سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 20 مايو 2024    اليوم.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة بقيمة 9 مليار    إعلام إيراني: العثور على موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    قلق خليجي بشأن الطائرة المروحيّة التي تقل الرئيس الإيراني    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    لبيب: نملك جهاز فني على مستوى عال.. ونعمل مخلصين لإسعاد جماهير الزمالك    اليوم.. علي معلول يخضع لعملية جراحية في وتر أكيليس    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    درجة الحرارة تصل ل 41.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق داخل مدرسة في البدرشين    جريمة بشعة تهز المنيا.. العثور على جثة فتاة محروقة في مقابر الشيخ عطا ببني مزار    نشرة منتصف الليل| تحذير من الأرصاد بشأن الموجة الحارة.. وتحرك برلماني جديد بسبب قانون الإيجار القديم    د.حماد عبدالله يكتب: العودة إلى الماضى والنظر إلى المستقبل    عمرو أديب عن جلسة أوبر أمام البرلمان: احترموا مشاعر المصريين    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    أيمن يونس عن فوز الأبيض بالكونفدرالية: «الزمالك استعاد هيبته»    هيا نقرأ معاً.. قصور الثقافة تشارك معرض زايد لكتب الأطفال بفعاليات وورش إبداعية    لبيب: جمهور الزمالك كلمة السر في الفوز بالكونفدرالية وفخور بتهنئة الرئيس    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    جماهير الزمالك تحتفل بالكونفدرالية أمام مقر النادى بالشماريخ    حسام وإبراهيم حسن يهنئان نادي الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    شيخ الأزهر مغردا باللغة الفارسية: خالص تضامننا مع إيران    الشرق الأوسط بات على شفير الهاوية.. ومقاربة واشنطن المضلّلة    الأمم المتحدة: ما يحدث في غزة تطهير عرقي أمام العالم    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    العراق: المفاوضات مع الشركات النفطية الأجنبية بإقليم كردستان لم تحقق أي تقدم    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    مستشار اتحاد الصناعات: على الدولة إعادة النظر في دورها من مشغل إلى منظم    مقرر لجنة الاستثمار بالحوار الوطنى: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية    خبيرة ل قصواء الخلالى: نأمل فى أن يكون الاقتصاد المصرى منتجا يقوم على نفسه    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عمر الشناوي: لو تم تجسيد سيرة جدي سيكون الأقرب للشخصية إياد نصار أو باسل خياط    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    تقرير رسمى يرصد 8 إيجابيات لتحرير سعر الصرف    النائب أحمد الشرقاوي: قانون إدارة المنشآت الصحية يحتاج إلى حوار مجتمعي    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد اللباد: التوقف عن الدهشة هزيمة
نشر في أخبار السيارات يوم 25 - 05 - 2019

أياً كان حجمك ستشعر فى حضور أحمد اللباد بالضآلة، وأنك «جاليفر» الصغير المغلوب على أمره، فى بلاد العمالقة، وعليك أن تحترس فقد يسقط عليك فجأة أو يلكزك، فتنكسر ويختلط صفارك ببياضك داخل قشرتك. الضخامة هى عنوان اللباد، ضخامة البنيان، ولكن كذلك، وهذا هو الأهم، ضخامة المشروع، وانفتاحه على معنى أوسع من ذلك المعنى البسيط والمُخلِّ الذى حصروه فيه: «مصمم الأغلفة»، أحمد اللباد ليس مصمم أغلفة، ليس خبير جرافيك، ليس فوتوغرافياً، ليس رساماً، ليس مثقفاً قادراً على طرح أفكار، وإنما مزيج رائع من كل هذا، مزيج من «التواصل البصرى» المصنوع بمقادير ونسب هو فقط من يعرفها، والمزيج هو سره الخاص، الذى يبقيه على مسافة كبيرة من كثيرين، جيدين، ومُقلدين.
خدم اللباد الثقافة المصرية، ونقلها من مرحلة السكون إلى أجواء حرية فنية غير مسبوقة، وقد اختلسوا أيقوناته وأشكاله، اقتبسوا حالته، ولكنه، فى كل مرة يفعلون هذا، يعود بحالة جديدة، مثلما عاد مع موسوعة «وصف مصر»، بأغلفة موغلة فى الجمال والعصرية والعتاقة، وشخص مثل هذا، فنان بحجمه، لديه أفكار تخصه عن الفن، عن الحياة، عن نفسه، أفكار يمكن أن تضىء لنا مفاتيح لقراءة هذا الجمال المتجدد الذى ارتبط به، وصار «ماركة» تخصه وحده.
لست مصمم أغلفة.. وأعمل على مشروع أكبر هو التواصل البصرى
واللباد لا يترك مساحة، يسمح فيها لنفسه بالتقصير فى كل خطوة يخطوها، فى بحث العمل وإنتاجه وتنفيذه، وربما هذا نوع من الوسوسة، والوسوسة جزء من التأنيب، والتأنيب مُعذِّب حتى ولو كان الجميع يقولون لك إن نتيجة ما تفعله فارقة بشكل ما، يقول: «أنا أحتاج ذلك الرأى الإيجابى بكل تأكيد، وأطمئن به، ولكن الأهم أن أكون أنا شخصيًا قد آمنت تمامًا قبلها بأننى بذلت الجهد والوقت الكافييْن فعلًا قبل أن أُطلق سراح العمل، مجرد إحساسى بأننى لم أقم ب «واجبى» هو عذاب ما بعده عذاب، «الواجب» المذكور هنا لا يعنى معاناة، رغم بديهة بذل الجهد فيه، بالعكس، هو إلحاح فيه من الطفولة والعند والانبساط أكثر، أعنى أننى لا أسامح نفسى على تضييع أو ابتسار فرصة كانت للإيغال أكثر فى الاستمتاع، والحصول منها على نتيجة أبعد، بحفر لمسافة أعمق، أو بممارسة تفخيخ أكثر، أو حتى بترسيخ لبعض الطرق التى أعتقد أنها لازمة الاكتمال والترسيخ. لكل هذا أنصاع لذلك «الواجب» باستسلام كامل، وبامتنان حقيقى». لا يترك اللباد ثغرة للوم نفسه، فى كل ما يفعله، فى صناعة الكتاب والرسم والتصميم الجرافيكى. اللباد ليس مصمم أغلفة: «التصميم جزء من مشروع أكبر، سمِّه: التواصل البصرى». لقد بدأ اللباد بالرسم ودراسته والتخصص فيه، وتشعب بالبحث، وأصبح شغفه وعمله فى الجرافيك بمعناه الواسع الذى يشمل الوسائط الجرافيكية المتنوعة: الرسم، الفوتوغرافيا، والخط العربى، الشعارات (اللوجوهات)، وتصميمات المطبوع التحريرى بكل تطبيقاته مثل وضع التصميم الأساسى والصفحات الداخلية للمجلات وللكتب، وكذلك الملصقات ونظائرها، والتيبوغرافيا القديمة والحديثة بشكل عام، وغيرها، وبالتالى لم يعد الموضوع مرتبطاً بتخصص واحد محدد فقط، لكنه مرتبط بالسياق العام للتواصل البصرى.
يعود اللباد ليفسر أكثر فى معرض تدفقه عن الحديث عن «الواجب» البديهى كما يقول، ويكمل بأنه فى فترة سابقة من عمره كان ذلك «الواجب» يختلط بمعوق آخر راسخ فى تكوينه، وهو «الوسوسة»، وتلك نقرة أخرى، فتلك الوسوسة سطوتها مريعة ومُعطِلة: «خلقها الله لهذا، لكن لو اعترفت بها، لو حايلتها، واستملتها لجانبك، ربما ستنجح فى تفادى سيطرتها وقهرها، الوسوسة تدفعك لجلد ذاتك واتهامها بالتقصير، وتؤكد لك أن أداءك غير كاف ولا مكتمل، وأن هناك ما هو أفضل من ذلك، الوسوسة لديها كثير من الطرق لإيقافك وشلِّك، بما فيها دفعك لتحويل العمل إلى مجرد إجراء. صحيح أن الوسوسة لها حقوق عليك، ولكن أنت لك حق فى الإنتاج غصباً عنها، هى لن تنزل عن كتفك، وأنت لن تتركها، العلاقة بينكما مزمنة، والحكمة هى الاعتراف المتبادل بالحق فى الوجود، وأظن أنه بعد الأربعين يحدث نوع من التواؤم والاعتراف المتبادل بينكما.. الآن لا أشعر بالذعر «زى زمان» حينما تأتى، حينما كانت تباغتنى قبل سنوات كنت أفكر أننى لن أستعيد نفسى مرة أخرى، حالياً أصبحت لدىَّ خبرة فى تمريرها، وعندى قدرة أحياناً على السخرية منها»، يضحك: «كمان الاستبياع ساعات بيكون هو أنجع سلاح فى وقت معين ضد الوسوسة».
بدون تعمق فى عملك ستكون شخصاً مُخرِّباً يحرق على نفسه وعلى الآخرين نتائج مهمة
اللباد عنده حكاية هنا: «كنت سأسافر إلى فرنسا لأول مرة فى حياتى، وكنا قبلها بيوم نزور بيت الفنان والعم نذير نبعة فى القاهرة، وكان أيضًا حجازى الرسام حاضرًا بالصدفة، وتطرق الحديث لسفرتى فى الغد، وأشار لى العم نذير بأن كان يود لو كان هناك وقت متاح ليستعرض لى بعضًا من خبرته عن تجربته فى فرنسا التى أقام فيها لعدة سنوات، وأنا بشخصيتى الموسوسة اقترحت فورًا أن أؤجل سفرى يومًا لأستمتع ممتنًا له، تدخل العم حجازى، وصاح فىّ: سافر.. سافر.. اللى يجى له فرصة سفر للمكان حلو كدا يسافر على طول، من غير ما يضيع يوم أو يأجله، وبعد لما ترجع ابقى اسمع من نذير زى ما تحب! كانت تلك الدعوة بالفعل تشبه شخصية حجازى جدًا، وتشبه تكوينه. هل تريد أن تعرف ما هى النهاية؟ كانت أن أجلت سفرى فعلًا ليوم (برغم الغرامة المالية لشركة الطيران)، وذهبت للاستماع لعمى نذير! أتذكر هذه الحادثة رغم مرور ما هو فوق الثلاثين سنة عليها، وأتأكد من أن الحلين كانا صحيحين: سواء كان التأنى للاستفادة، أو كان (الهججان) والاستبياع.. لكن نجاح أى منهما يعتمد على ممارسته بإخلاص حقيقى له، وبإيمان صادق به، وبشروطه كاملًا. أنا شخصيًا تدفعنى الوسوسة لممارسة (الاستبياع) الحقيقى أحيانًا، وأجده ناجعًا جدًا فى حالات مختلفة. بل ومغويًا بحق».
معظم وساوس اللباد لها علاقة بالشغل، يقول: «القفز السريع من خطوة إلى خطوة، وعدم تأمل النتائج، مصيبة، فى الشغل يجب أن يأخذ البحث وقته، من الخطأ أن تكتفى بالطرْق على الأبواب بدون أن تجوس فى الغرف، أو أن تفكر فى المغامرة القادمة بدون أن تستمتع بالحالية. لو قفزت سريعاً من تجربة إلى أخرى بدون أن تتعمق فيها ستكون شخصاً مُخرِّباً، يحرق على نفسه وعلى الآخرين نتائج نفيسة، أنت تقفز إلى نتيجة مظهرية، لا تستمتع، لا تكتشف، ولا تؤسس. داهية تاخدك».
يخجل اللباد من الكلام عن الكثيرين الذين يشفُّون أعماله، ويقول باقتضاب أن ذلك أشعره لفترة قصيرة بالزهو، لكن هذا الزهو انقلب إلى همٍّ: «فى البداية تشعر بالانبساط، نتيجة شعورك الأولى بسطوة أنسقتك، وحضور صياغاتك، هذا التتبع يرضى سريعًا بالتأكيد الغرور وتقديرك الكاذب لذاتك، لكن مع تكرار الأمر تنبهت إلى أن ذلك التوسع قد يحمل الضرر الحقيقى للمهنة، وأن توغل وتوسع طريقة منطق وبحث معين للتعامل مع الغلاف وصناعة الكتاب يساهم فى تنميط طريقة التعبير والإنتاج بشكل ما، والتنميط هو أعنف عدو للإبداع، والأهم أن النماذج المتكررة لن تعنى أى إثراء حقيقى للمهنة. هى لن تعنى غير أنها جهد مُبدد فى التكرار، وبالتأكيد ستفتقد الفرادة لأنها غير أصيلة ولا خاصة! وبدأت التعامل بخوف فعلى مع تداعيات ذلك التنميط والتثبيت، وأثره على الصنعة، المثير للتعجب والسخرية كان فى عدم الانتباه إلى أن هذه الصيغة الجديدة التى اخترعها كانت بدايتها مثلًا مرتبطة ببزوغ دار نشر ذات روح طليعية تشق طريقها (ميريت)، بكُتَّاب جدد، وبطريقة تفكير وذائقة مختلفين تمامًا عن المستقر فى النشر، وقدمت الدار الجديدة اختراقًا مهولًا فيما هو سائد فى الشكل والمضمون: فى وجهها وروحها البصرية، وأيضاً فى مادتها المقروءة، ولذلك يبدو مدهشاً للغاية، والأدق غريباً، ومفرطاً فى غرابته، أن تستلب دور محافظة هذه الروح بلا تدقيق، وتحاول بتهافت نسخ التجربة، تلك الدور المستقرة التى تنشر الأدب المستقر، الدور التى تعفَّنت من فرط استقرارها، وهى غافلة تمامًا عن أن لهذا الشكل الجديد قيمة بصرية مكافِئة لتجارب كتابة حداثية. صدقنى لو قلت لك إننى أشعر بخيبة حقيقية عندما أتصور أن تأثير العمل سيكون مجرد تنميطً، لا أن يكون على الدوام جزءاً من تشكيلة تنوع متصاعد، لكن الجميل والمبشر هو انتشار صيغ جديدة تبحث عن الترسيخ، يساعدها ولله الحمد اقتناع عدد كبير من مسؤولى دور النشر بأهمية الغلاف وقوة دوره، ربنا يهديهم أكثر وأكثر، ويحمون ويفردون المساحات أكثر لفنانى الأغلفة الأبطال، والمرهقين بحثًاً عن أى سنتيمتر زيادة».. ويستطرد اللباد: «وبالمناسبة أحب أيضًا أن أوضح نقطة عكسية دائمًا ما أنبه نفسى إليها، ولا أخجل من مصارحة أهل (طائفتى)» بضرورة اعتبارها، وهى فضيلة التواضع، وبالذات وأن ذكاء القارئ لا يرحم أى تكلّف مجانى، فالغلاف بالطبع ترس مهم من تروس الكتاب، وقد يكون ترسًا أساسيًا فعلاً، لكنه كترس لا يعمل منفردًا أبدًا. واللباقة فى حضوره واجبة جدًا، وكذلك فى تصوره عن نفسه وأولويته. تُنفّر المبالغة بشدة فى التعامل مع الغلاف، ويبعد (الحزق) والتعقيد المُسف فى صناعته بقدر قد يكون أكثر سلبية من الاستسهال فى تصميمه أحيانًا. هناك مشهد لا أنساه من فيلم فكاهى فرنسى شاهدته زمان، لا أتذكر منه غير المشهد التالى: ممثل مسرحى ناشئ يرى نفسه مظلومًا، ويبحث بجنون عن أى فرصة لاستعراض مواهبه، ويحصل أخيرًا وبشق الأنفس على دور كومبارس فى مسرحية، مهمته فيها أن يكون حاجبًا فى بلاط ملك قديم، ويقول فى ثانيتين جملة مقتضبة واحدة، أظنها: حضَرَ الوزير سيدى الملك، أو ما يشبهها.. انتظر الممثل المحتقن يوم العرض وهو يضمر فى نفسه خطة.. وساعة دخول الوزير، يتقدم الممثل بمبالغة رهيبة بعيدًا عن مكان وقفته الثابت، وسط ذهول الجميع، ليصبح فى صدارة الخشبة، ثم يهتف بصوت صادح، وببطء مريع: «حاضااار الوااازييير سايدييى المالييك»، ثم ينزل على ركبة ونص ويرفع ذراعيه وهو ينظر للسقف ويعيد هاتفًا: حاااضاار الوازير.....، ثم ينام متمرغاً على الأرض وهو يصرخ بنفس الجملة وبنفس تطويلها المُخل.. تعرف، أنا باضحك عليها كلما تذكرتها حتى الآن. أنا هنا طبعًا لا أضاهى بسذاجة دور كومبارس بدور الغلاف، لكنه مجرد نموذج ساخر مبالغ فيه أسوقه كمثال. لذلك فمن الأسئلة الأساسية الدائمة لنفسى فى معرض تقييمى النهائى قبل تسليمى لأى منتج أقدمه، بالذات المرتبط منه بصناعة معقدة، وبعناصر أخرى، مثل أغلفة الكتب، وما فى عرفها، هو سؤال نفسى بنفس القلب المتوجس كل مرة: هل هناك أى شبه فى أدائى فيه بينى وبين أداء هذا الممثل أم لا؟ أنا هنا لا أقصد التعقيد البصرى أو اختصاره فى العمل، لا، أنا أقصد تحميل الشغل بتلك الروح المؤسفة فى أى شكل أو صورة».
مع تقدمه فى السن صار هادئاً، لكن ذلك الهدوء لا يعوقه عن البحث، ومحاولة الاكتشاف، والدهشة، من يتوقف عن الدهشة، كما يؤمن، معناه أنه يقترب من الموت، الدهشة هزيمة كاملة، والعجز ليس التقدم فى السن، ولكن التوقف عن الاندهاش، ولذلك لا يستكين أبداً إلى التجربة الأولى مهما بدت مغرية، فهذا، فى تقديره، يجعله شخصاً هاوياً، والهواة يفرحون بالنتيجة الأولى، يعلق: «حتى لو رأيت أنها مكتملة فليس معناها أنها الأفضل، سرعة الحصول على النتيجة فى معظم الحالات خطرة، وتشبه الهدية التى تحصل عليها فى لعبة (البخت)، لو ظللت على هذا المنوال فأنت لن تتحول إلى محترف ومنتج حقيقى، بالذات لو كنا نتحدث عن الفن، أو أى إنتاج فيه خلق، لا يوجد أشخاص يمكنهم أن يديروا لك حياتك، وأن يوجهوك لتفعل كذا أو لتكف عن كذا، انتظار إدارتك من قِبل شخص آخر من أسوأ الأمور، وكى تكون بنى آدم عليك إدارة نفسك بجدية، وأيضًا بتقدير حقيقى لها».
الوسوسة لديها كثير من الطرق لإيقافك وشلِّك وتحويل عملك إلى مجرد إجراء
يشعر اللباد بالسعادة حينما يزيح قوى قديمة متهاوية، رغم قصورها عن التعامل مع العصر أو الحساسية الأحدث، كطرق تفكير أو تعبير أو تواصل بالية مستقرة بفعل الكسل أو الاستمراء فقط، وليس بحكم أحقيتها بالفعل، ويفخر بالتصادم معها، أو احتلال ما يمكن من أماكن كانت تحت سيطرتها، يُخضعها لإرادته وما يتصوره أكثر حداثة واستحقاقًا: «الرتابة قاتلة فى كل شىء، فى الموسيقى والأدب والسينما، وحتى فى كرة القدم، الحياة الحقيقية قائمة على بذخ التبادل والتصادم والبذل والاستقبال، وليست موجة واحدة توجيهية، والشكلانية لن تستمر أبداً، لأنها لا تُعبِّر عن روح، إنها أقرب إلى شىء ترويجى، والفنان قليل الحيلة يستسلم لإغراء مضمونيتها، لكنه بالفعل وعلى المدى حتى القصير لا ينتبه لفداحة استسلامه هذا، وسيخسر للأسف فى النهاية كل شىء».
اللباد الكبير واللباد الصغير فى تونس
ميراثه من أبيه الفنان العظيم محيى الدين اللباد ليس اجتماعياً ولا يتعلق بالجينات والبيولوجيا فقط، ولم يكن كذلك نتيجة المراقبة، مراقبته له لسنوات فى البيت والمرسم، داخل الغرف وفى الشارع، خارج الكتب وعلى أغلفتها وبين دهاليز صفحاتها الداخلية وتنظيم سطورها ورسوماتها وبياضها، وقد كان محظوظاً ولا شك بمرافقته، وصداقته، كان صديقاً وأخاً وصنواً وقريناً وأباً وحبيباً، يقول: «جزء من فقدى له فقدى لصديق، هذه هى أقرب كلمة تُعبِّر عن علاقتنا، ربما تبدو مبتذلة، لكنى لا أجد كلمة أخرى أقرب وأدق، لقد تعاملت أكثر من 30 عاماً هى عمر احترافى، مع فنانين ومثقفين ومنتجين للفن، ولكن محيى الدين اللباد وحده كان الأقرب إلى المخلص الحقيقى، ولن أشعر بالخجل لأننى أقول ذلك، أقوله الآن بملء فمى، لأنه مات خلاص، أنا لم أقابل شخصاً مثله عاش حياته كما يرسم، كما يكتب، كما ينقد، كما يقول رأيه فى كل شىء، كما يُعبِّر عن عقيدته الإنسانية، لم يتبدل فى أى موقف، لم يكن إعجابى به فقط كأب، ولكن كنموذج استثنائى فعلاً، ونتيجة إعجابى به تلك أننى كنت، ولا أزال، أتمثله أحيانًا، بالأخص فى التفاعلات الأخلاقية، ولا أشعر بالكسوف حينما أكتشف أننى تصرفت على طريقته فى هذا الأمر أو ذاك فعلًا. كما أن الوسوسة، منها لله، جينات خالصة منه».
يقرأ اللباد العمل لتصميم غلافه، ولو اضطر للتعامل مع أكثر من مخطوط يفصل بينها، العمل ينكزه ويلكزه، ويستجيب له بعد قليل ويفتح معه حواراً، والأمر لا علاقة له بالجودة، فبعض الأعمال تفتح معه حواراً بأسرع ما يمكن ومن الصفحات الأولى، رغم أنه لم يكوِّن انطباعاً نهائياً، بعْدُ، عن جودتها، وقد أصبح صاحب خبرة خاصة فى استبصار روح الأعمال بسرعة نسبيًا: «الجواب بيبان من عنوانه كذلك». يستدرك: «لكن استقبال الرسالة يأخذ وقتاً أطول من التعبير عنها، والفترة الطويلة فى الاستقبال تعنى أن الشغل يكون سهلاً، الوقت الطويل معناه أنك تتأكد من استلام الرسالة، وأنك لم تترك تفصيلاً بدون أن تتمعن فيه، وتشتبك معه، هنا تبدأ المتعة، بعد مشقة استلام الرسالة، أطويها وأضعها تحت إبطى وأعبر بها إلى العمل، وأثناء الشغل أتحرر تماماً، أمرح وأمزح وقد أعادى الكتابة نفسها.. والعداوة هنا إيجابية بمعنى الترصد الحميد المحب، ومع إن قلبى فى الأساس يميل للكاتب، هذا الذى حمّلنى الأمانة وأسرنى بها، لكنى أتنقل بلا تورع من صف الكاتب لصف القارئ وبالعكس، وأنا كذلك مش ترجمان، ولا أمنح القارئ العمل فى كبسولة، وإنما أقدم له رائحة أساسية للنص، وقد تكون حتى إشارة ليست حاسمة، دعوة، الغلاف هو دعوة للاشتباك مع النص، ومن أكثر الأخطاء فداحة أن يتصور المصمم أن مهمته هى التعبير الكامل عن النص، ففى هذه الحالة سيخسر الجميع، الكاتب والقارئ والنص، وبالتأكيد نفسه».
لو كان العمل رديئاً بالكامل لا يستطيع التعامل معه، لا بد من توفر الحد الأدنى للجودة، ربما تكون الكتابة غير عظيمة لكن بها محاولة جادة وإخلاص، وهكذا سيقبلها، وقد صارت لديه إمكانية حالياً، أكثر من أى وقت مضى، على اختيار النص، لكنه لا يمكن أن يقبل بعمل يصل إلى حدود الفضيحة: «لا أعتقد أننى فعلتها أو أننى سأفعلها»، وهو لم يكره غلافاً أنجزه، أحياناً يدقق فى أحد أغلفته القديمة، ويشعر بالغيظ، ويقول لنفسه: كان يمكن إضافة تفصيلة هنا، كان يمكن حذف تفصيلة من هناك، وهى مسألة ليست لها علاقة بعدم النضج وقت تنفيذ هذا الغلاف أو ذاك، ولكن الأمر يتعلق بعدم الاطمئنان عموماً: «فى معرض أغلفتى بأتيليه القاهرة عام 2009، انبسطت جدًا بتجربة فرجتى أنا قبل الحاضرين على كل تلك الأغلفة مجتمعة سويًا. كشف لى هذا العرض الموسع الكثير عن شغلى وعن تصرفاتى فيه لنفسى، كانت فرصة عظيمة ومفيدة ومبهجة بشكل لم أنتظره، لكنى أيضًا ضبطت نفسى أكاد أهتف من بعض التفاصيل فى بعض أغلفة قديمة: يا دى الكسوف، كان ممكن تبقى أحسن من كدا! وهذا يمكن أن يحدث لأى شخص يتصدى لعمل فيه خلق، لكنْ أنا أدرك بالطبع أن النقص فى الأغلفة القديمة ليس مخزياً أو فادحاً، وكل ما فى الحكاية أننى صرت أمتلك خبرات أوسع ومفردات أكثر».
الرتابة قاتلة فى كل شىء.. فى الموسيقى والأدب والسينما وحتى فى كرة القدم
ينزل اللباد من بيته باتجاه مرسمه وهو يبحث عن الرسائل، جسده يتحول إلى مُسجل ضخم، بينما تبحث حواسه فى جميع الاتجاهات عن الرسائل، وحينما تصله إحداها يعرف معنى السعادة: «أنت خلال حياتك تستقبل كثيراً من هذه الرسائل، وعليك أن تستلمها وتفرزها، والمعنى الحقيقى للحياة موجود فى كل شىء، لا فى التشكيل، ولا الجرافيك، ولا الموسيقى، الأفكار موجودة فى كل شىء حولنا، ماشية لوحدها، تنتقل عبر الهواء، ولا يعوقها شىء عن الوصول إليك، ومن يؤصلون للحداثة هم متفاعلون ومستلمون للرسائل، لن أجلس فى مكتبى وأصم أذنىَ وأعطل حواسى وأعمل حداثة، الحداثة نوع من إعادة الاعتبار بوجدان أنضج وأكثر تعقيداً مع الواقع، وفرادة التعبير هى نتيجة اليقظة فى استلام الرسائل، وبلد مثل مصر عنده آلاف الرسائل التى تمثل تجليات الحداثة، فليس صحيحاً أنه بلد غارق فقط فى الماضى. عليك بالسير عشر دقائق من بيتك وحتى المترو مثلًا وانظر إلى كل شىء حولك، فى وجوه الناس وملابسهم وطريقة تحدثهم ومفردات كلامهم وحركتهم وفى شكل الشوارع وأنواع الشجر وتفاصيل المدنية المرتبكة، سترى رغم الركاكة والمزاج السلفى النكوصى توق مستمر للالتحاق بالحساسية الزمنية الجديدة، مصر مرهِقة من كثرة رسائلها وتعقيدها، والصعوبة والمتعة فى استلامها والتعبير بها وعنها وإعادة تفسيرها»، يصمت قبل أن يقول: «الطمأنينة مصيبة، وأنا أكره من يتصرفون باطمئنان».
اللباد غير مهتم بتصنيفه الجيلى، يقول ضاحكاً: «لكن ها أنا ذا أعطى نفسى الحق بالتفكير فى الأمر، والقول إن شغلى كان موازياً لجيل التسعينيات، هذا جيل أفخر بالانتماء إليه، وأنا محظوظ به وبما ينتجه، جيل كانت لديه دعوة حقيقية للتحرر، دعوة وجدت صدى لأنها خرجت عبر مواهب باذخة، مواهب أفادتنى جداً»، ويضيف: «الكتابة وسيلة أساسية للمعرفة، وسبب اتجاهى للعمل على البصرى، حينما أراجع نفسى أجد أننى، حتى قبل احترافى، كنت ميالاً لفكرة تجاور المكتوب والمرسوم؛ فمشروع تخرجى مثلًا كان عبارة عن كتاب فنى، وهو شكل معروف من أشكال العمل الفنى الحديث: لمختارات من أشعار الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى، بمصاحبة لوحات من عملى مطبوعة يدويًا، والكتاب نفسه منتج يدويًا، طبعت منه عشر نسخ موقعة، كأنه كان نوعاً من التلكيك للاقتراب من الكتابة بشكل ما، الكتابة نوع من السحر، سحر حقيقى، تستمتع بها وبتفاصيلها وبإيقاعها وبفخاخها مثلما تستمع بالفرجة على الأشياء البصرية الذكية، وأنا حقيقة لست متحيزاً لأيهما أفضل، المتن أم الغلاف، الكتابة أم الرسمة؟ الاثنان قد يكونان جميلين ومتوازيين: الأهم أن الكتاب نفسه بما يتضمنه من أى سحر مكتوب وبصرى يصل بأعداد وفيرة للمتلقى.. أنا أحب هذا الوسيط (بشكل خاص)، نوع من الغرام تقريبًا، أحب كل تفاصيله بلا أى مبالغة، ويمكن علشان كدا ما اهتميتش من البداية بالتخصص فى إنتاج لوحات مرسومة للتعليق على الجدران فقط، واخترت تخصص الدراسة ليكون فى الحفر واللوحات الفنية المطبوعة فى نسخ متعددة، للاتصال بأعداد أكبر من الناس، وهو كما ترى نفس الهدف الأساسى للكتاب المطبوع أيضًا».

يشعر اللباد بأن اللقاء قد مالت كفته بشدة ناحية تصميم الغلاف فقط، لكنه يبدى تفهمه، لأن ذلك الوسيط يحمل حمولات وإحالات متشابكة تحتاج لجهد ومساحة إضاءة خاصة فعلاً، ويرجئ الحديث باستفاضة عن التطبيقات الأخرى، كتصميم المجلات والشعارات (اللوجوهات) والملصقات وغيرها، عن زمن مشاهدتها، وأسرارها، وشروطها واعتباراتها الأساسية، وكيفية تحقق شخصياتها لفرصة أخرى..
اللباد يُعرِّف الصداقة بأنها «تلك العلاقة الواضحة تحت غبار الشمس»، وكذلك «التوافق الكيميائى، والاهتمامات المشتركة»، والاهتمامات ليست بالضرورة فى العمل، وإنما فى النظرة الإنسانية للحياة، احترامها وتقديرها، ومحبتها، وليس شرطاً بالنسبة له أن يكون أصدقاؤه أشباهاً له، والنماذج التى يطرحها لأصدقائه تؤكد ذلك، هو شخص اجتماعى، بينما إيهاب عبدالحميد مثلًا يجد نفسه فى العزلة، هو رجل يتحرك وفق جدول، أما حمدى أبوجليل ومحمد هاشم فنموذجان للفوضى التى ضربت المجرَّة، لكنهم جميعاً، على أية حال، يشبهونه فى أنهم قادرون على الدهشة مثله إلى الآن. يؤيد كلامى: «الصداقة فيها حسد وغبطة لبعض قدرات فى أصدقائك غير موجودة عندك، لكن قبل الحسد هناك شروط تلتقون عليها، منها القدرة على الاندهاش وصناعة الإدهاش، والمندهشون يصبحون أصدقاء تاريخيين».
يميل اللباد بطبعه لتكسير الكليشيهات، رأسه مُنبِّه، حينما يلتقط كليشيهاً ينفجر الجرس بغيظ وصخب، وهو يستخدم الكليشيهات مع أصدقائه على سبيل السخرية منهم ومنها، أو كأنه ينبههم وينبه نفسه، بشكل غير مباشر، إلى خطورتها الداهمة المفزعة، يقول لأحدهم مثلاً: «انت مجرد غلاف»، أو «انت محض غلاف»، يعلق: «لا أتصور أنك قد تصبح كاتباً كبيراً بدون أن تنفر من الكليشيه، وبدون أن تكون عدواً له».
والغلاف، وهذه قناعته الراسخة، لا يمكن أن يكون السبب الوحيد لنجاح العمل، وإنما يكون عاملاً مساعداً لو كان موفقاً، وهو يقول للكاتب إنه لولا الغلاف ما كان العمل قد نجح، ليس بغرض السخرية أو التقليل منه، ولكن يحاول تبريد سخونة الكاتب وتعاليه، وكسر رأيه عن تأثيره الفظيع، وأصدقاؤه يفعلون معه نفس الأمر، كل منهم يسعى للسيطرة، وتحطيم غرور الآخرين، والأمر تحول إلى لعبة فى النهاية، لعبة جميلة يتعلمون منها قيمة التواضع.
مع حمدى أبو جليل ومحمد هاشم
عمل اللباد كمخرج فنى فى مجلة «علاء الدين» بالأهرام، والإخراج الفنى وجه آخر من التصميم الداخلى والتشكيل التحريرى مثل صناعة الغلاف، وهو يرى أن مهنة المخرج الفنى مفيدة مثل المسرح، حيث تحصل على رد الفعل سريعاً، ولكنها كذلك مُهلِكة، تهلك صاحبها مع كل سهرة مثلما يهلك الممثل فى نهاية العرض، يقول: «كل وسيط تحريرى، كتاب، مجلة، بوستر، وغيرها، تعمل عليه بصرياً، يفتح لك سكة جديدة، ويتيح لك التحرك فى مساحة أوسع، أستطيع كذلك إضافة الفوتوغرافيا والرسم والإخراج، كلها تشكل وسائط مفتوحة تؤثر على بعضها وتستفيد من بعضها، وقد حدث لى ذلك، واستفدت من نتائج المزج»، ويضيف: «خبرات الرسم والفوتوغرافيا تُغنى الإخراج، والإخراج يثرى الاثنين، وأنا أصور بعين رسام وعين مصمم، وحينما أرسم أرسم بعين مصمم وفوتوغرافى، وأصمم بخبرة الفوتوغرافيا والرسم».


واللباد يحب السينما، فهى فى رأيه ديوان الفنون الحديثة ورأس حربتها، وهو ممتن لها بشكل خاص، بما فيها السينما الأمريكية، الجيد التجريبى فيها، وحتى المنمط منها. يحب كل الإنتاج السينمائى الجيد، لكن علاقته مثلًا بالسينما الأوروبية ضعيفة، خاصة وأن مصادرها شحيحة نسبيًا فى بلادنا، هو متحيز لأفلام محمد خان وداود عبدالسيد وخيرى بشارة، والإعجاب بهم يخشى أن يضارع حدود الكليشيه، وهو يعترف بأنه لم يحب كل أفلامهم، وحتى الأفلام التى أحبها لم يحبها بنفس الدرجة، وهو يستمع إلى الموسيقى حسب الحالة، وحسب التوقيت، فمثلاً موسيقى الصباح حاجة، وموسيقى الليل حاجة تانية، وهو يسمع كل الأنواع، لكن الفرص المتاحة له للجلوس خصيصًا وفقط للاستماع للموسيقى شحيحة، لذلك فهو يتذكر بمتعة خالصة الأوقات التى قضاها فى الحفلات الموسيقية المتخصصة سواء فى مصر، أو فى أثناء سفرياته للخارج، وأكثر ما يكرهه هو أن يُجبَر على ارتداء ملابس السهرة لحضور حفل موسيقى، كما هو لازم فى الأوبرا المصرية، ويراها مسألة غير لائقة ببلد بحجم وبثقافة مصر. أما عن الكتَّاب فيقول: «كنت فى الطفولة مولعًا بسلاسل كامل كيلانى ودار المعارف، وبكتب الشرائط المرسومة المترجمة، وبمجلات الأطفال السائدة وقتها، لكننى أحببت القراءة بمعناها الأعمق بسبب إدريس»، اكتشف اللباد يوسف إدريس وهو فى سن ال13، قرأ له عملاً فى مكتبة اللباد الكبير، وبدأ منذ وقتها فى الوثب فوق الكتب، فقرأ نجيب محفوظ حتى أنهى كل أعماله، وكذلك يحيى حقى، ثم كرَّ السبحة ليصل للأدب العالمى، وأفاده وأثر فيه آنذاك حضور خاله على حسنى، رحمه الله، كان يتعامل بجدية مع قراءاته وكأن ذلك الصغير مثقف رفيع، وكان سعيداً وفخوراً بالنقاش معه، كان ينصحه بأن يقرأ وينتظر، بأن يقرأ ولا يحكم بمجرد أن ينتهى، وهذا أفاده إفادة خاصة وعميقة، فجعله يقرأ بدون تحيزات، يقرأ ولا يقول رأيه، حتى لنفسه، ولا بسرعة، فالسرعة مؤذية. وهناك بالنسبة له كُتَّاب شبه الأيقونات، تشيكوف الذى يضعه فى أعلى نقطة، ويقول بتأكيد إن الدنيا تغيرت حرفيًا بلا أى شك بعد ظهوره، وجوده وكتابته كانا حدثاً كونياً جللاً حقيقياً بلا مبالغة، وماركيز وأسلوبه المبهر المزلزل، وسحره الذى لا يفارقه، بورخيس فى سن متقدمة، ومحاضراته النثرية المهولة فى معنى الكتابة والمقصد منها، لطالما وضعه بورخيس فى حيرة لذيذة، وهو كذلك يحب زوسكيند وروايته الفريدة «العطر»، وبهذه المناسبة لا يفوت الفرصة ليقول إن روايته الأخرى «الحمامة» لم تعجبه، بل إنه شعر بالملل منها رغم قصرها الشديد، أما الثابت والمتجدد دومًا بالنسبة له فهو محفوظ، المعلم الذى لا تنضب بئره، ولا يقْدَم إنتاجه أبدًا، ويبقى صاحب سر مُعجز فى إنتاجه يشبه أسرار المصريين القدماء.. لكنه يرى أيضًا أن حكاية «الكاتب المفضل» و«نجم السينما المفضل» و«المطرب المفضل» و«لاعب الكرة المفضل» غير ناضجة، ويترك نفسه للاستمتاع بالشفرات الصغيرة المدفونة وسط ركام الأعمال الكبرى، وعنده قليل من السخرية من الفن الملحمى المتفق عليه، وطلباته من الفن مربوطة بالمتعة الخالصة وليس بالإحالات الواضحة الحادة، وأى شخص يقدم هذا النوع الدقيق من الفن، مهما كانت نبرته خافتة، يشعر اللباد بالامتنان تجاهه، سواء كان شخصاً ينتمى إلى الماضى أو يعيش بيننا الآن.
اللباد شخص لا يكف عن السخرية، السخرية هروب بالنسبة له، وهو يرى أن الرصانة الزائدة عن الحد ضد الروح الإنسانية الحقة، ومش عصرها كمان ولا وقتها، وعلى العكس هى نفسها تبدو الآن مضحكة فى حد ذاتها، والناس تخطّوا تلك السذاجة بمراحل، يضحك: «السخرية دعوة للتفكيك، وللتشكيك، حتى فيما أقوله لك الآن»، ويضيف بجدية: «فكرة اليقين مقلقة، لست ضد الثقة لكنى ضد اليقين، اليقين ضد فكرة التجاور والفن، والسخرية تضمن لك تقديم عملك بعيداً عن الطمأنينة الكذابة».
اللباد كان يتعامل مع ليلى باعتبارها فنانة زميلة
واللباد اختبر مشاعر الأبوة العظيمة مع ابنته ليلى، وأى عملاق لديه نقطة ضعف، ونقطة ضعف اللباد هى ليلى: «بنتى أجمل بنت فى العالم»، وهو ممتن للحياة أنها منحته كائناً من الجنس الجميل، غير أمه، يحبه بشكل غير مشروط، يقول بتأثر: «هذه هبة لا يملكها الجميع، وهناك رجال يبذلون أعمارهم ولا يجدونها، هذه الفتاة الرقيقة تمنحنى رضا عاطفياً مهولاً»، وهو يرى أن هناك سبباً آخر لتوطد العلاقة بينهما غير فكرة الأبوة، أنها ترسم، وهى موهوبة جداً، ولا يستطيع منع نفسه عن شكرها، يشاهدها وهى ترسم باستمتاع شديد، فيستمتع بدوره، وهذه الأسرة يبدو أنها خُلقت للفن، والجمال انتقل عبر الجينات من اللباد إلى أحمد إلى ليلى، يقول: «جدها كان يستفيد منها، رأى رسمة لها وتأثر بها، واستخدمها، بشكل أدق أعاد رسمها فى عمل له هو، ثم ناداها ونادانى، وقال لها وهى يريها الرسمة بفخر: أنا أخدت دى منك، كانت علاقتهما علاقة ندية، فنانين مع بعض»، ويقول: «لم أكن قادراً على استخلاص مشاعر الأبوة ولو من عشرات الأعمال العظيمة، وقد منحتنى ليلى إياها ببساطة، إنها مصدر أساسى للدهشة وإعادة التعرف على حياتى نفسها».
وأقول ضاحكاً: «مالك متأثر على غير العادة؟!»، فينهض وتهتز جدران المرسم، وتتحرك اللمبات، وترتعش الإضاءة، وتطير الأوراق، وترقص الشبابيك، بينما يقول وهو يقترب منى وكأنه سيهجم علىّ،َ فأشعر بفزع حقيقى: «اركع ياض واحترم نفسك.. دا انت محض غلاف»!
قلبى يميل للكاتب الذى حمّلنى الأمانة لكنى أنتقل بلا تورع من صفه إلى صف القارئ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.