اعتاد أن يلقي السلام عند المجيء، وعرفت بعد ذلك أنه أخبر الشاعر عزت الطيري بأن هذا الشاب هو الذي يعجل بنفاد »أخبار الأدب» من نجع حمادي، وعلي المنوال صارت الأيام، أنا سعيت لمعرفة عبد الناصر، أحد أقاربي أخبره أني أكتب الشعر، وأريد عرض أعمالي عليه، رحب عبد الناصر وحدد اللقاء في شقة كان يشغلها قصر ثقافة نجع حمادي. جلسنا واطلع عبد الناصر علي بعض قصائدي، وجاملني بالكلمات المعهودة عن النشر والكتابة، ومواعيد اجتماع نادي الأدب، قدمني بعد ذلك في حضور أعضاء النادي والشاعر عبد الستار سليم والشاعر عزت الطيري، وقراءة قصيدتين أمام الحضور. وما بين الأدب والكتابة والحياة وهمها، كانت لقاءاتنا التالية التي عمقت الحضور الإنساني بيننا، وما لا يعرفه الكثيرون أن عبد الناصر كان عضوا في فرقة الموسيقي بقصر الثقافة لفترة ما، وكان يمتلك دراجة يمسكها بيد وأنا أسير بجواره، يردد علي مسامعي قصيدة »انزفني» ونحن نسير إلي مقهي علي أطراف المدينة. في تلك الفترة اختار الأبنودي عبد الناصر وشعراء آخرين لتقديمهم في معرض الكتاب، وكان هذا اللقاء يعد بمثابة نقلة أدبية وشهادة من الأبنودي بأن هؤلاء هم مستقبل الشعر في مصر. هناك من كان يري أن الأبنودي لا يحب أحدا ولم يساعد أحدا ، وعلي هذا هاجم هذا الفريق عبد الناصر والأبنودي معاً ، ضاق عبد الناصر بكل هذا، رغم سعادته الواضحة بكل ما حدث خلال اللقاء. في ذلك الوقت انتهي الصراع تقريبا بين جماعة آمون الأدبية ونادي الأدب حاول عبد الناصر بشتي الطرق إعادة أعضاء نادي الأدب مرة أخري، وهنا ثارت مشكلات ما بين مرحب ورافض. كل تلك الأمور ساهمت في الابتعاد عن نادي الأدب وصارت العلاقات الشخصية والثنائية هي الحاكم، أو بشكل ضيق.. الشللية، حُسبت أنا علي عبد الناصر والطيري. وفي ليلة وفي أثناء قراءة قصيدة لي علي عبد الناصر، أخذ القصيدة وحولها لقصة قصيرة، اتصل بالهاتف ليسمع الشاعر عزت الطيري القصة القصيرة، صدمني عبد الناصر بأن ما أكتبه ليس شعرا وإنما ينتمي لفن القصة، حزنت ليلتها بعد أن وضع عبد الناصر نهاية لحلم للشاعر الذي كنت أعيشه، أرسلنا القصة لنادي أدباء الأقاليم الذي نشرها، وتوالي نشر القصص في مختلف الصفحات الأدبية، تخيل إنني لم أقابل عبدا لناصر، كنت سأتوقف حتما بعد فشلي في نشر قصائدي، التي هي في الأصل مشروع قصص قصيرة، لعب عبد الناصر دور الموجه الذي علمني حتي كتابة الرسائل لمحرري الصفحات الأدبية. سطع نجم عبد الناصر وأصبح يشار إليه بالبنان، رغم كل ذلك لم يتغير عن منهجه الإنساني واحترام الجميع، مجامل ومتابع لحال الأصدقاء، وعبد الناصر له صداقات من خارج الأدب والكتابة، وهي صحبة مؤثرة ولها حضور ولا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام.. الصحبة التي يجلس معها علي مقهي حسن عبداللاه، أو كازينو عبد الستار، وهم في مرحلة سنية قريبة، ياسر عبد العزيز الذي انتقل للقاهرة وكنا أثناء زيارتنا للقاهرة نلتقي به دوما في مقهي في الحي السابع، خالد شعبان، وحمادة شمروخ، ومحمد نصر، وياسر سليمان، وزمالة المدرسة التي يعمل بها. عبد الناصر قريب من كثيرين ومنفتح علي الكثيرين، لأنه يحمل روح محبة تقدر قيمة الصداقة والزمالة. عاني عبد الناصر في بداية معرفته بنوع المرض الذي امتحنه به الله، فقد سقط الكثير من نظره في تلك المرحلة التي بدأت في نهاية عام 2012 بعد أن وقع علي ظهره وهو يلعب الكرة، ظل في بيته لا يفارقه وذلك من أصعب الأمور علي قلب إنسان عاش مع الناس والشارع اغلب فترات وقته. قرر طبيب شهير بالقاهرة إجراء عملية في العمود الفقري، بمستشفي المعلمين بالزمالك. أخذناه من السيارة علي كرسي متحرك لباب القطار، ركب عبد الناصر قطار النوم لخطورة حالته، هو وأخوه، وتبعتهم في قطار آخر، لينزل قبلي بدقائق يتصل بي يطمئن علي وصولي، كان في انتظارنا ياسر عبد العزيز، لتقابلنا القاهرة بموجة أمطار شديدة، نذهب لفندق استراليا في شارع عبد الخالق ثروت استعدادا لإجراء العملية. في تلك الأيام عجز عبد الناصر تماما عن الحركة، في مستشفي المعلمين بعد انتظار يوم أو أكثر تم إجراء العملية ليكتشف الطبيب وجود خلايا سرطانية تنهش في العظام، طلب بعض التحاليل للتأكد، لم يكن عبد الناصر أو أحد منا يعلم ذلك، التقينا بأحمد الجعفري الذي أصر علي الإقامة في شقته بعمارة الايموبيليا، وفي صباح الخروج، ونحن نجمع متعلقاتنا تركنا علي رصيف مجاور علبة شيكولاته واشعات وتقارير طبية وجلباب عبد الناصر، نسيانهم وذهبنا، رجع اخو عبد الناصر للبحث ولكن هيهات لم يغضب عبد الناصر وقال بحسه الساخر مبروك عليه من أخذهم الجلابية السوداء.. كان متشائما منها. مكثنا لفترة مع التمارين والعلاج الطبيعي، أسبوعين في الشوارع المحيطة نسأل ونتعلم في مدينة الغرباء القاهرة ونحاول التغلب علي ذلك الخائن الذي بدأ يمارس هوايته في قتل الأجمل والأنقي فينا، أيام وعاد عبد الناصر إلي مدينته وبيته وأولاده، وقبل أن يطمئن قلبه اتصل ياسر عبد العزيز ليخبرني بالخبر الفاجعة ، عبد الناصر مصاب بلوكيميا الدم ولابد من الكشف، وعبد الناصر يرفض السفر لأنه لا يعرف بذلك، أذهب إليه في بيته لأخبره بضرورة السفر للقاهرة مرة أخري. نذهب للقاهرة لمركز متخصص في أمراض الدم، وتبدأ مرحلة أخري من مراحل التعب ومتابعة الجرعات، وتحويله للتامين الصحي ليكمل جرعاته، التي امتدت لشهور، وعبد الناصر يتمسك بأهداب الأمل، ويبدأ العودة لطبيعته، يمشي بدون عكاز ويعود لشوارع مدينته ماشيا علي قدميه، ينير جلسات الأصدقاء بقفشاته وسخريته وضحكاته التي تعلو وتحاصر المرض، ويمارس هوايته مع الشعر وينشط في إحياء الندوات الشعرية، وتقديم برنامج رمضاني مع جريدة النجعاوية، ويرسل أعماله للصفحات الأدبية من جديد، عبد الناصر يولد من جديد.. وداعا أيها المرض اللعين، لكن فى تلك اللحظات يطل الخائن ليخبرنا جميعًا بعودته وهذه المرة أشد ضراوة وفتكا. معهد أورام سوهاج قريب لنا، فكانت البداية أن وفر لنا د.ياسر بطيخ ود.صلاح فرغلى جرعة كيماوي، حتى لا يتأخر عبد الناصر أكثر من ذلك، بعد ظهور علامات المرض وبشراسة على تقاسيم وجهه وجسده، لكنه يتمسك بالحياة والأمل أنه سيعود مرة أخرى، وتستمر الإقامة لأكثر من شهر وحدث زخم إعلامى وصحفى وعلى صفحات السوشيال ميديا للمطالبة بإنقاذ عبد الناصر، قضى أغلب شهر رمضان من العام 2017 داخل أروقة معهد الأورام. يواجه عبد الناصر نفس الاختبار الأول بضرورة إجراء جراحة أخرى فى العمود الفقري، نفس الطبيب ونفس المستشفى، ويعود عبد الناصر للسفر أسبوعيا لسوهاج لأخذه جرعته والعودة، على هذا المنوال تسير الحياة بالشاعر، تبرز من جديد فكرة زرع نخاع شوكى ذاتي، نسافر القاهرة، لا نتحدث فى سفرنا كما اعتدنا يلازمنا السكوت، لا نتحدث إلا فى ضرورة ملحة، كان عبد الناصر ينظر إلينا يرى الحزن فى أعيننا يسألنى عن السر ولا أخبره، وهو فى أحلك الظروف يسأل عن أولادى وأحوالهم. معرض الكتاب الذى غيبنا عنه المرض العام الماضى، أنا وهو دفعة واحدة كنا مرضى ولا نستطيع السفر، وفى هذا العام أصر عبد الناصر على السفر، حجز التذاكر والفندق، لنسافر لقاهرتنا المنتظرة لقدوم عاشقيها. كل يوم وطوال مدة سفرنا نشترى القشطة التى قرأ أنها تداوى اللوكيميا الخائنة، نذهب لغرفتنا ونبدأ فى حفل التهامها لكنها لم تستطع التغلب على مرضه اللعين. موعد ندوته فى معرض الكتاب كان يوم 2 فبراير 2018 ، ليلتها كنا فى وسط البلد ومجموعة من الأصدقاء دخل عبد الناصر ليشترى سترة جديدة، لتكون هى وندوته الأخيرة فى معرض الكتاب، ولكن هذه المرة لم يكن عبد الناصر كما كان، استسلم للجلوس ولم يغريه المعرض للتجوال والبحث كما كان يفعل سابقا. بعدها نزلت أسيوط لوفاة قريب لي، ورغم مرض عبد الناصر يصر على الحضور وتقديم واجب العزاء، اتصل به بعد ذلك يخبرنى عن دور برد شديد وصداع مستمر، يذهب للحميات يأخذ بعض العلاجات، أذهب للتأمين الصحى بقنا لتخليص الأوراق الخاصة بعملية الزرع، تم إرسال الشيك الخاص بعملية الزرع لمستشفى الشيخ زايد، يذهب عبد الناصر لمعهد الأورام يتم تحويله لمستشفى الجامعة، ويدخل مرحلة جديدة وخطيرة جدا، تتسارع الخطوات وكل النتائج سيئة، نتمسك بأمل حدوث معجزة من عند الله ولكن القدر يتدخل ليضع نهاية لتلك الأحلام، لتفارق الروح الجسد المنهك للإنسان الجميل الشاعر عبد الناصر علام.