استضاف المجلس الأعلي للثقافة الأسبوع الماضي، مناقشة كتاب »نجيب محفوظ بختم النسر» للكاتب الصحفي طارق الطاهر، أدارها د.محمود الضبع، وشارك فيها الكاتب محمد سلماوي، الناقدة اعتدال عثمان، ود.محمد سليم شوشة، بحضور حشد كبير من المثقفين والإعلاميين وقيادات وزارة الثقافة. شهد اللقاء أول ظهور رسمي للدكتور هشام عزمي، رئيس دار الكتب والوثائق القومية، عقب صدور القرار الخاص بتوليه منصب أمين عام المجلس الأعلي للثقافة، والذي وجَّه في بداية حديثه تحية وشكر للدكتور سعيد المصري، الأمين السابق، مؤكدًا أنه أحدث »نقلة» يشهد له بها كل منصِف، وعن نجيب محفوظ قال: لعله من حسن الطالع أن يجيء احتفالنا اليوم لمن له في نفسي مكانة ومن كان استغراقه في خصوصيته ومحليته هو نافذته لشهرته وعالميته، العظيم نجيب محفوظ، فمازلت أتذكر ذلك اليوم الخريفي البعيد في أوائل السبعينيات حينما اصطحب الوالد صغيره إلي الفجالة ليقتني له هدية بمناسبة عيد ميلاده الحادي عشر، كانت الهدية مختلفة، لأن الرائج ساعتها أن تكون الهدية دراجة أو ساعة أو قلم »باركر»، لكنه الصغير تجول بين الرفوف ليختار عناوين ثلاثة، لازال يتذكرها عن ظهر قلب؛ »عبث الأقدار»، »كفاح طيبة» و»رادوبيس»، ويذكر أنه قد انتهي منها في أسبوع ليصبح نجيب محفوظ منذ تلك اللحظة مؤلفه المفضل وكاتبه الأثير. وقبل أن يعطي الضبع الكلمة إلي طارق الطاهر، قال: أعلم بشكل شخصي أن الطاهر في هذا الكتاب تجاوز فكرة العمل الصحفي إلي المحقق والباحث والمنقِّب عن رؤية ووجهة نظر. أما الطاهر فلم يلقِ كلمة طويلة، وإنما اكتفي بتوجيه الشكر إلي أربعة أشخاص لولاهم ما كان لهذا الكتاب الخروج إلي النور، وهم: د.إيناس عبد الدايم وزير الثقافة، د.هشام عزمي بصفته رئيس لدار الكتب والوثائق القومية، د.نيفين محمد رئيس دار الوثائق، ود.خالد عبد الجليل رئيس المركز القومي للسينما. استطرد د.محمود الضبع مشيرًا إلي أن وثائق مصر الموجودة خارج المؤسسات الرسمية أكثر من الموجودة داخلها، وأضاف: ذلك ليس عيبًا، لكن ما لدينا من وثائق يفوق الوصف، ومازلنا نتفاجأ بوثائق جديدة تظهر للكثيرين. ثم انتقلت الكلمة للكاتب محمد سلماوي، فقال: نحن بصدد كتاب ليس كغيره من الكتب، غريب الشأن، عبارة عن إعادة نشر لملف وظيفي يتضمن طلب أجازات وقرار تعيين وقرار تحقيق وأشياء من هذا القبيل لم يفكر أحد في السابق أن يجمعها، ولم يفكر أحد في قيمتها، لكن الحقيقة أنه أضاف كثيرًا للمكتبة العربية، لعدة أسباب؛ أولها أننا ننساق وراء أن نجيب محفوظ أديب عالمي لكننا ننسي أنه موظف أيضًا، وهذا جزء أساسي من تكوينه وحياته الذي أثر في أدبه، فمحفوظ استمد من حياته الوظيفية وعمله الكثير من شخصيات رواياته. واستكمل سلماوي: هذا الكتاب وهذا الملف المليئ بأختام النسر والأوراق الرسمية التي تحتاج لنظرة فاحصة مثل نظرة طارق الطاهر الذي يدرك أهميتها وأهمية جمعها. قد يبدو الكتاب جافًا لأنه يضم العديد من الوثائق والأختام، لكن من شأنه أن يفيد الباحث في أدب وشخصية نجيب محفوظ، ويوضِّح لنا لأول مرة لماذا انتقل من الجامعة إلي وزارة الأوقاف ثم إلي وزارة الثقافة، كما أنه مسلٍ للغاية ووردت به بعض النوادر والطرائف التي لا يمكن أن تغيب عن القارئ. وفي نهاية كلمته اقترح محمد سلماوي، لما لهذا الكتاب من أهمية، إصدار جزء ثانٍ منه يضم فترة عمل محفوظ في مؤسسة »الأهرام» منذ عام 1971 وحتي وفاته 2006، حيث يمتلك سلماوي الكثير من الخطابات المكتوبة بخط يد محفوظ وهو علي استعداد تام بأن يمد الطاهر بها، مشيرًا إلي أن ختم »الأهرام» يعامَل معاملة ختم النسر. وجَّه الضبع سؤالا لسلماوي حول الأشرطة المسجَّلة التي بحوزته ولم تُنشَر بعد، موضِّحًا أن المكان الذي يجب أن توضع فيه الآن هو مركز نجيب محفوظ، فردَّ عليه سلماوي ببعض الانفعال: اسمح لي من هذه القاعة وبهذه المناسبة أن أوجِّه نقدًا لجميع وزراء الثقافة المتتالين منذ رحيل أديبنا الأكبر نجيب محفوظ في 2006 حين صدر قرار من الوزير فاروق حسني بإنشاء متحف له، وحتي الآن لم يتم إقامته. طلب د.شاكر عبد الحميد الكلمة للرد علي انتقاد سلماوي، بصفته وزير سابق للثقافة، فقال: يجب الأخذ في الاعتبار المدة التي قضاها كل وزير في المنصب، فأنا توليت خمسة شهور، وهناك من ظل شهرًا أو شهرين. تلك ليست القضية. ما أود التأكيد عليه أن المكان الذي اختير ليكون متحفًا لنجيب محفوظ لا يليق باسمه أو قيمته، فتكية أبو الدهب مبني مهترئ وآيل للسقوط، ولذلك أدعو، من موقعي هنا، لإنشاء متحف لنجيب محفوظ يليق به وفي مكان يصلح لذلك. وبدوره عقَّب د.هشام عزمي قائلًا: نحن لا نمتلك رصيدًا كافيًا من التاريخ الشفاهي وسبقتنا دول كثيرة جدًا. التاريخ والتراث ليس ورقًا مكتوبًا ومطبوعًا فقط، وإنما جزءًا كبيرًا من تاريخ الأمم عبارة عن شهادات لأفراد وقامات، وقريبًا جدًا ستعلن الهيئة العامة لدار الكتب عن مشروع كبير بعنوان »ذاكرة الرواد» سيتم فيه التسجيل مع كل رواد الوطن في كافة المجالات، لأنه لا يليق أن ننتظر حتي ترحل تلك العلامات لكي نبدأ في توثيق ما قاموا به وأنجزوه. عودة إلي المناقشة النقدية لكتاب »نجيب محفوظ بختم النسر» قالت اعتدال عثمان: يقدِّم طارق الطاهر سيرة محفوظ الوظيفية عن طريق ما يمكن أن نطلق عليه السرد التوثيقي أو التوثيق السردي، ببنية هيكلية مشوقة ترسم تلك المسيرة بعناية وإحكام من خلال سبعة فصول متتابعة ومتشابكة، وفق خطة استخدم فيها الطاهر مهارته المهنية في تحرير التحقيق الصحفي الاستقصائي الموسَّع، اعتمادًا علي مصادر موثَّقة. أعقبها د.محمد سليم شوشة قائلًا: في ظل الحديث عن غياب متحف نجيب محفوظ فإنني أجد في هذا الكتاب متحفًا لمحفوظ الموظف، الذي حرص علي وظيفته وعمله حتي النهاية. يبدو كرواية أو قصة تتبع شخصية نجيب محفوظ الطفل من البداية، ثم كل مراحل عمله تقريبًا في ثلاث جهات مختلفة، تنبع أهميته من كونه يبحث فيما وراء الكتابة وما حول المشروع الأدبي لنجيب محفوظ، وتخرج عن الدائرة الأكاديمية التي تبدو مستهلكة ولم تمكننا من استيعاب تجربته بكاملها حتي الآن. مع فتح باب المداخلات عادت الكلمة للدكتور شاكر عبد الحميد، الذي تحدًّث عن الطاهر قائلًا: أتذكره حينما كان طالبًا مشاكسًا في البحث، وسعيد أن أراه اليوم رئيس تحرير وأتصفح منجزه عن نجيب محفوظ الذي يتضمن مدخلًا جديدًا في قراءة الإبداع الأدبي. وأشار عبد الحميد إلي أهمية الكتاب وسعيه لإثبات أن محفوظ كان موظفًا جيدًا، والذي يوضِّح جوانب كثيرة من شخصيته تلخِّص الروح المصرية. اتفق د.خالد عبد الجليل مع ما قاله د.شاكر، مؤكدًا أن الكتاب يظهر جانبًا مختلفًا تمامًا لنجيب محفوظ المبدع الذي يعرفه الجميع من خلال أدبه، ومشيرًا إلي أن الجزء الثاني من الكتاب يستكمل الصورة، معلنًا أنه اتفق مع طارق الطاهر لإصداره العام القادم، في مهرجان الإسماعيلية أيضًا، حول ملف نجيب محفوظ في الرقابة ومؤسسة السينما. مضيفًا: إنه عالم شديد الإمتاع يحتاج لقراءة سيكولوجية. ومن جانبها قالت د.عواطف عبد الرحمن: التناقض بين شخصيتي المبدع والموظف هو ما خلق حالة من الاستغراب والدهشة، لكن الحقيقة أن محفوظ لا يجمع بين نقيضين، وإنما هو شخصية مركبة نتاج الحضارة المصرية المتباينة المستويات، هو مبدع ملتزم متعدد الأوجه. ولفتت د.عواطف إلي ضرورة الاهتمام بآخرين من المبدعين مثل يوسف إدريس، الذي يستحق تسليط الضوء عليه بصورة تليق به. بينما روي الكاتب يحيي مختار موقفا طريفا جمعه بمحفوظ يوضِّح تأثير عقلية الموظف عليه، حينما نشر له رواية ضمن سلسلة »كتاب اليوم» حينما كان مشرفًا عليها، وطبع منها مائة ألف نسخة فبيعت خلال أسبوع، وحينما ذهب إلي محفوظ ليسلِّمه »شيكًا» بنسبته من الأرباح وجد المبلغ كبيرًا فردَّ عليه قائلًا: لنأجله حتي يناير القادم لأنه سينقلني إلي شريحة ضريبية أعلي.