم أنه يعتبر هذه التجربة مجرد نزوة ونتاج تأثره بهذه التجارب السابقة، بالإضافة إلى الرغبة فى التجريب، فإنه أعرب عن دهشته حيال ما وصفه بترحيب المصريين بالعامية شعرا ورفضها سردا. وأوضح «القعيد» أنه ليس ضد الكتابة بالعامية، لكن الهجوم الذى تعرض له بسبب هذه الرواية جعل «لبن العصفور» رواية لا سابقة لها ولا لاحقة حتى الآن فى تاريخه، هذا بالإضافة إلى ما استشعره الكاتب من تناقض بسبب كونه أحد أبناء الحلم القومى العربى، وبالتالى فإن اختياره للكتابة بالعامية، التى يرى أنها تفتت الوجدان العربى لم يكن منطقيا بالنسبة له. ويروى «القعيد» أن الناقد الراحل الدكتور «على الراعى» قد أسر له بعد قراءة روايته محل الجدل، بأنه قد أعجب واستمتع بهذه الرواية، لكنه «مش موافق على وجود رواية مكتوبة بالعامية». ويؤكد «القعيد» أنه لا يستبعد أن يكرر تجربة الكتابة بالعامية إذا ما استدعت ظروف الكتابة ذلك، ويوضح قائلا: «أنا أبطالى فلاحون.. كيف أنطقهم لغة لا يعرفونها؟!، سيكون ذلك افتعالا وسيجور على الصدق الفنى». ويوافق الكاتب على أن «نجيب محفوظ» قد نجح فى تطويع اللغة الفصحى لمستوى شخصياته، لكنه قال إنه لا يسعى لاستنساخ تجربة «محفوظ» الذى كان الكاتب أحد أصدقائه. فى هذه النقطة اتفق معه الكاتب «خالد الخميسى» الذى ذكر أنه يختلف مع «نجيب محفوظ» فى مسألة التزام الفصحى فى الكتابة طوال الوقت: «لست متحمسا لرأى «محفوظ»، أعتقد أنه كان «غلطان» فى هذه المسألة، لأن استخدام اللهجة العامية فى الحوار الأدبى مثلا أجمل وأوقع». لكن هذا لايعنى انحياز «الخميسى» للعامية: «لست منحازا للعامية على الإطلاق، والأصل عندى هو الكتابة بالفصحى، ثم اللجوء إلى العامية وفقا لمنطق العمل المكتوب». ويضيف أن استخدام العامية ضرورى فى الحوار الروائى أو القصصى، مستشهدا بعمله السابق «تاكسى» الذى كان أبطاله من أبناء الشوارع، وبالتالى كان مستحيلا من وجهة نظره أن يكتب حواراتهم بغير العامية، وذلك اتساقا مع موضوع الحكى وطبيعة عالمه وشخصياته وسياقاتها المتنوعة. أما فى روايته «ثلاثون ليلة وليلة»، التى يعكف الآن على كتابتها، فيقول «الخميسى» إن طابعها يفرض عليه الكتابة بالفصحى. ولا يحبذ «الخميسى» استخدام العامية الخالصة فى الكتابة: لو قرأت كتابا كاملا بالعامية فلن أكون سعيدا». ويضيف: «قرأت مجمل الأعمال المكتوبة بالفصحى، لكننى وجدت صعوبة فى قراءة واستساغة بعض الجمل، فلم أستمتع بها، لكننى أترك مسألة تحديد اللغة واللهجة لمنطق العمل ومدى اتساق مكوناته مع طريقة حكيها وكتابتها. صداع العامية الرأى نفسه تبناه الكاتب والسناريست «بلال فضل» قائلا: «فيماعدا الشعر، أنا ضد الكتابة بالعامية الخالصة، وعندما أقرأ كثيرا بالعامية «بصدع». وأضاف: «لم أستسغ الأعمال المكتوبة كاملة بهذه اللهجة، و لم أحب رواية «لويس عوض» ولا لبن العصفور، لكننى أحب توظيف العامية فى الكتابة». وأشار «فضل»، الذى يعد أحد أهم الكتاب الساخرين، إلى أن قوام كتابته بالفصحى، لكنه لايستغنى عن اللهجة العامية التى يراها أقدر على الوصول للناس، مشيرا إلى احتوائها على مفردات لن تؤدى بدائلها الفصيحة إلى نفس الأثر البصرى واللغوى. وتابع: إن بهذه اللهجة عبقريات لا يمكن إيجادها فى غيرها من طرائق التعبير. وأوضح الكاتب أن اختياره للفصحى أوالعامية لم يكن بقرار مسبق، إنما ب«ندهة» وهاجس واستعداد، وبمدخلات لغوية، وببيئة «تربى فيها الواحد» ككتابات محمود السعدنى، وغيرها من العوامل التى تؤدى مجتمعة إلى اختيار لغة الكتابة». وقال «فضل» إنه يقدر اللغة العربية، لكنه لا يخشى عليها لأن مسألة بقائها والحفاظ عليها محسومة بالقرآن الكريم، مشيرا إلى أنه مشغول أكثر بدمج الناس فى الحياة والتفكير معهم فى مشاكلهم. وذكر «بلال» أن التزامه بالفصحى الخالصة فى بعض الأوقات جعل بعض القراء يتهمونه بصعوبة لغته، ما جعله يختار لغة وسطا، ونفى أن تكون كتاباته صعبة الفهم على القارئ العربى، مشيرا إلى تفاعل الكثير من القراء من مختلف الدول العربية مع ماينشر فى كتبه المطبوعة أو فى الصحافة. وأردف أنه هو أيضا قد قرأ مؤلفات الكاتب «فؤاد التكرلى» باللهجة العراقية، «وجدت صعوبة فى البداية، لكننى استطعت القراءة والمتعة». ومع ذلك رفض «بلال» ترجمة أحد كتبه للفرنسية، لأنه أشفق على المترجم من صعوبة تطويع الكلمات العامية الساخرة للغة أخرى». تهمة العامية أما الأديب والكاتب الساخر «محمد فتحى» فبدأ حديثه مؤكدا أن العامية ليست تهمة، كما أن اللغة عموما ليست غاية فى حد ذاتها. وقال «فتحى»: «لو أردت أن أكتب فصحى مقعرة فسأكتب بلاغة على حساب الموضوع، ولن أصل إلا لمائة أو مائتين على الأكثر». وأضاف أن القارئ الحالى يحتاج إلى من يتباسط معه، ثم يصعد به تدريجيا إلى أعلى مستويات اللغة، من باب العشرة والارتباط فيما بعد بين كل من الكاتب وقارئه. وأوضح «فتحى» أن الكتابة الساخرة تحديدا، بتمثلها الشديد للعامية وطبيعة قرائها، وجدت ك«جر رجل» لقارئ بالأساس لا يحب القراءة، فتكون هذه الكتابة سلما يتم من خلاله تربية القارئ وتعويده على ما بعد ذلك من مستويات القراءة والكتابة. وأشار إلى أنه ليس ضد الكتابة العامية على سبيل التجريب، تماما كما فعل «القعيد» فى رواية« لبن العصفور»، وفرق بين ثلاثة مستويات للعامية: مستوى محترم، ومستوى دارج، وآخر مبتذل، لكنه أبدى تخوفه من أن يؤدى انتشار النوع الثالث من العامية إلى خروج جيل من أنصاف الموهوبين يدعون أنهم كتاب ونقاد ومنظرون. وأردف قائلا: «للأسف البعض يستسهل ويبتذل، فيسىء بذلك إلى الفصحى والعامية ويضعنا ويضع نفسه فى هذا الموقف». لكنه عاد ليطالب مهاجمى العامية بدراسة الأعمال المكتوبة بها و التفريق بين ماكتب استسهالا، وماكتب فنيا، وما كتب على سبيل التجريب.