أتحسس أزرار الكى بورد قبل أن أكتب هذه السطور ، فمازال اسم "المخابرات العامة" مثيرا للرهبة ، باعثا على الخوف ، خاصة لأبناء جيلى الذين تربوا على قصص بطولة رجالها وتضحياتهم من أجل الوطن ، وكذلك على قدسية كل ما ينشر عن عمليات المخابرات ، خاصة فى ظل وجود قانون يعرف ب"القانون 100" ، الذى يعاقب بالحبس كل من ينشر أخبارا أو تقارير عن المخابرات العامة دون الحصول على تصريح كتابى مسبق من الجهاز . وتظل دائما صورة رجل المخابرات مقترنة فى ذاكرتنا بنماذج فريدة من البشر ، جسدتها أقلام كتاب برعوا فى رسم شخصيات الابطال ، وسرد أحداث العمليات التى شاركوا فيها ، منهم على سبيل المثال وليس الحصر الراحل الكبير صالح مرسى أحد أشهر من كتبوا سيناريوهات أعمال الجاسوسية ، وأيضا الصديق الرائع الدكتور نبيل فاروق الذى كان له دور كبير فى تشكيل وعى ووجدان جيل كامل من الشباب من خلال سلسلة رواياته الشهيرة "رجل المستحيل" ، حتى بات "أدهم صبرى" بطل الرواية قدوة يسعى كثير من الشباب لأن يكونوا مثله .. ولا اعرف لماذا توقف الدكتور نبيل عن مواصلة البحث والتفتيش فى ملفات المخابرات العامة ليكتب قصصا جديدة لأجيال ولدت بعد أن أحال الكاتب بطله أدهم صبرى الى المعاش ، لا أعرف أيضا كيف لم يظهر كاتب جديد من جيل الشباب يتسلم الراية من الدكتور نبيل فاروق ليواصل المشوار ، فالكتابة بعد عصر نبيل فاروق اتخذت أشكالا مختلفة ، منها ما يتصل بما وراء الطبيعة ، وهى المنطقة التى نبغ فيها الدكتور أحمد خالد توفيق ، ومنها ما يدور فى فلك الروايات التى بات لها قراء يتابعون أعمال أحمد مراد ومحمد صادق ، يوسف زيدان ، وغيرهم ، لكننا الان نحتاج الى كتابات من نوع آخر ، تهدف الى غرس قيم الانتماء فى وجدان هذا الجيل الذى يظن البعض أنه لا يقرأ ، وهذا خطأ شائع ، فأنا أتصور أن معدلات القراءة هذه الايام زادت كثيرا عما كانت عليه فى فترات سابقة ، وأن الذى اختلف هو الوسائل التى يقرأ من خلالها الشباب ، فقديما كانت الرواية والمجلة والكتاب ، وحديثا أصبحت المواقع وصفحات السوشيال ميديا ، وهى وسائل تواصل سريعة وعابرة للزمن ، وتؤثر فى شرئح كبيرة وقطاعات واسعة من جمهور القراء على اختلاف اعمارهم .. ليس هذا فحسب ، بل نحتاج أيضا الى شعراء يجيدون تلخيص قضايا الوطن ومشاكله وأزماته السياسية والاجتماعية فى قصائد قصيرة تصلح للغناء ، فعلها من قبل أحمد فؤاد نجم ، وعبد الرحمن الابنودى حين كتب لعبد الحليم حافظ "حكاية شعب "، وعبد الوهاب محمد الذى كتب لأم كلثوم : "قوم بإيمان وبروح وضمير ، دوس على كل الصعب وسير" فما يمكن أن يغنيه مطرب يصل الى الناس أسرع بكثير مما تصدعنا به برامج التوك شو كل مساء ، وما يمكن أن يجسده فنان فى مسلسل أو فيلم ، يؤدى بالتأكيد الى نتائج أفضل بكثير مما تنشره صفحات الحوادث فى الصحف تذكروا جمعة الشوان وقصته الرائعة التى جسدها عادل إمام فى مسلسله الأشهر "دموع فى عيون وقحة " ، وترحموا على محمود عبدالعزيز ، وهو يجسد دور العميل المزدوج فى مسلسل "رأفت الهجان" ، ومن قبله شخصية رجل المخابرات وشخصية الجاسوس فى "اعدام ميت" .. ربما تسألنى : لماذا بدأت مقالك باستحضار الرهبة من ذكر اسم المخابرات العامة ؟ أقول لك : شعرت بهذه الرهبة ، وأنا أطالع بتقدير بالغ نعى المخابرات العامة للفنان الكبير الراحل محمود عبد العزيز ، النعى المنشور فى أهرام الإثنين الموافق 14 نوفمبر 2016 ، والذى جاء فيه : " المخابرات العامة تنعى بمزيد من الحزن والأسى ، الفنان الكبير محمود عبد العزيز ، الذى أثرى بفنه العديد من الابداعات ، والذى جسد بصدق بطولات أبناء هذا الوطن ، عبر إخلاصه وقدرته العظيمة ، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ، ..." مؤكد أن جهاز المخابرات العامة حين أقدم على هذه الخطوة غير المسبوقة ، كان يلمح الى الدور العبقرى الذى أداه ببراعة الفنان الراحل محمود عبد العزيز فى مسلسل رأفت الهجان ، دور العميل المزدوج الذى صنعته المخابرات وزرعته خنجرا فى قلب اسرائيل . المخابرات العامة اذن ، وهى جهاز معلومات رفيع المستوى ، تدرك قيمة الفن الهادف وأهميته ، وتعرف – بطرقها – أن لهذا الفن تأثيرا كبيرا فى تشكيل الوعى والوجدان ، وإن كنت أثمن هذه الخطوة ، فإننى فى الوقت نفسه أنتهز الفرصة لكى أهمس فى أذن الجهاز العريق ، الى أن المجتمع الان بظروفه ، وما يواجهه من تحديات بحاجة أكبر الى الافراج عن مزيد من القصص التى تساهم بقدر كبير فى تشكيل الوجدان والوعى خاصة عند جيل الشباب الذى يتعرض لمحاولات استهداف لا تنتهى ، لكنها بالتأكيد لن تنجح فى خدش جوهر وطنيته التى صنعتها بطولات أجيال سبقت ، وتصقلها تضحيات أجيال تتعاقب ، يربط بينها خيط سميك من الانتماء والحب ، والرغبة فى الوصول بسفينة الوطن الى بر الأمان .